٠١

31 9 31
                                    


عيناها بحر عاصف، قلبها دق طبول
تجلس وحيدة، كظبية صغيرة تتأمل الصحراء، عيناها تتراقصان على رقاص الساعة، كفراشة تحوم حول شمعة.

وجهها الصغير، كالقمر المكتمل في ليلة صافية، يكسوه شحوبٌ خفيف، وشفتاها ترتجفان كأوراق شجرة في خريف حزين.

خصلات شعرها الذهبي تنسدل على كتفيها كشلال من الذهب، وتختلط بدموعها التي تتساقط كحبات المطر على وجنتيها الناعمتين.

أصابعها الصغيرة تمسك بقوة بيديها، وكأنها تحاول إيقاف الزمن، أو على الأقل إبطاء سرعته. قلبها يدقّ كطبل حرب، يخفق بسرعة جنونية، وكأن العالم بأكمله يتوقف على هذه اللحظة.

تتساءل في نفسها: "قالا أنّهما سيعودان قريبا ، أم أنّي سأقضي العمر كلّه أراقب عقارب الساعة تدور بلا هوادة؟"

نظراتها تتجه من الساعة إلى النافذة، ثم تعود مرة أخرى إلى الساعة، وكأنها تبحث عن إجابة لسؤال يعتصر قلبها. تتذكر كل لحظة عاشتها معهما ، كل كلمة قالاها ، وكل لمسة من يدهما على يدها.

أحلامها تتلاشى كالصحراء في الحر الشديد، وآمالها تتبدد كالدخان في الهواء.

تشعر وكأن العالم كله قد ضاقت بها، وكأنها حبيسة في قفص من الزجاج، لا تستطيع الهرب من هذا الانتظار المؤلم.

تتمنى لو أن الوقت يتوقف، أو على الأقل يتباطأ، حتى تتمكن من استيعاب كل ما يحدث حولها. ولكن الزمن لا يرحم أحداً، فهو يمضي قدماً بلا توقف، وكأن لديه موعداً لا يمكن تأجيله.

وتظل الفتاة الصغيرة جالسة هناك، وحيدة ومحطمة، تنتظر بفارغ الصبر لحظة قد لا تأتي أبداً.

أجنحة اليأس تطويق قلبها
انقضى وقت طويل، وكأن الزمن قد توقف عند عقارب الساعة. دقائق تحولت إلى ساعات، وساعات إلى ليالٍ، والفتاة الصغيرة ما زالت تجلس في انتظار والديها. كل ثانية تمر عليها كقرن، وكل دقيقة كعمرٍ كامل.

أحلامها التي كانت تملأ قلبها بالأمل، بدأت تتلاشى رويداً رويداً، كأنها شمعة تذوب في الظلام. اليأس بدأ يتسلل إلى قلبها الصغير، وكأن أجنحته السوداء قد طوقته.

نظرت إلى النافذة، فرأت القمر يضيء سماء الليل، وكأنها تطلب منه العون والمساعدة. ثم التفتت إلى الساعة، فرأت العقارب تدور بلا هوادة، وكأنها تستهزئ بها وبانتظارها الطويل.

في تلك اللحظة، اتخذت الفتاة الصغيرة قراراً عظيماً، قراراً سيغير مجرى حياتها إلى الأبد. قررت أن تخرج من المنزل، وأن تبحث عن والديها بنفسها.

لحظة .. من الأحمق الذي سيخرج عند هذه السّاعة من اللّيل ليبحث عن أحد لا يعرف حتّى أين ذهب ؟ ليست من أرادت ذلك !! كان ذلك الهمس الخافت يتردّد في أذنها و يطلب منها الخروج ، همسات مزعجة أسوء من وسوسات الشيطان ، لم تلبث أن طغت له و مشت على خطى همساته

كانت ترتدي ثوبا بني فضفاض لكنه كان سميك دافئ مع حذاء جميل بلون بني غامق ، فتحت الباب بهدوء شعرت بذاك الهواء القاسي الذي يهبّ و يصدر صريرا مؤذيا للؤذنين ، كانت المدينة نائمة، والأضواء خافتة، والهواء بارد يصفّر كما لو كان يصرخ بطريقته الخاصّة

خطواتها الواثقة تخفي خوفاً داخلياً
سارت الفتاة الصغيرة في الشارع، خطواتها ثابتة وواثقة، ولكن قلبها كان يخفق بسرعة جنونية. كانت تشعر بالخوف والقلق، ولكنها كانت مصممة على مواجهة هذا العالم بمفردها.

لا تخرج من عقلها تلك اللّحظة حين قبّلت والدتها وجنتها ثم عانقتها ، حين ربّت والدها على شعرها بابتسامة " أنا واثق من أنّك فتاة قويّة و تستطيعين البقاء وحدك لبعض الوقت .. لن نتأخّر .. سنعود "

بدأت الفتاة الصغيرة رحلتها الطويلة والشاقة، بحثاً عن والديها. لا أحد يمشي في الأرجاء ، البقالة التي اعتاد والدها الذهاب لها مغلقة 

سارت في الشوارع الضيقة والأزقة المظلمة، ولم تستسلم أبداً. كانت تتذكر وجهي والديها، وصوتهما، وضحكاتهما.

تذكرت الفتاة الصغيرة حديقة والدتها المفضّلة ، تلك الحديقة التي كانت ملاذها الأول والأخير. كانت تجلس فيها لساعات طويلة، تلعب بين الأزهار الملونة، وتستمع إلى تغريد العصافير. كانت الحديقة بالنسبة لها عالمًا سحريًا مليئًا بالأسرار والمغامرات.

توجهت الفتاة الصغيرة نحو الحديقة، وبدأت تتجول بين الأشجار والشجيرات. كانت الحديقة تبدو مهجورة ومظلمة، وكأنها قد نُسيت منذ زمن بعيد. الأوراق الصفراء المتساقطة تغطي الأرض، والرياح تهز الأغصان، وكأنها تنوح حزنًا على ما مضى.

جلست الفتاة الصغيرة على مقعد خشبي مهترئ فأصدر صريرا يدلّ على الصّدء ، وتأملت الحديقة من حولها. تذكرت كل لحظة عاشتها فيها مع والدتها، كل كلمة قالتها لها، وكل عناق حنّن عليها قلبها. شعرت بشعور من الحنين الشديد، وكأنها عادت إلى طفولتها مرة أخرى.

نظرت الفتاة إلى الغابة المجاورة، حيث كانت الظلال تتراقص بشكل غريب. كانت تلك الغابة دائماً محل فضولها، ولكنها كانت تخاف الدخول إليها. سمعت أصواتًا غريبة قادمة من أعماق الغابة، أصواتٌ لم تستطع تحديدها. شعرت ببرودة تنتشر في جسدها، وكأن شيئًا ما يراقبها.

ترددت الفتاة لحظة، ثم نهضت ووقفت عند حافة الحديقة، تحدق في الغابة المظلمة. قلبها يخفق بعنف، وعقلها يصارع بين الخوف والفضول. فجأة، سمعت صوتًا خافتا من هناك ، صوت همسات و موسيقى .. نعم .. صوت موسيقى و ألحان و بعض أصوات بدت كأصوات حديث . ارتجفت الفتاة، وتراجعت خطوة إلى الوراء. هل كان صوت خيالها؟ أم أن هناك من يقطن في تلك الغابة ؟
ياترى ؟ هل ذهبا والدها إلى هناك ؟

" ×مَـوْطِـن الـرَّهْـبَـة× "حيث تعيش القصص. اكتشف الآن