«من وجهةِ نظر الكَاتب»
فِي إحدى أيّام الشّتاءِ الملبّدة بالغيُوم؛ حيثُ تُعتصَر المدينةَ ببردٍ قارسٍ كالصّقيع، سارَت على طُول الرّصيف تلك الفتاةُ ذاتُ الأسارِير الجميلَة والشّعر الكستنائِي الّذي تخلّلته بعضُ الخصلاتِ الشّقراءِ، وقد لازمَت الأرضيّة المبلّلة جرّاء المطر بحدقتيهَا اللّتين سرقتَا نعُومة العشبِ النّدي ولونهُ، فزادَها وجهُها الطّفوليّ براءةً ولطافَة.
تماشَت ببطءٍ وحزنٍ قد غلّف قلبهَا وأماتَ نبضاتِه، مُستاءةً ممّا حدثَ آنذاكَ، وقد تمنّت لنفسِها أن تمُوت لتخلّصهم من العذابِ الذّي أخد ينهشُهم برويّةٍ، لكنّها مهمَا جرّبت الانتحارَ؛ كانت مُحاولاتُها دائمًا تبوءُ بالفشَل.
تسلّلت الدّموعُ إلى وجنتيهَا دون استئذانٍ، فأخدَت تمسحُها بظاهِر يدهَا قبلَ أن يلحظَ أمرَها أيُّ أحدٍ من المارّة، وكذَا لتطرِد سيلَ جفنيهَا وتتّضح رؤيتُها بعد أن صارت ضبابيّةً، هدّأت نفسهَا متنفّسةً الصّعداء وسطَ شهقاتِها الخافتةِ والمتتاليَة، ثمّ استشعرَت أنّ أحدًا قد وضعَ يدهُ على كتفهَا، فاستدارَت للخلفِ لتقابلهُ وهي تطأطئُ رأسها كي لا يلحظَ حُمرة عينيهَا الّتي تبعت نحيبَها، وقد استطاعَت تمييزَه من حذائهِ الّذي ألِفت رؤيتهُ يوميًّا.
«ما الّذي تفعلُه هنا؟» تساءلَت بنبرةٍ خافتةٍ لتكتُم اهتزازَ حنجرتِها، وقد انتظرَت منه إجابةً على سؤالِها بيد أنّ الصّمت شقّ طريقهُ بينهُما، وما إن أرادَت رفعَ نظرِها نحوه لتتمكّن من رؤيةِ تعابيرِ وجههِ؛ حاوطَها بذراعيهِ ثم همَس بين خصلاتِ شعرِها «لسنَا مُجبرينِ بالحديثِ لأنّ هذهِ ستكُون كفرصةٍ أخرى لنتواصلَ بها مع بعضِنا البعض».
تسمّرت بمكانِها مستشعرةً دفء العناقِ الّذي أهداهَا إيّاه، وقد أرادت مبادلته بحضنٍ مماثلٍ لكنّه كان يحاوطُها بقوّة ممّا منعهَا من أن تحرّك ساعديهَا.
تجمّعت الدّموع خلف جفنيهَا لتذرفهَا بحرقةٍ، فبالرّغم ممّا تلقّته منهُم إلّا أنّه كان الوحيدَ الّذي وقف إلى جانِبها وساندَها، ابتعَد عنهَا بعد أن أسدلَ ذراعيهِ وتأمّل قزحتيهَا اللّتان حصرتَا نُضرة الطّبيعة، راسمًا على ثغرهِ ابتسامةً باهتة.
«أعليكَ بالرّحيل بعد أن توطّدت علاقتنا الّتي نسَجناها منذُ الطّفولة يا هارِي؟» تساءلَت مجدّدًا لكنّه لم يشأ أن يُجيبها بل دنَا منها أكثر ووضعَ سبّابتهُ على شفتيهَا لتصمُت، ثمّ أردفَ بنبرةٍ رخيمةٍ فِيها مسحةٌ من اللّطف «تذّكري ما قُلتهُ لكِ، وتحلّي بالشّجاعةِ لأنّي أرى فيكِ ما لا أراهُ بالغيرِ».
طأطأت رأسهَا مخفيةً الخجلَ الّذي أكل نصيبًا من وجنتيهَا، ثمّ اقتربَ منها أكثرَ ليعيدَ معانقتهَا مُسندًا رأسهُ فوق ناصيةِ جبهتِها فهو يفُوقهَا طولًا، تأمّل السّماء الّتي استعارت أعيُنه منها لونهَا ثمّ همسَ بعدما دنا أكثرَ من أذنِها «مهمَا كان الأمرُ الّذي سيفرّقنا؛ فنحنُ سنظلّ تحت سماءٍ واحدة».
ابتعدَ ببضعِ خطواتٍ مُفلتًا جسدها ليفسحَ لها المجالَ بالتّنفس، نفثَت تنهيدةً خافتةً في حِين استرقَ نظرةً أخيرةً من تقاسِيم وجههَا النّاعم وقد تملّكها السّرور بكونِ هذا الوداعِ قد سارَ بشكلٍ أطول ممّا توقّعت.
ابتعدَ أكثرَ مُعلنًا رحيلهُ بتلويحهِ لها، وتراجعَ للخلفَ بخُطًى بطيئةٍ دون أن يستديرَ بل ظلّ يُناظرُها بابتسامةٍ ذابلةٍ اكتسحَت شفتيهِ، أمّا هي فتصلّبت بمكانِها وهِي تتأمّل أروعَ لوحةٍ فنّية قد تشهدُها حدقتاهَا الضّئيلتان، شعرُه الدّاكنُ المُتطايِر بلفحاتِ الرّياح، أنفهُ الأشمّ أقنى العرنينِ، ملامحُه الرّجولية، قزحيّتاهُ السّماويّتان اللّتان سرقتا الجمالَ بأسره وابتسامتُه السّاحرة الّتي أفشَت أسنانهُ النّاصعة؛ كانَت تفاصيلًا أخّادةً وآسِرةً قد خلقَت مشاعرَ لم تعهدهَا داخِل قلبهَا الخافِق، وعجزَت عن تفسيرِها أو قراءةِ معناها.
ابتسامةٌ دافئةٌ شقّت ثغرهَا، وقد تبدّد الحُزن الّذي كان يجتاحُ صدرها قبلَ قليلٍ، سرَحت باللاشيءِ ما إن انعطَف هارِي وتوارَى عن أنظارِها، استعادَت رشدَها وتمالكَت ذاتَها فتذكّرت أنّها قد ابتعدَت عن منزِلها لذا قرّرت الرّجوع بعد بضعِ ثوانٍ من التّفكير.
لمحَت الضّوء الأخضرَ وهُو مشتعلٌ لدى إشارةِ المرُور، لكنّها لم تشأ أن تنتظِر حتّى يحينَ دور الضّوء الأحمرِ فقد يُصاب والِدَاها بالهلعِ، كمّا أنّ الطّريق لا يحوِي الكثيرَ من العربات، شرعَت بالسّير مُعامدةً الرّصيف لتسلُك الضّفة المُقابلة، وما إن انتصفَت الطّريق دوَى بمسامعهَا همسٌ مخيفٌ «سأُعانقُك حتّى أخنُقكِ!».
تملّكتها صدمةٌ جعلَت من ساقيهَا ترتعِشانِ، غيرَ قادرةٍ على مواصلةِ السّير، وأثناءِ صُدور الهمسِ بأذنها حاولَت السيّارةٌ على جانِبها الأيمنِ كبحَ سرعتِها لكنّ بللَ الأرضِ منعَ العجلاتِ من الاحتكاكِ مع الاسفلتِ فارتطَمت بها العربةُ ليرتمِيَ جسدُها على الأرض.
_____
يُتبع
٦٠٠ كلمَة
رأيُكم بالشّهقة الأولى؟
وبالوداع الّذي دار بين البطلَة وهارِي؟
وبالحادِث الّذي تعرضت له؟
أي نقد؟
انتقاد؟
تنوِيه: قد يحتوِي الكتاب على أفكارٍ انتحاريّة، وقد لا يكُون مناسبًا للذِين لا يتحمّلون جرعةً زائدةً من الخوف.
أنت تقرأ
شهقاتُ ما قبلَ الشّرُوخ
Horrorوقُوع ألِيس بأحضانِ الموتِ كان أمرًا لم تتوقّعه من دونِ شكٍّ، فبالرّغم ممّا تلقّته من عتاباتٍ لسعت قلبها إلّا أنّه لم يشأ أن يكُون رحيمًا بها، لأنّ قلبهَا فقد عقلهُ بكلّ موقفٍ مرعبٍ جرَى لها بسببهِ. تصنِيف الكتاب: غمُوض، رعب، إثارة. تنوِيه: قد يحتوِ...