الشّهقةُ السّابعة

28 3 5
                                    

«من وجهةِ نظر الكَاتب»

شقشَق طائِر السمّانِ الّذي يختبِئ بينَ أغصانِ الشّجرةِ بعدَ أن لاحَ لهُ الصباحُ، فاستدارَ آرثر ناحيَة مصدرِ ترنيمتِه الّتي لامَست قلبَه، وبحثَ عنهُ ممعنًا النّظر بين أوراقِ شجرةِ الدّلب الّتي يجلسُون تحتَ ظلالِها، وما هِي إلّا ثوانٍ حتّى وقعَت حدقتاهُ عليهِ.

وضعَ كتابهُ جانبًا ثمّ أخد يتسلّق الشّجرة، ورفاقُه أسفلَ قدمِه يضحكُون من حالهِ ويطلبُون منه الجلُوس أرضًا وأن يدعَ الطّائر وشأنهُ، لكنّه لم يأبه لنداءاتِهم لأنّ لديهِ هوسٌ فيما يتعلّق بالطيُّور والعصافِير، جلسَ على غصنٍ سميكٍ وعريضٍ ليس هشًّا ثمّ دنَا بإصبعِه ناحيةَ العصفُور الّذي أخد يبتعِد عنهُ قليلًا خوفًا من أن يؤذيهُ آرثر، إلّا أنّه أرادَ مداعبتهُ وحسب.

هرعَ العصفُور ليختبئَ بوكرِه الّذي حفرهُ بجذعِ الشّجرة، فاستاءَ آرثر قليلًا، تنهّد بخفوتٍ وطلبَ أن يعطيَهُ أحدٌ ما كتابهُ المُلقى على الأرضِ، فنهضَت أليس من علَى الأرضِ لتحمِل كتابهُ وتمدَّ يدهَا حدبهُ ليأخدهُ.

انتهَى وِيليام صدِيقُ آرثر من قراءةِ ما يحملهُ بين يديهِ فأخدت الإطراءاتُ تنهالُ عليهِ، حيثُ اتّفق خمستُهم على المجيءِ إلى هنَا ليتشاركُوا كتاباتِهم، بيدَ أنّ رُوز -قريبةُ آرثر- الّتي تكبرهم سنًّا قد تأخّرت كونَها انشغلت بأداءِ عمليّةٍ جراحيّةٍ لأحد المرضَى بالمشفى الّذي تعملُ فيه، فِي حين حضرَ كلٌّ من آرثر وألِيس وهارِي وويليام.

حانَ دورُ آرثر لتسمِيعِ قصّتهِ الّتي ألّفها لمّا كان يناهِز الخامِسة عشَرَ من عمرِه، فحمحَم قليلًا ليلفتَ انتباهَ رفاقهِ الجالسينَ على المرجِ، ويشرعَ بالقراءةِ بصوتٍ رخِيم.

[ بِـعيُونٍ حانيةٍ وحزنٍ دامغٍ شرمَت الويلاتُ أواصِر قلبِه، بعد أن حاولَ بكلِّ كبرياءٍ أن يطرِد العسعسةَ الّتي أحاطَت بسرادِقه واِلتهمتهُ، فرضخَ لشجنِه المتطاوِل وطُرحَ على فراشِ الألمِ، كي تنهشَ جمرةٌ لاذعةٌ قلبهُ برويّة، لكنّه تمسّك بخرقةٍ رثّةٍ من رداءِ الصّمودِ، علّها تُعينهُ على المُواصلةِ حتّى شأوِ الخاتِمة.

فهُو لن يُحاوِل إنارةَ قلبِه بعد أن نخرتهُ الخطايَا، وصدحَت به آهاتٌ لم يألف ترنِيمتها قِبلًا، فخالَ أنّ مشاعرهُ الذّابلة تصرخُ داخلَ فؤادِه، وأنّها هي من كَانت سبَب ذرفِهِ لشلّالِ دموعٍ منسكبٍ كنهرٍ رقراقٍ لا ضفافَ تُحاصِره.

سرحَ قليلًا وهُو جالسٌ على حافّة النّافذةِ المُوصدةِ مُنتظرًا أن يلقى نحبهُ فينمُوَ الربيعُ على قبرِه، وقد أحبّ سماعَ مقطُوعة زخَّات المطرِ الخفِيف المرتطِمةِ بالزُّجاج قبلَ أن يلتقِط أنفاسهُ الأخيرةَ بين أحضانِ الألم الّذي ما فتِئ ينبشُ قلبه الحالِك، وأوتارُه الّتي لم تعُد تعزفُ له ألحانًا متمايلةً على فؤادِه كتمايُل الشّفق بالسّماء؛ قد عُقِدت وخُرِمت باِتِّـزانٍ وبطءٍ، حتّى تمزّقت وتلاشَت مُغدقَةً ببحرِ دمائِه.

شهقاتُ ما قبلَ الشّرُوخحيث تعيش القصص. اكتشف الآن