بعد ظهر يوم عاصف, عاد نيل ماكبان إلى مسقط رأسه قرية شيلباك في اسكتلندا.
في غرفة الصف, كانت "اليزون ماكاي" تستمع لصغير "ويلي" الذي ينشد الاستظهار,
عندما لمحت من خلال الأشجار والمطر سيارة زرقاء. فنهضت واتجهت نحو النافذة.
"تابع, ويلي" أمرت الصغير. من يأتي في آواخر أيار هذا الفصل البارد إلى هذه البلدة
التي تموت في الشتاء؟.
لمع البرق في البعيد, وسلكت السيارة الزرقاء الطريق
الوحيد لتتوقف قرب البحيرة
ارتعشت اليزون رغم النار المشتعلة في المدفأة في زاوية الصف.
خرج رجل من السيارة وعبر الشارع راكضا واختفى في داخل احد المنازل,منزل العجوز ماكبان.. سكت الصغير
ويلي, فالتفتت نحوه. "جيد, ويلي, بامكانك الجلوس".
إنها الساعة الثالثة والنصف, لا مجال لمتابعة الدرس,
بسبب العاصفة, الأطفال أصبحوا متوترين
واثنان منهم بدو مرعوبين. "ارتدوا معاطفكم. ساسطحبكم إلى منازلكم".
من حسن حظها أنها جاءت اليوم بسيارتها, مع أن منزلها لا يبعد سوى مسافة كيلومتر واحد.
لكن يكفي ان تخطو خطوة واحدة تحت وابل المطر هذا حتى تبتل كليا.
أوصلت كل تلميذ من تلاميذتها الستة إلى منازلهم. "فيغونا" الصغيرة كانت جارة العجوزما كبان الذي كان
منزله مضاء كله. يبدو أن العجوز يستقبل ضيفا هاما.
كل القرية كانت على علم بالنزاع القيم القائم بين عائلتي ماكبان وماكلي.
"يا له من طقس رديء اليوم!" قالت اليزون وهي تدخل إلى المطبخ حيث إستقبلتها جسي مبتسمة.
"إجلسي, ساضع الشاي على النار". "إرتاحي, أنا سأفعل ذلك عنك"..
"لا مجال لذلك" إعترضت مدبرة المنزل التي تبلغ الخمسين من عمرها.
"في هذا المنزل, لا أحد يعرف كيف يعد الشاي غيري". ضحكت اليزون بمرح وهي تجلس.
"أعرف ذلك, أرجو ان تعذريني" ثم أضافت متنهدة:"أوه, جيسي, ماذا كان سيحل بنا
أنا ووالدتي, بدونك؟". كانت جسي قد دخلت في خدمة آل مكاي قبل ولادة اليزون وشقيقها أليك
الذي يكبرها بخمسة أعوام. هاجر أليك بعد زواجه إلى كندا. أما السيد ماكاي فقد توفي
إثر حادث طائرة وتقسيم الأرث أتى أخيرا على بقية ميراث العائلة كما وأن شركة مكاي
للهندسة أفلست وباعت مكاتبها. على الأقل جسي بقيت, واليزون متعلقة بها كثيرا.
"والدتك بمزاج غريب هذه الأيام. بدل أن ترسم في مشغلها كالعادة, أراها تروح تجيء
في المنزل وقد إرتسمت على وجهها ملامح لم نكن نعرفها من قبل.. أظن بأنها على وشك إتخاذ
قرار مهم..". "بشأن القصر؟" سالتها الفتاة وقد شحب لونها. "أخشى ذلك" أجابتها جسي.
"منذ أيام وهي لا تكف عن القول لي بأن المنزل أصبح كبيرا حدا علينا نحن الثلاثة,
وأنه بحاجة للترميم, هذا بالإضافة للضرائب.."..
"كثيرا ما كانت تردد هذا..". "لكنها هذه المرة. يا ابنتي, تتكلم جديا.
بيننا, اليست على حق؟ راتبك الشهري والشيكات النادرة التي يرسلها أخوك من كندا,
وثمن لوحات والدتك لا تكفي لتغطية نفقات منزل بأهمية آل روسبرين".
لا يمكنها التخلي عن القصر أنه ينتمي لعائلتنا منذ أجيال طويلة! كما وأن هذا القصر الكبير
لن يجد له شار". "أوه, جسي". "إسألي والدتك, ولكن بهدوء كي لا تزيدي همها".
"أعدك بذلك. ربما نجد حلا.. من يدري؟". رغم مظهرها المرح, كانت اليزون فتاة حساسة جدا.
تحب هذا القصر من كل جوارحها, وتعشق الجبال الحيطة به وبالبحيرة. بينما هي تغادر المطبخ,
لمع البرق وشق الظلام, فاجتاحتها رعشة هزت كل أوصالها. في المساء.
وبينما هي تصحح دفاتر فروض تلاميذها, رفعت رأسها ونظرت إلى وجه والدتها فلاحظت قلقا غير عاديا
في عيون المرأة الصريحة الشفافة. لم تتحمل مخاوف الشك طويلا, فتركت القلم من يدها,
وقالت بصوت هادئ:"أمي.. ماذا حصل؟ قولي لي بدون لف ولا دوران"..
جحظت عيون الوالدة التي تظاهرت بالدهشة, لكنها لم تكن بارعة في الكذب.
أحست الفتاة بإنقباض في قلبها أمام الحزن في نظرات والدتها, من كان يعتقد أن هذه المرأة
الجميلة الرقيقة, كانت مصممة ديكور لامعة؟ وكانت قد خلت عن مهنتها بعد زواجها من روبرت
ماكاي وكرست كل موهبها للرسم. "أنا.. لا أفهم". لكن ترددها فضحها.
فنهضت اليزون وجلست بجانب قدميها وأسندت رأسها على ركبتي والدتها.
"أوه, امي! إننا قلقون عليك جسي وأنا. هناك شيء يقلقك, اشعر بذلك. وبما أنك ستخبريني
عاجلا ام آجلا, فلماذا لا تفعلين الآن؟".تنهدت الوالدة واخذت تداعب شعر ابنتها. يا عزيزتي.
كان يجب أن أفتح هذا الموضع معك, أنت أول من يعلم.." تقطع صوتها من شدة الإنفعال فسكتت قليلا
ثم أضافت بصوت أكثر حزما. "نحن مضطرون لبيع روشبرين.. ليس لدينا خيار آخر".
حبست اليزون دموعها التي تحرق عينيها. "إذا لم نكن مخطئين, أنا وجسي..".
"لقد فكرت مليا.وإتخذت قراري رغما عني إذا لم أخبرك من قبل,فهذا لأنني كنت أتمنى حصول معجزة..
أرسلت رسالة منذ مدة للسيد ستيوارت محامي العائلة.. تصوري أن هناك شخص إتصل به في السنة
الماضية وتوسل إليه كي يتصل به في حال عرض قصر الروشبرين للبيع! بدون شك,
وهو شخص يعرف القصر جيدا. إتصل بي السيد ستيوارت منذ إسبوع وأخبرني بأن هذا الشخص يرغب
بمقابلتي. لهذا السبب أنا متوترة". أضافت وهي تربت على كتفي إبنتها بحنان.
"بالتأكيد يوجد حل آخر!" صرخت اليزون. "ليت ما تقولينه حقيقة! ولكنك تعلمين أن هذا المنزل
في الشتاء هو أشبة بالثلاجة, وبحاجة لجهاز تدفأه مركزي..
في الماضي عندما كان الضيوف يترددون على القصر كانت النيران تبقى مشتعلة في كل الغرف,
وكان لدينا الكثير من الخدم. بينما الآن إمكانياتنا معدومة تقريبا, وجسي لم تعد قادرة على
العمل في هذا المطبخ الواسع المليء بتيارات الهواء". التفتت اليزون نحو بوبي الكلب الطيف,
فرأته مما أما المدفأة. فمدت يدها وداعبت رأسه. "أمي.. واين سنسكن؟".
"فكرت بمنزل الحديقة. فهو لم يستعمل منذ مدة طويلة. وبحاجة لبعض الإصلاحات, لكنه يناسبنا
نحن الثلاثة..".
"لن نتمكن من بيع القصر بدون هذا البيت التابع له".
"بلى يا ابنتي. بإمكاننا أيضا الإحتفاظ بالحديقة المحيطة به. كما وأنه يطل على مناظر رائعة".
كل هذا صحيح. ولكن هل ستتمكنان من العيش قرب قصر العائلة عندما سيسكنه غرباء؟.
صعدت الرزون إلى غرفتها ولم تخبرها عن الشيء الأساسي الذي يشغل بالها كي لا تزيد من همومها.
ستقفل مدرسة القرية أبوابها في عيد الميلاد القادم, لأن عدد التلاميذ ليس كافيا,
وبذلك, تفقد اليزون عملها أيضا. تنهدت وأطفأت النور علها تستطيع النوم.
في صباح اليوم التالي. كانت الشمس تشرق في السماء. بينما اليزون تراقب التلاميذ في
الفرصة الصباحية, لمحت نفس السيارة الزرقاء, تتوقف أمام منزل العجوز ماكبان وينزل منها
رجل لكن قبل أن يدخل إلى المنزل, نظر طويلا نحو المدرسة..
أدارت اليزون وجهها بسرعة وكأنه يراها. ولم تحاول أن تترك العنان لخيالها.
فإذا عاد أحد أبناء ماكبان فهذا الخبر سيسري بسرعة في البلدة!.مع أنها لم تتبين ملامح الرجل,
إلا أن مشيته وطول قامته مألوفين نظرت من جديد باتجاه المنزل الذي يسكنه فيرغوس ماكبان.
وحده كان لديه اربعة أبناء, سافر أليسز وإيان إلى نيوزلندا بينما عمل دانكان ونيل في التجارة
البحرية. دانكان ونيل.. نيل الغامض والأكثر تهورا من كل أفراد عائلته التي ومنذ مئة عام هي
العدوة اللدودة لآل ماكاي. ولا تزال اليزون تذكر جيدا هذا الابن المدلل لأنه كان بنفس عمر شقيقها
أليك. منذ أجيال. منذ عام 1869 تقريبا, كانت هاتين العائلتين مترابطتين جدا.
لكن حصل ذات يوم أن أغرم هكتور ماكبان ودونالد ماكاي بامرأة واحدة لسوء حظهما.
وكانت تلك المرأة تتلذذ بإغراء الرجلين بنفس الوقت وكي يحلا هذه المشكلة,
اتجه الشابان نحو التلال, حيث لا يراهما أحد. في الإسبوع التالي, ركض راع نحو القرية ليروي
روايته المرعبة. كان قد قصد ذلك المكان بحثا عن أحدى نعاجه التي تسلقت التلال الصخرية الممتدة
حتى البحر, كان شاهدا على عراك بين متنافسين تدحرجا أثناء عراكهما على الأرض الجرداء وسقطا في
الفراغ. عندما وصل الراعي إلى حافة المنحدر, كان قد فات الاوآن, ولم ير في الأسفل سوى الأمواج
المزبدة. منذ ذلك اليوم فرق كره كبير وحقد بين هاتين العائلتين, بعض أهالي القرية يقولون بأن
الغيرة ليست وحدها الدافع لهذا العداء, وأن هناك مسألة تهريب الكحول بطرق غير قانونية.
لم تعرف اليزون شيئا عن حوادث تلك القصة, نشأت وعاشت في قصر آل روشبرين التي تملكه عائلة ماكاي
منذ أجيال, أما العجوز ماكبان, فهو يعيش في منزل والده وجده الصغير, لأن قصر عائلته الواقع قرب
الروشبرين كان فريسة للنيران سنة 1872, وهكذا فقد آل ماكبان قصرهم وثروتهم.
ارتعشت الفتاة عندما تذكرت هذه الأحداث المأساوية..
بعد إنتهاء الفرصة عادت اليزون إلى غرفة الصف منهارة, أهذا بسبب إقفال المدرسة الحتمي أم
بسبب بيع القصر؟ أحست بصداع قوي وإنتظرت بفارغ الصبر ساعة الإنصراف.
جلست في مكتبها قليلا ورفعت نظرها نحو النافذة. هناك بجانب البحيرة يشمخ قصر الروشبرين الذي
لا يظهر سوى سقفه بين الأشجار, هل ستجد الشجاعة على مغادرة منزل طفولتها؟ تساءلت بإنقباض في
قلبها بينما إنهمرت الدموع على خديها, لامت نفسها على تصرفها الطفولي, اليست والدتها على صواب؟
كيف تستمران في العيش بهذا المنزل الكبير الذي بات بحاجة لبعض الترميم؟
يجب اصلاح السقف, والسلم الداخلي والإهتمام بأشجار الحديقة وساحة الميدان..
تنهدت ومسحت دموعها أمام المرآه الصغيرة التي خلف الباب, بسبب طبيعتها المتواضعة لم تكن
اليزون واعية لجمالها, ولإشراق وجهها, كانت مميزة بفمها الرقيق وعيونها الخضراء التي تحيط بها
رموش طويلة وتعلوها حواجب مقوسة, سرحت شعرها الأسود الطويل ثم خرجت من المدرسة بعد أن
إختفى صداعها, وإتجهت نحو متجر القرية الوحيد الذي هو عبارة عن دكان سمانة وصيدلية ومكتب بريد
في نفس الوقت. في اللحظة التي التفتت فيها لتسلم على إحدى معارفها, إصطدمت برجل كان يخرج لتوه
من المتجر, الصدمة قطعت أنفاسها, للحظة أمسكتها يدان قويتان منعتاها من السقوط.
رفعت نظرها بدهشة وإبتعدت بسرعة عن ذراعي المجهول..
الذي لم يكن سوى نيل ماكبان, نيل الغامض الذي كان ينظر إليها نظرة غريبة..
إستعادت أنفاسها ودخلت بسرعة إلى المتجر. "كنت أريد رسائل جوية, لو سمحت, سيدة فنليسون"
سألتها بصوت لاهث, كانت لا تزال تشر بحريق كتفيها, هناك حيث وضع يديه,
إذا هو نيل الذي تكرهه أكثر من الآخرين, وهو الذي عاد إلى منزل والديه!.
"لن تحزري من خرج لتوه من هنا, آنسة ماكاي" قالت البائعة بمكر "إنه نيل الأبن المدلل لغيرغوس
ماكبان". "اعلم" أجابتها اليزون بجفاف. "آه, كنت قد نسيت تماما! منذ مدة طويلة,
هاجر أبناء ماكبان المنطقة بينما هاجر أخوك أليك إلى كندا,
كنت أعتقد أن هذا النزاع القديم دفن.. طبعا, هذه المسألة لا تعنيني, ستقولين لي.."
"إنها قصة قديمة" قالت لها اليزون وهي تصطنع الضحك كي لا تثير شكوك البائعة,
ثم دفعت الحساب وخرجت.
----------------------------
أنت تقرأ
روايات عبير : قد تحدث معجزه
Romanceالملخص لا شيء يسير على ما يرام مع أليزون.. ستقفل المدرسة التي تعمل فيها أبوابها بعد العطلة السنوية.. ترى نفسها ايضا مرغمة على بيع قصر العائلة الذي عاشت طفولتها ومراهقتها, والأسوأ من ذلك كله كان أن نيل ماكبان جارها وعدوها اللدود عاد إلى القرية..كي...