الشّهقةُ السّادسة

12 3 5
                                    

«من وجهةِ نظر الكَاتب»

كلماتُ هارِي الّتي لم تصِل لألِيس وانعطفَت إلى قلبهَا، جعلَت من هذا الأخيرِ ينزفُ ألمًا جرّاء ما حرّضها عقلُها على فعلِه منذ زمنٍ، وكان هذا أحد أسبابِ رغبتِها بالانتحارِ وهِي طفلةٌ تناهِز الثّانية عشَرَ من عمرِها، حيثُ صعدَت لغرفتِها بغضبٍ وبرودٍ عارمينِ قد اعترَيا قلبها المُثقل وكأنّ صخرةً ضخمةً تقبعُ فوقهُ، وقامت برميِ مرآتها لتتناثرَ شظاياهَا على الأرضيّة الخشبيّة، فأمسكَت الفتاةُ الصّغيرة الفاقدةُ لعقلِها؛ قطعةً من الزّجاج وقرّبتهُ من معصمِها لتذبحهُ وتنهِي حياتهَا، لكِن القدرَ كان لهُ يدٌ بأن تتدخّل والدتُها وتنقذ روحَ ابنتها الّتي كانت على حافّة الموتِ، وذلك بعدما سمعت صوتَ غرضٍ يتكسّر كالزّجاج.

استعادَت ألِيس رشدهَا بعد أن سرحَت بهذهِ الذّكرى وقلبُها يئنُّ ألمًا، وعندمًا بحثَت عن هارِي بغرفتِها ولم تجدهُ؛ أسرعَت بالجرِي لخارجِ المنزلِ، غيرَ مباليةٍ بالمطرِ المنهمِر أرضًا كشلّالِ دموعِها المنسكِب من حدقتيهَا الملتاعَتين، ركضَت بما يمكنُها متجاهلةً ألمَ ساقِها لأنّ كلّ ما كانت تصبُو إليه آنذاكَ هو أن تُصلِح خطأهَا الشّنيعَ الّذي اقترفتهُ في حقِّ من تُحب، في حقِّ الجسدِ الّذي احتواها وحاوطَها ما إن وجدتهُ يتمشّى مع درّاجتهِ على الرّصيف ويتسلّى برذاذِ المطرِ.

بلّل المطرُ شعرهُما الّذي تلاطمَ أثناءَ عناقِه الأخيرِ لها بهذا اليومِ، وقد انتهزَت صمتهُ بهمسِها بين خصلاتِ شعرهِ النّاعم متحشرجةً أطراف كلماتِها «لا أحدَ غيرَك استطاعَ قراءة ما يكتنفُه قلبِي الخافِق... دقّة، دقّتان، ثلاثة، ثمّ فقدتُ الرّقم الّذي وصلَتُ إليهِ أثناءَ سماعِ خفقانِه يومهَا، فمنعنِي انجرَافي لعقلِي الطّامس من تضميدِ الجروحِ الّتي خلّفتها عليكَ، لذا أعتذرُ لكَ يا هارِي من جوفِ قلبي، وأريدُ أن يكُون هذا عناقنَا الأخِير كَي أجدَ فسحةً أستطِيع بها أذيّة نفسِي كما فعلتُ بك، لذا عُدني بأن يكُون هذا عناقنَا الأخير».

تمالكَ هارِي نفسهُ محاولًا إيجادَ مخرجٍ يتهرّب به من هذا الوعدِ الّذي تبتغِيه، لكِن لا مفرّ قد رُسِم لهُ في هذهِ اللّيلةِ الحانيةِ الباكيَة، فوعدَها بذلِك وأنهَى عناقهُما ببسمةٍ توارَى خلفَها كلّ احتواءٍ أدفأَ به قلبهَا الملسُوع، ابتعدَت عنهُ مماثلةً سيرهُ بعيدًا عنها يومَ كان على وشكِ الرّحيل إلى برُوكلين، ملوّحةً لهُ بابتسامةٍ ذابلةٍ وشعرٍ متطايرٍ تلفحهُ الرّياحُ، وكأنّ القدر أراد أن يُناظِر بين مجرياتِ جنانيهِما اللّذيْن أخدا يهدآنِ قليلًا بعد أن خفقَا دمائهمَا بقوّة.

دخلَت غرفتهَا ببالٍ مطمئنٍّ وعقلٍ خائرٍ، بعد أن انتقمت من ذلكَ الكائن القاطِن برأسها جرّاء ما دفعها لفعلهِ لمّا كانت بعمرِ الثّانية عشَر، نظرَت إلى مكتبِها حيثُ السّوار يتموضعُ فوقهُ، فاقتربت منه بخفّة لتحملهُ وتتلمّسه، ثمّ أعادت نظرَها إلى حيثُ وجدتهُ فعثرت على ورقةٍ صغيرةٍ كُتِب عليهَا بضعُ كلماتٍ منمّقةٍ أثلجت صدرهَا وأضفَت إلى فؤادِها خليطًا من المشاعِر الّتي لم تقوى على تفسيرِها بنفسها، أهي حزنٌ، حبٌّ، ألمٌ، ضيقٌ؟...

شهقاتُ ما قبلَ الشّرُوخحيث تعيش القصص. اكتشف الآن