«من وجهةِ نظر الكَاتب»
تنقّل بينَ المحلّات المتراصّة على طُول الشّارع، حيثُ قلبُه بكَى حُزنًا دامغًا، ومشاعرُه احترقَت شوقًا كون العطبِ بها يتفاقمُ أكثر، فلم يمضِ يومٌ إلّا واختنقَت رُوحه دون وجُودِها بجانِبه، أمّا عيُونهُ الحانية فقد نزفَت ألمًا على حالِها وهِي الآن لوحدِها؛ لا أحد يقفُ معها سوى والِديها، وما وردَهُ عنها كبّل يديهِ وساقيهِ بجنازِيرٍ امتدّت إلى قلبهِ واعتصرتهُ.
توقّف عن المشيِ وتفحّص بنظرِه واجهةَ المحلِّ الّذي يُقابلهُ، حيثُ خيُوط الحمرةِ الّتي أسدلها الغسقُ قد لطّخت أرضيّة المدخلِ، باعثةً بصيصًا من النّور بأرجاءِ المتجَر، أمّا واجهتُه الزّجاجيّة فقد زيّنتها باقاتُ الزّهور ذاتُ الأشكالِ والألوانِ المتعدّدة، فبعثَت بقلبهِ مشاعرَ لانَت له بأسًى عن حالهِ.
دفعَ بوّابة المحلّ برفقٍ فلامسَت الجرسَ المعلّق أعلاهُ، ليُصدر ترنيمةً يعشقُها كلّ الأحباءِ الّذين يتهاتفُون لشراءِ الباقاتِ لتوأمِهم الرّوحيِّ، طلَب من صاحب المحلّ اقتناءَ باقتينِ، إحدهما تلفُّ زهُورًا أرجوانيّة وأخرَى نيليّةٌ كلونِ سماءِ ليلةٍ مرصّعةٍ بالنّجوم، فالباقةُ الأولى قد وقعَ اختيارُه عليها كونها تجسدّ بكيانٍ فوّاحٍ ونضرةٍ من الطّبيعةِ؛ لونَها المفضّل، متذكّرا كيف أشارت إلى ذلكَ أثناءَ جلُوسهما على مقعدِ درّاجتهِ الهوائيّةِ حذاء بعضِهما البعض ومشاهدتِهما للوحةِ الغرُوب الأليقةِ والاستثنائيّة لتردفَ بنبرةٍ شجيّةٍ «الأرجُوان، سحرٌ سارقٌ للأنفاسِ أبَى أن يكَوّن خلفيّةً للوحةِ الجنّة والنّار، فجعلهَا تتعطّش له بينمَا ارتوَت السّماءِ بهِ وعزَفت لحنَ وداعٍ خطفَ منها قُرص السّراجِ وأفقدَها لونها المُشرق»، ثمّ تسلّل النعاسُ لجفُونها وغفَت مُسندةً رأسها فوق كتفهِ العرِيض.
دفعَ ثمَن الباقتينِ وهو يشكُر البائِع الّذي أخد يُلحُّ له بكونهِ قد اختارَ زهُورًا مميّزة، ثمّ خرجَ من المحلّ وتمشّى على طُول الرّصيف، حيثُ اِلتفّ حولَ نفسهِ وهُو يستنشِقُ عبير الورودِ الّتي بين يديه ثمّ واصلَ سيرهُ نافثًا تنهيداتٍ حارّة تخفّف رجفةَ جسدِه الملتاعِ بالبردِ.
توقّف أمامَ شقّةٍ فِي نهايةِ شارعٍ من شوارعِ برُوكلِين الحالكَة، الّتي أضفَت لها الأعمدةِ المتباعِدة إنارةً ضعيفةً، فتحَ البابَ ودلفَ للداخِل ثمّ انحنَى بظهرهِ للأسفل وجلسَ القرفصاءَ ليتناولَ رسالةً وجدهَا ملقيّةً على الأرضِ، فتحهَا بخفّةٍ وأخرجَ الورقةَ ليتفقّد ما كُتب بها.
أعلمتهُ إدارةُ كليّةِ الطّب بضرُورةِ حضُوره يوم غدٍ ليجتازَ امتحانَ القبُول على السّاعة الثّامنةِ صباحًا، همهَم قليلًا وأدركَ أنّ عليهُ مذاكرةُ بعضِ أساسيّاتِ مادّةِ الأحياء، نزعَ معطفهُ بعد أن أوقدَ المدفئَة ثمّ جلسَ على كرسيٍّ يقبعُ بزاويةِ غرفةِ المعيشةِ مُقابلًا للمكتبهِ حيثُ تتموضعُ آلتُه الرّاقنة، تناولَ قصاصةً بلونِ العاجِ وثبّتها بالآلة ليشرعَ بالكتابة:
أنت تقرأ
شهقاتُ ما قبلَ الشّرُوخ
Horreurوقُوع ألِيس بأحضانِ الموتِ كان أمرًا لم تتوقّعه من دونِ شكٍّ، فبالرّغم ممّا تلقّته من عتاباتٍ لسعت قلبها إلّا أنّه لم يشأ أن يكُون رحيمًا بها، لأنّ قلبهَا فقد عقلهُ بكلّ موقفٍ مرعبٍ جرَى لها بسببهِ. تصنِيف الكتاب: غمُوض، رعب، إثارة. تنوِيه: قد يحتوِ...