الفصل العاشر

162 12 5
                                    

الفصل العاشر
ذكريات
شحب وجهها عندما قرأت رسالة وحيد الذي كتب بها "أنا تعبت من تجاهلك لي ولكن ليس بعد الآن فأنت سوف تأتين لي بنفسك عندما تكتشفين ما وجدته بأوراق خاصة بحمزة هي كنز حقا وخاصة بزوجك العظيم وللأسف يمكنها أن تسحقه بلحظة لذا من الأفضل أن تأتي لنتفق على ثمن الورق عندما ترغبين بلقائي فافعلي"
سقط الهاتف من يدها عندما هاجمها القيء فأسرعت للحمام مرة أخرى وعندما انتهت غسلت وجهها وجففته وخرجت للفراش حيث سقطت عليه وهي لا تعلم ماذا يمكنها أن تفعل؟ هل عليها أن تخبر زوجها؟ وإن فعلت هل سيصدقها أم يظن أنها كاذبة كالعادة أو ربما تبتزه لتحصل على المال، لا، يجب أن تخبره ويرى الرسالة وقتها سيصدقها
لم تصل لأي حل وعندما تأخر الوقت بدلت ملابسها ودخلت الفراش ولكن سرعان ما سمعت سيارته تدخل الفيلا فاعتدلت بالفراش وقلبها ينبض بقوة من الخوف ولم تعرف ماذا يمكنها أن تفعل، الخوف يقتلها ولكن..
فتح الباب ورأته يدخل وقد فك ربطة عنقه، نهضت ووقفت دون حركة فتقدم منها وطبع قبلة على وجنتها وقال "ظننتك نائمة"
خلع الجاكيت فحاولت إخفاء خوفها دون أن تنجح وهو يبتعد إلى غرفة الملابس وهي تقول "لم يمكنني النوم قبل عودتك"
خرج بملابس للنوم ونظر لها وقد بدت ملامحها متعبة وشاحبة فتحرك تجاهها حتى وقف أمامها ونظر بعيونها ورفع يده ليبعد شعرها النابض بالحياة بلونه الصارخ وقال
“هل هناك شيء؟ تبدين متعبة هل أطلب طبيب؟"
هزت رأسها وعيونها عالقة بعيونه وقالت "لا، أنا بخير، هل تناولت العشاء؟"
ظل صامتا لحظة قبل أن يقول "لا، زينب أخبرتني أنك أيضا لم تفعلي فطلبت منها إحضار عشاء لنا"
تحرك ليبتعد ولكن لسانها لم ينتظر عقلها عندما قالت "هناك ما أريد إخبارك به"
ظل واقفا لحظة قبل أن يلتفت وينظر لها مرة أخرى وينظر بنفس العيون التائهة وهو يحاول سبر أغوارها وقال "ماذا؟"
ملامحه الجامدة جعلت قلبها يزداد خوفا ودقا وربما أرادت الآن الفرار من أمامه والتراجع عما قالت ولكنها بللت شفتيها الجافتين بلسانها وقالت "وصلتني رسالة جديدة من وحيد"
اعتدل بوقفته وأظلمت عيونه الدخانية وهو يحدق بوجهها قبل أن يقول "وحيد؟"
هزت رأسها ثم مالت وأخذت هاتفها من جوار الفراش ومنحته له وقالت "نعم"
لم يترك وجهها وهو يمد يده ليأخذ الهاتف ويفتحه ويبحث ولكنه قال "لو كنت تقصدين هذا الرقم فلا رسالة به فقد حذفت"
أصابتها المفاجأة بصاعقة جعلتها ترتد للخلف لحظة قبل أن تخطف الهاتف من يده وتبحث فلم تجد أكثر مما قال بينما ابتعد هو إلى الجاكيت وأخرج السجائر وأشعل واحدة وقال دون أن يلتفت لها
“هل تخبريني بمضمون الرسالة؟"
رفعت وجهها له وقالت "أنت تصدقني؟"
نفخ الدخان بعيدا وقال "ولماذا لا أفعل ملاك؟ لوكان هناك ما تكذبين بشأنه فكان من الأولى ألا تخبريني بالأمر"
ربما شعرت ببعض الراحة ولم ترد وهو عاد وقال "هل ستخبرينني بالأمر؟"
أخبرته بمضمون الرسالة وما أن انتهت حتى ابتعد للنافذة وظل صامتا وشعرت هي بأعصابها تنهار من صمته، لا تعلم هل يصدقها؟
نادته بصوت خافت "يوسف"
كم يحب اسمه عندما تنطقه بتلك الطريقة، التفت لها فوجد عيونها تنبض بمعاني كثيرة منها الخوف، تحرك وأطفأ السيجارة ثم عاد إليها ووقف أمامها وقال "نعم"
ظلت تنظر له حتى استجمعت ما تبقى لها من شجاعة وقالت "لماذا لا ترد؟"
قال بهدوء "منذ متى تعرفين وحيد مولوكيلا؟"
كانت كالمخدرة وهي تجول بعيونه المحببة لقلبها عندما اندفعت الذكريات لعقلها فأخفضت نظراتها وقالت "منذ عامين"
رفع وجهها بإصبعه ونظر بعيونها وقال "لماذا تخفين عيونك عني هل لديك ما تخجلين منه؟"
هزت وجهها بالنفي وشعرت بغضب يجتاحها من خجلها من ذكريات حمزة وأفعاله، قال "إذن تحدثي مولوكيلا حمزة سبب كل ذلك"
هزت رأسها بالإيجاب وكلماته منحتها هدوء وراحة نفسية ولم تترك عيونه وهي تقول "عرفته من ضمن الرجال التي كان حمزة يحضرها للبيت كنت أراهم على مائدته كل يوم نفس الأشخاص وأحيانا يتبدلون"
أجلسها على طرف الفراش وجلس بجوارها وقال "كنت تجلسين معهم"
أنكرت بقوة وهي تقول "لا، أبدا لم أفعل بأي يوم كان اتفاقي مع حمزة على ذلك منذ أول يوم"
قال "ماذا كنت تفعلين؟"
أبعدت وجهها عنه وهي تنظر في الفراغ وكأنها ترى ما كانت تعيشه مع حمزة وقالت "كنت.. كنت"
ودمعت عيونها ولم تكمل ونهضت مبتعدة من أمامه وهي تمسح دموعها دون أن تكمل عندما شعرت بيديه تحيط كتفها فأغمضت عيونها لتكمل الدموع مسارها على وجنتيها وهو يعيدها أمامه فلم ترفع وجهها له ولكنه قال
“كان يستغلك للعمل بالمنزل وأعماله مقابل بقائك به؟"
هزت رأسها موافقة دون أن ترد وكأنها بل هي كانت مجرد خادمة، مسح دموعها وقال "والرجال؟"
رفعت وجهها له بالحال وقالت بصدق من بين الدموع "رفضت التواجد خارج غرفتي بوجودهم، كنت أعد لهم كل شيء قبل وصولهم وبالصباح أعيد ترتيب البيت، كنت أغلق باب غرفتي من الداخل ولا أنام إلا برحيل آخر شخص من البيت كنت، كنت أشعر"
لم تكمل واختنقت كلمات الخوف داخلها وهي تذكر مشاعر الخوف التي كانت تحياها فأدرك ما أرادت قوله وجذبها لأحضانه فأغمضت عيونها وقالت من بين الدموع "أنا لم يلمسني رجل من قبلك يوسف، كنت عذراء بليلتنا، أنا لا أكذب عليك"
وضع يده على رأسها وأغمض عيونه بضيق وقال "أصدقك ملاك"
شعرت بالراحة تسري بكل عروقها وارتاحت أكثر بضمة ذراعيه لها حتى أبعدها ومسح دموعها وقال "والعمل؟"
قالت "كان بالصدفة بعد أن انتهيت من الثانوية العامة وقتها كنت قد عرفت بالنتيجة وذهبت له بالفندق كي أخبره ولكنه كان مشغول فقابلني عم فهمي وتعرفت عليه وعلى زوجته، وقتها تغيب أحدهم عن العمل فعرضت المساعدة وكنت موفقة فعرض علي العمل وربما هو من منحني فكرة الجامعة والعمل من أجل المصاريف ووافقت"
لم تفهم شيء من ملامحه وهو يقول "لم يطالبك بالنقود؟ حمزة؟"
فلتت من بين ذراعيه مبتعدة وقالت "لا"
لكنه قال "كنت تساهمين بالبيت؟"
لم ترد وعندما طال الصمت التفتت له وقالت "ما يخصني"
هز رأسه وقال "متى اكتشفت أعماله؟"
أخفضت وجهها وقالت "بعد عملي بالفندق، حاولت إيقافه ولكنه"
تحرك تجاهها فجأة فتراجعت وكأنها تخشاه فاندهش وقال "ماذا بك ملاك؟"
لم ترد وهي تبتعد ولكنه فكر قليلا ثم قال "ملاك هل حمزة كان يضربك؟"
لم يراها وهي تغمض عيونها بقوة حتى لا ترى تلك الذكريات ولكنها سمعته يقول بغضب "اللعنة ملاك كيف عشت معه؟"
فتحت عيونها عندما أدركت أنه أمامها والدموع تعود لعيونها تواسيها فقالت "هو أخي"
أبعد وجهه الغاضب ونفخ بقوة معبرا عن سخطه على حمزة ثم قال "لم يكن عليك البقاء معه ملاك لقد منحك الكثير من السيئات ولم يمنحك أي شيء جيد، لماذا تحملت البقاء معه؟"
قالت بألم "لم يكن هناك بديل يوسف، هو أخي كل من أعرف، فكرة البقاء وحدي بدونه وأنا ما زلت بالسادسة عشر لم ترد على خاطري ولم أملك الشجاعة على أن أفعل"
مسح دموعها وقال "لقد دمر شبابك ملاك، سلب شجاعتك وقوتك ولم يمنحك إلا الحزن والألم، أنا آسف لأني لم أعرف كل ذلك من قبل"
نظرت له وقالت بصدق "لم يكن ذنبك"
ابتعدت وهي تمسح دموعها وقالت مبعدة الضعف عنها "ماذا أفعل مع وحيد؟"
أدرك أنها تريد العودة من الذكريات فقال "ماذا تريدين أنتِ؟"
التفتت له وقالت "لا أعلم"
دق الباب فأذن هو ودخلت زينب بالعشاء وضعته وشكرتها هي فخرجت بينما تحرك هو ليجلس ونظر لها وقال "تعالي اجلسي، لو أرادك سيعيد الاتصال ووقتها سنرى ماذا سنفعل"
ظلت صامتة وهو يتناول الطعام عندما قالت "يوسف هل تصدقني؟"
رفع وجهه له وقال "نعم ملاك، أصدقك فهل تأتين لتناول العشاء؟"
حاولت ألا تغضب من برودته ولكنها قالت "يوسف أنا"
قاطعها بنبرة حازمة "ملاك، كفي عن القلق وتعالي اجلسي لن أتناول الطعام وحدي، وحيد ليس بالشيء الذي نوقف حياتنا من أجله"
شعرت بالراحة تنساب لقلبها وملامحه الهادئة تمنحها هدوء وسكينة وأمان عاشت عمرها تفتقده فتحركت له وجلست بجواره وتناولا الطعام وقد تبدلت المواضيع بينهما حتى نست كل ما كان ولم يبقى سوى وجه زوجها الذي جعلها لا تريد شيء آخر سوى رؤيته والبقاء بجواره لآخر العمر
بالصباح رحل أيضا أثناء نومها وما أن نهضت حتى هاتفته فأجاب بهدوء "اعتدتِ الكسل مولوكيلا"
ابتسمت وهي تبعد شعرها دون أن تنهض من الفراش وقالت "هذا ذنب ابنك"
وقع الأوراق التي كان قد فحصها جيدا وانتظر خروج السكرتير فنادته كما يحب أن يسمع اسمه فأجاب "أنا هنا، لماذا لا تكون ابنتي؟"
ابتسمت وقالت "هل تريد فتاة؟"
تذكر حياة أخته فنهض وتحرك وهو يشعل سيجارة وقال "لا يهم"
اندهشت وقالت "ظننتك تريد وريث؟"
نفخ الدخان وقال "ولو، هناك خمسة آخرين ألم نتفق؟"
ضحكت وقالت "نعم لقد نسيت حسنا متى ستكون موجود؟"
قال "لا أعلم أنا لابد أن أعد بعض الأمور قبل سفري"
اعتدلت بالفراش وتبدلت ملامحها وذهبت ابتسامتها وقالت "سفر؟ أي سفر؟ أنت لم تخبرني بسفرك يوسف"
تحرك للمطفأة وأطفأ السيجارة وقال "ظروف العمل تتبدل بلحظة مولوكيلا وأنا لي وقت طويل لم أسافر لكن الآن لابد أن أفعل"
انقبض قلبها ولم ترد وهي تفكر بالوحدة التي عاشتها بغيابه المرة السابقة وفوق ذلك مشكلتها مع وحيد فهي واثقة أنه سيعود لمراسلتها
سمعته يقول "ملاك هل ما زلتِ معي"
قالت بصوت حزين شعر به "نعم يوسف، متى سترحل؟"
عاد لمكتبه وقال "لم أحدد بعد، عندما أنتهي من كل ما يلزمني سأفعل، ما رأيك بعشاء بالخارج؟"
قالت بنفس النبرة الحزينة "كما تشاء"
أدرك نبرة صوتها فقال "حسنا سأحاول العودة مبكرا"
قالت "حسنا"
ترك الهاتف على مكتبه وهو ينظر له وذهنه بها، ما سبب حزنها لرحيله؟ لقد ظن أنها ستسعد لغيابه، ولكن لماذا ظن ذلك وهي لم تشعره أنها لا تريد وجوده؟ منذ تناسى كلاهم ما كان من الماضي وفتحا صفحة جديدة وهي تتفاني بدورها كزوجة من أجله وقد جعلته يستعيد ثقته بالبيت والأسرة والزوجة وها هو ينتظر ابن أو ابنة وسيرى دورها كأم، لماذا ما زال يشكك بها حتى بعد ما عرفه عنها بالأمس؟ أحيانا تنبت وردة سليمة من بين غيرها فاسدة وهي تنضح بالبراءة رغم كل المساوئ التي عاشت بها وحاوطتها من كل جانب، لماذا لا يريد أن يصدق أنها بريئة؟ لماذا يرى اسم حمزة وأفعاله كلما انجذب لها أكثر؟
نهض مرة أخرى وابتعد إلى النافذة ووقف وهو يراجع أفكاره، انجذب لها؟ نعم هو يعلم أنه أرادها من أول نظرة ولم يسيطر على رغباته تجاهها وما زال حتى اليوم فهو لا يريد سواها، يعشق ابتسامتها لرؤيته، قبلتها تمحي تعب اليوم كله أحضانها تمنحه عالم آخر يسعده ويمنحه الراحة والهدوء، هي المرأة التي لم يفكر يوما بها وهي المرأة التي لا يريد سواها وهذا الحزن الرابض بنبرة صوتها جعله يفكر هل هو أيضا لا يريد فراقها؟ ولو كان فما سبب هذا التعلق الغريب؟
نهضت من الفراش وقد تملكها الحزن وهي تعلم سببه، لقد نسيت كل ما كان حتى بالأمس وهي تحكي له ماضيها الذي لا تحب تذكره لم تتذكر قسوته وانتقامه وإنما أرادت الحنان الذي كان بعيونه والقلق الذي صاحبه من أجلها، الأمان الذي وجدته بين ذراعيه لذا اليوم تعلم سبب حزنها لرحيله
كان الأب متعب بذلك اليوم وظلت معه في محاولة منها لمنحه الراحة لكن لم تتحسن صحته ولم تجد مفر من أن تتصل به وتخبره بتعب والده فلم يتردد بإرسال طبيب واللحاق به بالبيت
نظر الطبيب لها وقال "القلب متعب مدام هو بحاجة لبعض الفحوصات، أحتاجه بالمركز الخاص بي"
قبل أن تجيب قال العم "أنا بخير فقط اتركوني بفراشي وسأكون بخير"
نظرت له وقالت "هي بعض الفحوصات عمي وستعود لفراشك بالتأكيد"
ولكن العم قال بضيق "لست بحاجة لأي فحوصات"
منحها الطبيب ورقة بها الدواء وأخرى بها الفحوصات اللازمة فقالت "سأخبر يوسف بالأمر دكتور"
سمعته يقول "تخبريني بماذا عزيزتي؟"
التفتت له وقالت وهو يدخل ويتقدم منهم "تلك الفحوصات يوسف"
وقف بجوارها وواجه الطبيب الذي قال "علينا بإجراء تلك الفحوصات سيد يوسف بأقرب وقت بالمركز"
هز رأسه وقال "هل يمكننا الذهاب بالغد؟"
قال الأب بغضب "لن أذهب لأي مكان، أنا لن أترك فراشي"
نظرت للأب ثم ليوسف الذي تبدلت ملامحه وهو يقول "هو يوم واحد بابا لا تقلق، دكتور سأكون عندك غدا"
هز الطبيب رأسه وتحرك خارج الغرفة ويوسف يتبعه وتقدمت هي من الأب وقالت "هل تهدأ عمي، الغضب غير جيد لك"
دخل يوسف فقال الأب "لن أذهب لأي مكان، أريد العزبة يوسف دعني أرحل لها لن توقفني أكثر من ذلك"
نظرت ليوسف الذي اسود وجهه من كلمات والده وشعرت بأن عيونه تلونت بالأحمر وهو يقول "هل تتوقف عن طلبك هذا؟ تعلم أني"
قاطعه الأب بغضب "بعدك لن يمحي الذكريات يوسف، هجرك للمكان الذي ولدت وعشت أجمل سنوات عمرك به لن يمنع ما حدث فهي رحلت ولن تعود وعليك أن تعيش"
تفاجأت من غضب يوسف وهو يقول بصوت قوي "كفى"
وابتعد مانحا إياهم ظهره وانزوت هي بعيدا عن جدالهم وقلبها يدق بقوة من رؤية تلك المواجهة بينما قال الأب بغضب مماثل لابنه "لا لن أكف بعد الآن، هل تظن أن هروبك من مواجهة الأمر سيعيد شيء؟ لا لقد رحلت وتركتنا وأنا وحياة تقبلنا الأمر فلماذا تظل ترفض ما كان؟"
التفت وتراجعت ملاك من منظر وجهه الغاضب والذي لم تراه من قبل وهي تحاول أن تستوعب حوارهم عندما قال بغضبه النابض بعروق وجهه الذي احمر بشدة "أنا لا أرفض ما كان منها، أنا لا أريد أن أذكره، لا أريد أن أرى ذلك المشهد وهو يتكرر أمامي مرة أخرى، لولا ضعفك وهوانك معها لما فعلت كنت تعلم أن فارق السن يجعلها تتملكك وتركتها تفعل حتى ضعنا جميعا بسببك، نعم أنت السبب تهاونت معها ووافقت على أن تفعل وتقول ما لا يقبله زوج من زوجته وبالنهاية منحتها حريتها لتتركنا من أجل حياتها وملذاتها دون أن تهتم بي أو بحياة وأنت، أنت لم تحاول حتى أن توقفها ضعفك هو السبب، أنت السبب"
تمنت لو توقفه وهي ترى الأب يحدق به وقد شحب وجهه وفتح فمه دون أن ينطق، لم يتوقف يوسف وقد انفجر البركان الذي خمد سنوات طويلة وتصاعدت حممه الراكدة داخله وعاد يهتف
“أنت من دفعها لترحل دون أن تندم، ظننت أنك تمنحها السعادة وأنت تدمرنا نحن، لم تفكر يوما بي وبحياة أنت حتى لم تحاول منحنا ما يعوضنا عنها هل تظن أننا نسينا؟ أنت لم تحاول إيقافها"
تنفس الأب أخيرا وقال بغضب لم يهدأ "وهل ظننت أني لو كنت فعلت كانت ستتوقف؟ أنت فعلت وحاولت، هل نسيت أنك تعلقت بها يوم رحيلها وأنت تترجاها ألا ترحل وتبكي أمامها رغم أنك لم تفعل منذ صرت شابا ولكنها أبعدتك بقسوة ونهرتك و..، كفى يوسف هي لم تكن لتبقى مهما حاولنا جميعا إبقائها"
كان لابد أن يصدق أنها لم تكن لتتركهم لو أنه أراد بقاءها وهو يعلم أنها لم تكن الحقيقة أكمل الأب "دعني أرحل وأكمل ما تبقى لي من العمر هناك، أنت لا تريد أن تفعل فابق مع زوجتك وحياتك هنا لكن دعني أنا أيضا أعيش حياتي ولتعلم أنك مهما هربت من الأمر بالنهاية لابد أن تعلم أن الحقيقة هي أنها أرادت الذهاب من أجل"
ولم يكمل والتفت يوسف له بعيون تنطق بالشر ولكنه لم يرد وتحرك خارجا من الغرفة صافعا الباب خلفه بقوة أفزعتها ولكنها أسرعت خلفه بكل قوتها ووجدته ينزل فنزلت لتجده يركب سيارته ويندفع بها بقوة لخارج الفيلا وقد وصلت متأخرة وهي تناديه دون أن يسمعها وظلت واقفه تتابع سيارته وهي ترحل بقوة وغضب يماثل غضب قائدها وتملكها الخوف عليه من قيادته أثناء غضبه وارتدت للداخل لا تعرف ماذا تفعل
عادت لغرفة الأب الذي نظر لها بحزن وتعب واضح فهزت رأسها بالنفي وقالت "لم ألحق به عمي، أنا أخشى عليه"
أبعد وجهه وقال "كان لابد من أن يتصاعد الغضب منه بيوم ما يا ابنتي"
تحركت لجوار فراشه وانهارت على المقعد وذهنها معلق بزوجها الذي احتارت بما يحمل داخله من غضب، هل هذا هو سبب ما طلبه منها وقت الحمل الأول؟ كان يظن أنها ستفعل كأمه وترحل وتترك طفلها؟ اليوم أدركت أنه عانى الكثير بشبابه لذا تجمدت ملامحه ولم يتواجد للفرح مكان بل فقط أحزان
قالت بألم من أجل الرجلان "لماذا كل ذلك عمي؟"
لم ينظر الرجل لها وقال وهو يرفع يده على صدره "الماضي يا ابنتي، الماضي يعيش بداخلنا، تزوجت والدة يوسف وهي بالعشرين من عمرها وأنا بالخامسة والثلاثين"
تذكرت أنه سألها عن فارق العمر بينها وبين يوسف وما إذا كان مشكلة بينهما ولكن هي لم تهتم ولا تهتم، أكمل الأب "أحببتها من أول نظرة ورغبت بها ولأنهم كانوا أسرة عادية فقد وافق الأب ولم أدرك أنه أجبر ابنته على الزواج مني إلا بعد شهور من الزواج عندما كانت حامل بيوسف وقد تشاجرنا وقتها فصدمتني بالحقيقة ولكن لأني أحبها تمسكت بها ولم أحاول أن أسمع لها وظللنا سويا وقد عرفت أن من كانت تحبه رحل لخارج مصر فانتهت الأزمة بالنسبة لي ولكني لم أكن أعلم أنه الأمر لم ينته بالنسبة لها إلا بعد سنوات كثيرة كان عمر يوسف وقتها أربعة عشر عاما، شاب ناضج مدرك الحياة جيدا رغم صغره متعلق بأمه جدا رغم أنها لم تكن المثل معه ولا مع حياة كانت لا تفكر إلا بالملابس والمظاهر والمجوهرات والحفلات ولم أعارض فقط لتبقى معي حتى تفاجأت بها بذلك اليوم وقد اتخذت قرارها بالرحيل وهددتني أنها ستفتعل فضيحة كبيرة تشهر بسمعة السمنودي لو لم أطلقها وأدعها ترحل وبصراحة لم تكن أفعالها بغائبة عن الصحافة ولكن أن تقيم علاقة مع رجل وهي على ذمتي لم أكن لأقبل بذلك لذا كان لابد أن أتركها ترحل ولكن يوسف لا يعلم سبب رحيلها فقط يظن أنها لم تحبني بيوم وأرادت حريتها وأنا منحتها إياها وعندما اختفت من حياتنا ظل فترة لا يخاطبني حتى استعاد نفسه"
شعرت بالحزن من أجل تلك العائلة المصابة ودمعت عيونها من أجلهم وقالت "والعزبة؟"
أبعد وجهه وقال "كانت المكان المفضل ليوسف وحياة حيث اللعب والتمتع بالطبيعة مع أمهم ولكنه كرهها لأن يوم رحيلها كان هناك ويوم أسرع لها وتعلق بها وهي تحمل حقيبتها لترحل كان هناك ويومها دفعته بقوة وصفعته على وجهه بغضب وهي تقول "أنا لن أتحمل أكثر مما تحملت أريد أن استمتع بشبابي" صدمته بها كانت كبيرة وظل عدة أيام يحبس نفسه بغرفته هناك حتى عدنا جميعا لهنا ولكن لم يذهب لهناك من وقتها"
ظلت تنظر للعم وهي تشعر بحزن تجاهه وقالت "الأمر صعب"
ضغط الأب على صدره وتلونت ملامح وجهه وتعرق جبينه فنهضت وتحركت تجاهه قالت "عمي ماذا بك؟"
نظر لها بتعب واضح وهو يمسك بيدها وقال "لا تخبريه شيء ملاك، لا داعي لتشويه صورة والدته أمامه"
تملكها الخوف وقالت "ولكن من حقه أن يعرف أنه ليس ذنبك عمي، لابد أن أتصل بالمشفى عمي أنت لست بخير"
لم تعد أنفاسه منتظمة وهو ينظر بعيونها وضغط على يدها وقال "لا تتركيه يعرف شيء"
تركت يد الرجل وأسرعت للهاتف واتصلت بالمركز الطبي وطالبت بالإسعاف واتصلت بيوسف مرة واثنان ولكنه لم يجيب فعادت للأب وهي تمنحه دواء ولكن حالته كانت سيئة..
بالمركز تلقاها الطبيب الذي كان معها بالبيت وأسرع به لغرفة الطوارئ ثم اتصلت بمكتب زوجها بالشركة ولم يجيب، عاودت الاتصال به ولكن بالنهاية أرسلت له رسالة "والدك بالمشفى وحالته خطر"
طالت فترة الكشف على الأب عندما خرج الطبيب واتجه لها وقال "جلطة قوية بالقلب مدام وسيتم نقله للعناية، هل حدث شيء بعد ذهابي"
كانت دموعها كثيرة وهي تقول "فقط شعر بالتعب فاتصلت بالمركز بالحال، هل حالته خطر؟"
هز رأسه بالإيجاب وقال "نعم للأسف، الجلطة أصابت القلب بأضرار كثيرة وربما نحتاج لعمل قسطره لتسليك الشريان وتوسيعه ومحاولة إذابة الجلطة"
شحب وجهها هي الأخرى وشعرت ببعض الدوار فترنحت قليلا عندما أسندها الطبيب وهي تمسك رأسها والطبيب يقول "هل أنت بخير مدام؟"
قالت بضعف "نعم لا تقلق هو بعض الدوار بسبب الحمل"
جذبها الطبيب لمقعد فجلست ووقف يقيس نبضها من معصمها للحظة وقد بدأت تهدأ فقال "الضغط جيد لكن عليك بالراحة يمكنك الذهاب هو لن يخرج من العناية الآن"
هزت رأسها وقالت "سأنتظر زوجي دكتور أشكرك لاهتمامك"
اطمأن عليها ثم تركها وابتعد وظلت تسند رأسها لوقت حتى هدأت، مر الوقت بطيئا، عدة ساعات انقضت قبل أن تراه يتقدم للداخل وحالته أسوء مما كان، وقفت عندما وصل لها بخطى سريعة وقال "أين هو؟"
كان الغضب قد تلاشى من عيونه وحل مكانه القلق فقالت "بالعناية، جلطة بالقلب"
ظل ينظر لها قبل أن يقول "أين الطبيب؟"
قالت "لا أعلم"
نظر حوله ثم قال "انتظريني هنا"
ذهب باحثا عن الطبيب وجلست هي من شعورها بالتعب حتى عاد وقال "هيا ملاك لا داعي لبقائك، لا مجال لرؤيته"
ولكنها قالت "وأنت؟"
أبعد وجهه فقالت "لن أرحل بدونك"
نظر لها وقال "أنت حامل ملاك وهذا إجهاد لك سأعيدك البيت أعود له"
قالت بإصرار "لن أفعل سأظل معك"
اقترب وانحنى على وجهها وقال بعصبية "لا تثيري غضبي ملاك لا داعي لوجودك هنا من الأساس"
حدقت بعيونه وقالت بقوة "بل لي كل الحق يوسف فأنا عشت معه شهور جعلتني أعتبره كأب لي"
نفخ وأبعد وجهه وقال "لا زيارة الآن وهو لا يعي أي شيء"
قالت "إذن لنعد نحن الاثنان ثم نعود بوقت الزيارة لرؤيته"
ظل ينظر لها فعادت تقول "لن أتركك وحدك"
ظل ينظر لها وقد منحه إصرارها شعور بالسكينة بعد الغضب الذي كان يجتاحه وجعله يقود سيارته بدون هدى ورفض الرد على هاتفه ولكن ما أن استعاد نفسه ورأى رسالتها حتى عاد فهو والده ولم يتبقى له سواه، اعتدل وقال "حسنا هيا سنذهب ونعود بوقت الزيارة"
صاحبهم الصمت بطريق الرجوع ولم تجرؤ على الحديث معه، حمزة بنى داخلها خوف من كل شيء وأي شيء وهذا الخوف ظل يكبر داخلها وينمو حتى قابلت كل ما واجهته والخوف لا يتركها وها هي تنظر له وتخشى من أن تتدخل بحياته وهو زوجها ولا حدود بينهم ولكن الأمر مختلف لابد أن تبعد ماضيها جانبا وتتصرف كزوجة عليها واجبات
ما أن دخلت غرفتهم وتبعها وهو يخلع الجاكيت وقد شعر بإرهاق وتعب يجتاحه لم يقابله من قبل، شعر بها تأخذ منه الجاكيت فالتفت لها فقالت "هل أنت بخير؟"
ظل ينظر بعيونها حتى هز رأسه وقال "نعم"
كاد يبتعد عندما أمسكته من ذراعه فنظر لها بدهشة فقالت بحنان صادق "أنت لست غاضب منه أليس كذلك؟"
اعتدل وقال "لن نتحدث بذلك الموضوع ملاك هل تفهمين؟"
تراجعت من حدته وابتعد هو دون كلمات أخرى للحمام وهي تتابعه وربما شعرت بالحزن من أجله كما أدركت أنه لن يمنحها المكانة التي تجعله يتحدث معها عن أحزانه وماضيه وهذا أصابها بألم بقلبها
بدلت ملابسها وخرجت لتعد له وجبة خفيفة وشيء دافئ ليشربه ثم عادت لتراه جالسا بمقعد أمام زجاج النافذة شاردا دون أن يشعر بها وهي تضع صينية الطعام على المائدة وتقربها منه وقالت "هل تتناول بعض الطعام؟"
نظر لها وللطعام ثم أبعد وجهه وقال "لا، هل تتركيني وحدي؟"
احمر وجهها من طريقته الجافة ومع ذلك قالت "لن أتحدث فقط تناول أي شيء ولو حتى كوب من الشاي"
نظر لها بملامح غاضبة وهتف بحدة "ألا تفهمين ما قلته؟"
تراجعت من طريقته وشحب وجهها ودق قلبها ومع ذلك لم تتراجع وهي تقول "سأفعل يوسف ولكن فقط"
نهض فجأة حتى أنه كاد يصدم المائدة وهو يقول بغضب لم يمكنه إيقافه مع انسياب الذكريات أمامه وهتف "ليس هناك لكن، أي جزء بكلماتي لا تفهميه؟ طلبت أن نعود وها أنا عدت ألا يمكنك استيعاب ما أريد؟ هل تظنين أنك يمكنك القيام بذلك الدور الرائع للزوجة التي تريد احتواء زوجها وقت غضبه؟ بالطبع لأن أمثالك لا يفهم تلك المعاني ولا يحق لك التدخل بحياتي هل تفهمين؟ لا يحق لأحد أن يفعل"
دمعت عيونها من كلماته الجارحة ولم ترد وما زال يحدق بها وكل ما قالته بصوت مبحوح "أنا آسفة"
أشاح بيده وقال بنفس الغضب "لست بحاجة لأسفك ولا أسف أحد، لست بحاجة لتلك الشفقة بعيونك فلا تجرؤين على إظهارها أمامي مرة أخرى، لست بحاجة لها منك ولا من سواك كلكن سواء الخيانة بطبعكم، أنت مثلها ستهرعين لأول رجل يمنحك أكثر مما أمنحك وعندما تصلين لعمر الإدراك ستبحثين عن شبابك بمكان آخر ووقتها لن أرحمك هل تفهمين؟ لن أرحمك"
وتحرك للخارج والباب يغلق خلفه بقوة ناهيا إهاناته المؤلمة وتركها وعيونها الدامعة تتابعه بألم ليس من كلماته وإنما من أجله فهي أدركت أنه يتألم وتمنت لو شاركته أحزانه ولكنه أبى ومن وسط كل ذلك حاولت أن تفهم معنى كلماته من إدراك شبابها والبحث عنه بمكان آخر
لم تنم لحظة واحدة وهو لم يعد للغرفة، لم تبحث عنه وتمددت بالفراش دون أن تغمض عيونها وتابعت النهار وهو يملأ الأجواء من حولها، كانت السابعة عندما شعرت به يدخل كان ظهرها له وشعرت به يتحرك حتى انتهى وجلس على طرف الفراش خلفها فلم تتحرك وظل قلبها يقفز داخل صدرها بين دقاته المؤلمة حتى سمعته يقول
"ملاك"
لم ترد وإن بللت الدموع عيونها ولكنه عاد وقال "ملاك أعلم أنك لست نائمة فهل نتحدث؟"
أغمضت عيونها لحظة ثم اعتدلت وجلست بالفراش دون أن تنظر لظهره الذي يواجها لم ينظر لها وهو يقول "أنت تعلمين أني لم أقصد ما قلت، أخبرتك مرارا أن تتركيني وقت الغضب"
لم ترد فالتفت فلم ترفع وجهها له فقال "الماضي خاص بي وحدي وليس من حق أحد التدخل به"
رفعت عيونها له وقالت "هل من حقي أن أقول أني لست أي أحد؟"
التفت ونظر لها ورأى الدموع الساكنة بعيونها فأغمض عيونه من الصداع والتعب الذي يجتاحه ثم فتح عيونه ونظر لها وهو يرفع يده لوجنتها وقال "نعم حقك ملاك، نعم أنت لست أي أحد"
ثم جذبها له واحتضنها وقد كان بحاجة لهذا الحضن وهي احتضنته بقوة ولم تطلب منه أي شيء فقط يكفيها تلك الكلمات القليلة الآن، أبعدها وأحاط وجهها براحتيه وهو ينظر بعيونها وقال "هل ننام الآن؟ كلانا بحاجة للراحة قبل أن نعود له"
هزت رأسها فجذب وجهها له وقبلها قبلة رقيقة قبل أن تفسح له المكان ويأخذها بأحضانه وينام وكلاهم يحاول إيقاف الأفكار التي تتسابق داخل عقولهم في محاولة لإيجاد حلول دون فائدة
كانت الواحدة ظهرا عندما دخل الاثنان المشفى ولم يوافق الطبيب على دخولها العناية بسبب الحمل ودخل هو فانتظرته حتى خرج، لم تتحسن ملامحه وهي تتقدم له فأبعد وجهه وقال "لم تتحسن حالته والأطباء ترفض سفره للخارج، هو حتى لا يقوى على الحديث"
قالت بحزن "هل تحدثت أنت إليه؟"
نظر لها بدون فهم فتراجعت وأبعدت عيونها وقالت "لا شيء"
ولكنه أمسك ذراعها وأعادها له وهو يقول "تحدثي ملاك لا مجال للتراجع هنا"
نظرت له وقالت "هو يشعر أنك تحمله ذنب رحيل والدتك"
ظل ينظر لها لحظة قبل أن يقول "ولكني أعلم أنه ليس كذلك"
تراجعت فنفخ وأبعد وجهه وهو يقول "كفى ملاك لن نعيد ما كان"
لم ترد وقد أخفى وجهه عنها ولكنه فهم ما أرادت قوله ولكنه لم يتحدث عندما خرج الطبيب ووقف معه لحظة وتبدلت ملامح يوسف وهو يقول "لا أفهم؟"
اقتربت لتسمعه والطبيب يقول "الحالة تزداد سوء سيد يوسف وتلك المرحلة نحن كأطباء ندرك معناها لذا أنا فقط أمنحك تحذير ولكن بالطبع الأعمار بيد الله"
ثم تركه ورحل وضعت يدها على فمها مما فهمت ولم تجرؤ على التحدث له فهي تعلم أنه سيعيد ما فعله لو حاولت مشاركته لحظة حزنه ولكنه التفت لها وعندما رأى دموعها تحرك تجاهها وجذبها لأحضانه فشعرت بالراحة لأنه لم يلفظها مرة أخرى
لمدة يومين ظلت حالة الأب تسوء وباليوم الثالث طلب رؤيتها وسمح لها الطبيب لوقت قصير فدخلت لتراه، فتح الرجل عيونه وقد بدت ملامحه متعبه ولكنه قال "هل تحبين ابني؟"
تراجعت من المفاجأة ولم ترد ولكنه أعاد السؤال فهزت رأسها بالموافقة ولم تجرؤ على الكذب فقال بنفس التعب "إذن لن يكون فارق العمر بينكم سبب لرحيلك"
انحنت وأمسكت يده وقالت "أنا لم أفكر بتركه عمي ولا يهمني فارق العمر بيننا أنا أحب يوسف وأريد البقاء معه لآخر العمر وأنت معنا لترى أحفادك"
ضغط على يدها وقال "ليتني كنت أستطيع ملاك لكن فقط حاولي أن تمنحيه ما لم تمنحه هي له وسامحيه على غضبه"
قالت "حاضر عمي أعدك أن أفعل"
ترك يدها وقال "هيا اخرجي المكان غير جيد على صحتك وصحة الطفل، اعتني بحفيدي ملاك"
الدموع لم تفارقها وهي تتحرك للخارج وتلقاها هو بقلق وما أن رأى دموعها حتى احتضنها وهو يعلم أنهم ينتظرون الخبر بأي لحظة، على مساء اليوم التالي أعلن الطبيب وفاة الأب وبالطبع كان الأمر مؤلم لكلاهم وتلقى هو الأمر بقوة حاول أن يبديها أمام الجميع لكن أمامها كانت ترى الحزن بعيونه ولكنه خلال الأيام الثلاثة التالية كان صامتا يتلقى العزاء بصمت ولم يتحدث معها وهي لم تحاول أن تعيد الكرة وتركته ولكن وهي معه لا تفارقه فقط صامتة لا تتحدث وهو لم يعترض..
بنهاية أيام العزاء رحل الجميع وما أن تحرك هو تجاهها مبتعدا عن باب الفيلا حتى رأى معالم وجهها تتبدل ونظراتها تجاه باب الفيلا فالتفت ليدرك السبب وهو يرى زينة تدخل بفستان أسود صارخ وهي تتقدم للداخل، لم يتحرك وهو يتابعها وهي تتقدم منه حتى وقفت أمامه وقالت "تعازي الحارة يوسف"
لم تتحرك ملاك من مكانها بينما قال هو ببرود "شكرا زينة"
حل الصمت للحظة عندما قالت "ألن تدعوني للدخول؟"
قال بضيق "لقد انتهى العزاء زينة، إنها الحادية عشر"
تراجعت من طريقته الجافة بينما عقدت ملاك ذراعيها أمام صدرها دون شك لحظة واحدة بزوجها فمشاعره تجاه زينة كانت واضحة منذ آخر لقاء بينهم، قالت زينة "أنا هنا من أجلك لم أفضل الأيام الأولى أعلم أنك لا تفضل وجود أحد وقت حزنك"
تملك ملاك الغضب من كلمات زينة والتفت هو لها وقال "ليس بحالة الوفاة زينة لن أمنع أحد من تقديم واجب العزاء ولقد انتهيت منه"
ثم تحرك ونظر لملاك وقال "أنتِ بخير؟"
نظرت له وتبدلت ملامح الغضب بوجهها وقد اندهشت من أنه أهمل زينة ليهتم بها ولكنها منحته كل اهتمامها وقالت "نعم"
سمع زينة تقول "يوسف أنا ما زلت هنا"
نفخ بضيق والتفت لها وقال "وماذا زينة؟ ألم تنهي مهمتك بالعزاء؟ هل تتركينا نرتاح؟"
شحب وجه زينة وتقدمت لتقف أمامهم وقالت "أنت حقا لا ترغب بوجودي؟"
نظر لها من ارتفاعه وقال "تعلمين الرد زينة فلم تضعيننا بتلك المواقف ونحن بغنى عنها لقد انتهينا من الأمر من شهور وتحرك كلانا باتجاه مختلف عن الآخر فماذا تريدين؟"
ظلت صامتة قليلا ثم قالت "لا شيء يوسف، أنا لا أريد شيء، البقاء لله يوسف"
وتحركت للخارج فالتفت هو لزوجته وقال "هل نصعد أنا متعب"
هزت رأسها وتناست زينة فقط لتهتم به وهو يجذبها من ذراعها لغرفتهم وبالأعلى طلب أحضانها ولمساتها وهي لم تبخل بأي شيء ومنحته حنان لم يشعر به من قبل أو ربما لأنه احتاجه اليوم فشعر به وعندما انتهى نام بتعب واضح وظلت تتأمل ملامحه الساكنة وأدركت مدى حزنه وتعبه فهو لم ينم منذ بداية مرض والده وحتى سكن بجوارها الآن فلم تتركه حتى نامت بجواره
بالصباح نهضت بدون إزعاج للحمام كالعادة ثم أخذت حمام وخرجت بروب الحمام فرأته ما زال نائما فلم توقظه وارتدت ملابسها ونزلت لتعد له طعام ثم عادت لتراه ببنطلون البيت وصدره العاري يلمع مع ضوء الشمس وهو يقف ويتحدث بالهاتف فوضعت الطعام وأدركت أنه عاد لعمله وحياته
أنهى مكالمته ونظر للطعام وقال "لا تفعلي ذللك مجددا ملاك"
نظرت له بدهشة وقالت "أفعل ماذا يوسف؟"
قال وهو يبتعد ليعد ملابس للخروج "لا تحضري الطعام بنفسك، كم مرة أذكرك أنك حامل"
نهضت ووقفت بطريق عودته ووضعت يدها على ملابسه التي بيده وقالت "أنت لا تحب الطعام من يدي"
نظر بعيونها الزيتونية وقال "لا ملاك أنا لا أريد تكرار ما كان، نحن نريد ذلك الطفل وكي نحافظ عليه لابد أن تحافظي على نفسك"
هزت رأسها وقالت "حاضر سأفعل، هل تتناول معي الإفطار؟ لن أفعل وحدي"
صمت وهو يتجول بملامح وجهها قبل أن تقول "هل ترتاح اليوم فقط؟ وعد غدا لعملك؟ يوم واحد يوسف أنت بحاجة للراحة من أجلي، أقصد"
ولم تكمل وهي تبعد عيونها عنه فدفع لها الملابس فرفعت وجهها له فتلقاها بنظرته وقال "هل هناك فطائر ساخنة؟"
ابتسمت وأبعدت الملابس وهي تقول "نعم أعددتها لك، زينب أخبرتني أنك تحبها ساخنة"
جلس وهي معه وتناولا الإفطار بصمت حتى انتهى ثم سكبت له الشاي وأشعل سيجارته عندما قال "وحيد لم يراسلك"
منحته كوب الشاي ونظرت بعيونه وقالت "لا"
نظراتها الثابتة جعلته يهز رأسه وقال "إذا فعل"
قاطعته بدون تفكير "إذا فعل سأخبرك لتتعامل أنت معه، أنا لا أريد أي شيء يربطني به"
ظل ينظر لها وهو يشعل سيجارة ثم يتناول الشاي حتى قال "هل تخشين من شيء؟"
فكرت بسؤاله وهي تجيب داخل نفسها، نعم هي تخشى من كل شيء يربطها بالماضي، لا تريد أن تترك ذلك الرجل الذي أصبح كل حياتها ولا تتنازل عن حياتها الجديدة وأسرتها فقالت
"نعم، أنا أخشى من وحيد ولا أعلم ماذا يدبر لي"
لم ترى ملامح وجهه من الدخان وهو يقول "تظنين أني سأتركك له؟"
نهضت وتحركت بعيدا وقد وصل لما يدور بداخلها، لم ترد فناداها "ملاك"
التفتت له ونظرت بعيونه وقالت "أخشى أن تصدق أي شيء يقوله عني"
نهض وتحرك لها حتى وقف أمامها وقال "مثل ماذا؟"
نظرات زائغة ملأت عيونها وهي تقول "لا أعلم يوسف ولكن، هل أنت تثق بي؟"
أمسك ذراعيها بيده وقال بهدوء "طلبت منك مرارا أن تنسي الماضي ملاك فلماذا لا تفعلين؟"
قالت بخوف لم يذهب "لأنه يلاحقني يوسف"
أبعد وجهه ثم عاد لها وقال "لم أقصد كلماتي بتلك الليلة ملاك الذكريات المؤلمة تضغطنا بقوة تجعلنا نتألم لدرجة أنها تفقدنا عقلنا وهو ما يدفعنا لقول ما لا ندركه بوقتها"
قالت بدموع "ولكنه موجود يوسف أنت نطقت بما هو موجود داخلك وما لم تستطع أن تنطق به وأنت بكامل وعيك، أنا لا ألومك يوسف لأن لديك كل الحق بأن تظن بي كل الظنون ولكن صدقني أنا بريئة، السنوات التي عشتها مع حمزة لم تبدلني، حافظت على نفسي ولم أستسلم لأي شيء مخالف للدين أو الحلال، وحيد حاول معي كثيرا حتى بحضور حمزة ولكني رفضته وهناك جرح بصدره أنا السبب فيه دليل على كلامي"
ضاقت عيونه وهو يسمعها ثم قال "لكنك قبلت بي من أول لقاء"
ابتعدت من أمامه وقالت "لأنك مختلف يوسف، أنت عرضت علي الزواج، الخلاص من تلك الحياة التي كان حمزة يعرضني لها، ظننت وقتها أنك تريدني ولا أنكر أني انجذبت لك ولم أجد ما يجعلني أرفض الزواج من رجل يريد حياة الحلال"
قال بجدية "ولم تفكري بما فعلته بك؟"
التفتت له والدموع تنهال على وجهها "لا، لم أشك بك لحظة واحدة"
تألم بدون سبب لم فعله بها وشعر بالذنب تجاهها والغضب من نفسه فابتعد وقال "كان عليك أن تكوني أكثر حرصا ملاك لا يمكن لأي فتاة أن تسلم نفسها لأي رجل دون أن تعرفه بتلك السهولة"
كانت تعرف أنه على صواب وكل ذنبها أنها أحبته من أول نظرة لذا لم تسمع كلمات عقلها، أخفضت وجهها وقالت "نعم معك حق ولقد دفعت الثمن"
التفت لها بقوة وكأنه يتلقى منها طعنة حادة وظل يتأمل وجهها المدفون بين شعرها الأحمر حتى قال "نادمة؟"
رفعت وجهها له بعيون متسائلة وقالت "على ماذا؟"
اقترب حتى وقف أمامها وقال "على زواجنا؟"
هزت رأسها بالنفي وقالت "هل تراني امرأة نادمة تريد إيقاف ما يحدث لها؟"
أبعد شعرها عن وجهها وقال "الانتقام كان يعميني ملاك"
قالت بتفهم "أعلم وقد منحتك العذر لم فعلت"
شعر بالألم أكثر وقال "وماذا تنتظرين مني؟"
لم تفهم سؤاله ولكنها قالت "لا شيء أكثر مما تمنحه لي، ذلك البيت وتلك الأسرة وأبوتك وحنانك لابننا"
مرر يده على وجنتها وقال بنبرة حانية "وأنتِ؟"
أخفضت وجهها فقال "ألا تريدين مني شيء لك أنتِ؟"
رفعت وجهها له مرة أخرى وتمنت أن تخبره أنها تريد قلبه، حبه، قربه إلى الأبد ولكن هل يحق لها أن تفعل؟ رن هاتفه فأوقف تلك اللحظة الحاسمة بحياتهم فابتعد عنها للهاتف وأجاب
ابتعدت هي الأخرى تمسح دموعها وعندما انتهى هو عاد لها وقال "لم ننتهي ملاك"
التفتت له فوجدته ينظر لها بقوة وأكمل "ماذا تريدين مني؟"
قالت بلسان مثقل مما يقول "وهل يحق لي أن أفعل"
ظل ينظر لها ثم قال "إذن أطلب أنا"
رفعت وجهها أكثر بانتظار طلبه، فوجدته يجذبها له من يدها ليضمها له وينظر بعيونها بنظراته الناعسة وهمس "ليست الرغبة فقط هي ما تربطنا ملاك أليس كذلك؟ هناك شيء آخر بدأ بيننا منذ تلك الليلة لم يستطع كلانا مقاومته، أنا أيضا أردتك منذ تلك الليلة ولم أتخيل أن يحدث كل ما حدث وهذا الشيء يكبر بيننا ويزيدنا ارتباط أليس كذلك ملاك؟"
أراحت يداها على صدره العاري ولم تبعد عيونها عن عيونه وهي تهز رأسها بالموافقة فانحنى لوجهها وهمس "وما هو هذا الشيء ملاك؟ أخبريني ما الذي تكنيه لي؟ هيا أخبريني أنك لن تذهبي وأن فارق العمر بيننا لن"
قاطعته وهي ترفع يداها لتحيط وجهه بهما "لم ولن يكون عقبة بيننا أبدا يوسف، أنا لن أذهب عنك أبدا ولو أردت لفعلت يوم رحل ما ظننت أنه يربطنا، أنا لن أرحل إلا لو طلبت أنت مني أن أفعل"
ولأول مرة يفلتها ويضع يده على يدها ليقبل راحتيها ويحتضنهما وهو يقول "لم يمكنني أن أفعل ملاك، وقتها أخبرتك عن الديون كي أوقف رحيلك، أنا أريدك معي زوجة للأبد وأم لأولادي وحتى لو طلبت منك بأي يوم الرحيل فلا تفعلي واعملي أني لا أريد إلا وجودك معي فهل تعديني بذلك؟"
ابتسمت بدموع وما زالت يدها بيده وقالت "أعدك يوسف، أعدك أن أكون معك بالسراء والضراء وحتى نهاية عمري"
ترك يدها ليحيطها بذراعيه ويضمها له بقوة وأحاطته هي بذراعيها بقوة وكأن اليوم فقط أعلن المأذون زواجهم، همس من بين خصلات شعرها "كنت أعلم أن لا ذنب له برحيلها ملاك، كنت أعلم أنها رحلت من أجل رجل آخر"
بالطبع أدركت كلماته عن والده ووالدته وقد انفك لسانه معها، لم تبعده وتركته يكمل ولكن هو أبعدها ونظر بعيونها بنظرات متألمة وأكمل "بعد رحيلها كنت أظن أنه السبب ولكن ما أن دخلت مجال العمل مع أبي حتى تفتحت دائرتي وبمرة قابلت ذلك الرجل من ضمن رجال الأعمال الذين أعرفهم بالخارج"
تركها واتجه للسجائر، أشعل واحدة ثم أكمل دون أن ينظر لها "لم أعرفه وقتها وهو اختفى فجأة بعدها عرفت أنه هو الرجل الذي تزوجته هي، لم أحاول أن أتبعهم كنت كبيرا بما يكفي لأدرك أنها اختارت الحياة التي تمنتها والرجل الذي أرادته ولم أحاول حتى رؤيتها فقد أدركت أنها لا تريد أن تعود للماضي الذي هو نحن"
لم ترد وهي تسمعه فالتفت لها وقال "أنا أخبرته قبل أن يرحل أني أعلم الحقيقة لم يرحل وهو يحمل ذنبا لا شأن له به هي من فعلت، هي من ضحت بنا من أجل نفسها ولم تفكر يوما بأولادها ولم تنظر يوما خلفها لترى ما هدمته برحيلها"
قالت "لم تهدم"
تأملها بعيون مظلمة فاقتربت حتى وقفت أمامه وقالت "ها هو أنت رجل أعمال ناجح الجميع يهرع لملاحقتك بأنفاس متقطعة والدك عاش من أجلكم ولم يرتد للخلف صنع عائلة تحب بعضها البعض، هي لم تهد إلا نفسها، حرمت نفسها من أولادها وإذا لم تندم فلا تلوم نفسك"
قال بضيق واضح "لا أفعل ملاك ولكنها حرمتنا نحن من الأم، حياة كانت صغيرة وبحاجة للأم، أنا وبابا دللناها كثيرا حتى أصبحت لا تستمع إلا لنفسها وكان مصيرها ما تعرفيه جيدا، لو كانت تلك المرأة هنا ما حدث ذلك"
قالت ببساطة "رحلت أمي وأنا أصغر من حياة يوسف وأيضا عشت مع أبي وأخي ولم نختلف كثيرا كلانا أخطأ ليس لأن أمنا ليست موجودة ولكن لأننا أحيانا كثيرا نفقد عقلنا ونسير وراء قلوبنا"
ظل صامتا قبل أن يقول "ولكن ما كنت أنت به من أفعال حمزة جعلك تتخذين عقلك سبيل فمتى اتبعت قلبك؟"
ظلت تنظر له وظنت أنه سيفهم متى اتبعت قلبها وضعفت وعندما لم يفهم خافت من التصريح بمشاعرها ما زال هو لم يصرح بمشاعره وربما هو لا يعرف الحب ولا يعترف به لذا ابتعدت من أمامه وقالت "لا يهم متى ولكني فعلت، وهي أيضا فعلت وكلا منا لديه لحظة ضعف يهجر فيها العقل ويسير وراء المشاعر وهي فعلت يوسف"
التفتت له مرة أخرى وقالت "من الواضح أنها كانت تحبه ولم تستطع أن تنساه مع والدك لذا ما أن عاد لحياتها حتى أحيا تلك المشاعر بها مرة أخرى، الحب له قيود صلبة يوسف وأكثرنا لا يستطيع أن يكسرها ويتحرر منها"
اقترب منها حتى وقف أمامها وحدق بوجهها قبل أن يقول "الحب؟"
احمر وجهها وشعرت بقلبها يعود لجنونه وتسمرت عيونها بعيونه وكأنها التصقت بها وهو يكمل "أي حب؟ هل حقا هناك حب مولوكيلا؟"
هزت رأسها ولسانها لا يطاوعها على الحديث ولكنها قالت "نعم، هناك حب بكل مكان"
رفع يده لوجنتها كما يحب أن يفعل وقال "وهل عرف قلبك الحب؟"
كادت ترد عندما عاد هاتفه للرنين مرة أخرى فعفاها من الإجابة وهو يبتعد ويقول "يؤسفني أن أخبرك أني لابد أن أذهب"
أجاب الهاتف وابتعدت هي لتلتقط أنفاسها بعد أن كاد قلبها يفضحها وسؤاله كاد يحطم الأسوار التي تحتمي خلفها وتخفي مشاعرها وراءها..
انتهى وقال وهو يتقدم للحمام "هل تعدي لي حقيبتي سأسافر بالفجر ملاك"
نظرت له ولكنه تحرك للحمام دون أن ينتظر أي جواب وهي شعرت بضيق يأخذ روحها منها وهي تراه يعود لنفسه وقد خلع عنه رداء الحزن واتخذ العمل واقي له من الأحزان
قبلها برقة وقال "هذا الحزن بعيونك يمنحني شعور سيء لباقي اليوم من المفترض أنك اعتدت غيابي ملاك"
قالت بصدق "لا، لم أفعل يوسف والآن سيصعب الأمر أكثر بغياب والدك ماذا سأفعل وحدي؟ دعني أسافر معك"
داعب وجنتها وقال "ليس لديك جواز سفر مولوكيلا وحامل وأنا لا يمكنني تعريضك لهذا المجهود مرة أخرى أعدك ألا أتأخر كالمرة السابقة، لا تنسي إعداد الحقيبة"
ثم قبلها مرة أخرى بعجلة وذهب وتركها وهي تتابعه بعيونها الحزينة وتحركت للنافذة لتراه يركب السيارة ومنحها نظرة قبل أن يفعل والسائق ينطلق به..
مرت الأيام بطيئة بعد رحيله كان يهاتفها بالصباح والمساء وهي تنتظر رنين الهاتف لتجيبه وتسمع صوته بسعادة واضحة بصوتها وللأسف لم يفي بوعده وطال غيابه واعتادت البقاء وحدها ولم تجد سوى القراءة لتكون شريكها بغيابه
بالصباح دق باب غرفتها فأذنت لترى زينب تقول "مدام زينة بالأسفل مدام"
نظرت لها ولم تتفاجأ فقد توقعت تلك الزيارة منذ وقت بعيد واندهشت لأنها لم تفعل، القراءة منحتها الكثير من الرؤيا البعيدة للمشاكل
قالت بهدوء "سأبدل ملابسي وأقابلها زينب، هل لي بفنجان قهوة عندما أنزل؟"
ابتسمت زينب وهي تنظر لجسد ملاك الذي تبدل بسبب الحمل فهي بأواخر الشهر الثالث وقد أصبحت أفضل حالا، أجابت زينة "حاضر مدام طالما تناولت كوب اللبن الصباحي"
ابتسمت ملاك وقالت "لا أعلم ماذا كنت سأفعل بدونك زينب؟"
قالت زينب "أنت تستحقين مدام"
وخرجت زينب وبدلت هي ملابسها وتحركت للأسفل حيث غرفة الضيوف لترى زينة تقف أمام النافذة الزجاجية فقالت "أهلا مدام زينة"
التفتت زينة لها بجمالها الفاتن وجالت نظراتها بملاك وكأنها تفحصها وملاك تتقدم لتقف أمام أحد المقاعد بينما قالت زينة "أهلا بك ملاك، بالطبع زيارة مفاجأة؟"
حاولت أن تبدو هادئة وهي تقول "ربما، هل تفضلين الجلوس؟"
جلست ملاك التي كانت تحاول ألا تجعل زينة تجرفها لطريقها من الغضب أو الضعف، تحركت زينة وجلست أمام ملاك ووضعت ساق فوق الأخرى لتظهر ساقيها العارية بشكل مثير وقالت
“عرفت أن يوسف رحل إلى نيويورك؟ ظننت أنه سيصحبك معه!؟"
قالت ببرود "لا أحب السفر ولا أحب تقييد يوسف بوجودي أثناء العمل"
ضحكت زينة بسخرية وقالت "زوجة عاقلة جدا، هل يوسف يعرف بعلاقتك بذلك الرجل وحيد بسيوني"
ضاقت عيون ملاك من ذكر الاسم ولكنها قالت "نعم يعلم، لكن ما دخلك بالأمر؟"
لم تذهب ابتسامة زينة وهي تقول "وهل يعلم أنك كنت على علاقة به وما زلتِ؟"
نهضت ملاك واقفة بعصبية وقالت "بالتأكيد تعرفين حدودك بالحديث مدام"
لم تنهض زينة وهي تقول "لا حدود لدي ملاك"
دخلت زينب بالمشروبات ومدت بكوب الشاي لزينة التي أعادته لمكانه بينما تركت زينب القهوة لملاك وخرجت فقالت ملاك "لا زينة عندي أنا وستجدين لنفسك حدود لأني لن أسمح لك بتجاوزها"
ضحكت زينة مرة أخرى وقالت "هل تظنين أنك تخيفيني بكلماتك هذه يا فتاة، أنت لا يمكنك أن تفعلي وأنت مجرد"
قاطعتها ملاك بقوة "الزمي حدودك زينة وإلا فاعتبري الزيارة منتهية، لن أسمح لك بأي إهانة ببيتي واعرفي أن كلماتك لا تهمني على الإطلاق وليس لي رغبة بسماعها لذا فالشاي وهو دافئ أفضل من بارد ليتك تتناولينه"
شحب وجه زينة ونهضت لتقف أمام ملاك وقالت بقوة "سأخبر زوجك بعلاقتك بوحيد، لابد أن يعلم أن زوجته ما هي إلا خائنة لا تريد إلا أمواله"
قالت ملاك بنفس قوتها "وماذا تريدين أنت زينة؟"
تراجعت زينة قليلا قبل أن تقول "استعادة ما هو لي ملاك، يوسف كان لي ولابد أن يعود لي، لن تناله فتاة مثلك مجرد حشرة أدهسها بإصبعي الصغير، سترحلين من هنا قبل عودته وإلا"
قاطعتها ملاك بحزم "أنت من سيرحل الآن من بيتي زينة وتهديدك هذا احتفظي به لنفسك فهو لا يهز شعرة من رأسي، يوسف يعرفك جيدا ولن يأخذ أي كلمات من امرأة مثلك لا تمثل أي مجال للثقة، أما وحيد فأنصحك ألا تضيعي وقتك الثمين معه لأن لا شيء لديه ضدي ولو كان فتأكدي أنه كذب وخداع، أما زوجي فهو لي ولن يكون لسواي"
احمر وجه زينة من كلمات ملاك ولكنها لم تقبل الهزيمة وهي تقول "يوسف سيعود لي، أنت مجرد نزوة بحياته"
هزت ملاك رأسها بالنفي وقالت وهي تعلم أن زينة لم يعد لديها أي أسلحة أخرى "النزوة ليست زواج زينة، ما بيني وبينه ليس علاقة عابرة سيمل منها كلانا ونفترق، لا زينة ما بيننا زواج علاقة تقوم على المودة والرحمة أمور أنت لا تعرفيها لذا ارتاحي وكفي عن تصرفاتك هذه لأنها لن تمنحك إلا نتائج مؤلمة لكِ أنتِ، يوسف لو أرادك لأعادك قبل أن يربط نفسه بزوجة وبيت وأسرة فلا تبني قصور من رمال تنهار من أول ريح بسيطة"
ظلت زينة تنظر لها بصمت وعيونها جامدة لا تنطق بأي كلمات وملاك ترد لها النظرة حتى قالت زينة "لا تظنين أنه سيحبك بأي يوم فهو لا يعرف الحب"
رفعت ملاك وجهها بكبرياء وقالت باقتناع "لا يوجد أحد لا يعرف الحب زينة، الحب يسكن كل القلوب؛ منا من يفسح له ليتملكه ومنا من يحبسه داخل قضبان الكره والحقد ويوسف لا يكره ولا يحقد لذا هو يعرف الحب وعندما سيفسح للحب مكان سيكون حبه لي أنا زوجته وشريكته بالحياة وأنا أمامي العمر كله لانتظاره"
اهتزت زينة من كلمات ملاك ولمعت دمعة بعيونها فرمشت بها بعيدا والتفتت لتجذب حقيبتها وقالت "أنا لم أكن أهدد ملاك سأخبر يوسف عن وحيد"
ابتسمت ملاك وقالت "ولا أنا أمزح زينة يمكنك أن تفعلي"
ظلت زينة تنظر لها بقوة قبل أن تتحرك للخارج ولم تلتفت ملاك لتتبعها حتى بنظراتها وتعلق ذهنها بكلماتها عن وحيد وما يدبره لها ولم تنسى رسالته ولكن ما بث بعض الطمأنينة بقلبها أنها تخبر زوجها بكل شيء وهو يعلم أنها لا تكذب بأي كلمة أخبرته بها ومع ذلك عاد الخوف يتملكها

يتبع..

بريئة    بقلمي داليا السيدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن