تحولت نظرات الغضب إلى بهاء، الذي نزل من سيارته وهو يقف في انتظارها، كانت عيناه تلاحقانها على أمل أن تأتي مسرعة إليه.
تحول نظرها الى نجوى قائلة بصوت هادئ لكن حازم: سأحاسبك فيما بعد.
ثم التفتت، لتجد أنس لا يزال يقف خلفهم، يأخذ مكانه بتعجب. تأبطت ذراعه، وابتعدت عن بهاء، كأنها لم تعرفه قط، أو كأن وجوده لم يعد يعني لها شيئًا. لم تكترث بنظراته أو بتصرفاته، بل مضت في طريقها دون أن تلتفت إليه.كانت الشمس تميل نحو الغروب، والسماء تتلون بأطياف برتقالية، لكن نجوى لم تلاحظ شيئًا من ذلك. كانت عيناها مشدودتين إلى بهاء، الذي يسير بخطوات سريعة نحو سيارته، والغضب متجسد في كل حركة من حركاته. ملامحه كانت صارمة، متجمدة، وكأنها تخفي خلفها عاصفة عاتية على وشك الانفجار.
شعرت نجوى بقلق يعتصر قلبها، لم يكن ذلك القلق من بهاء وحده، بل كان يتوزع بين ما يشغلها من خلافها مع صديقتها، أسيل، وما قد يتطور إليه الوضع بين بهاء وأسيل. شعرت كأن الخيوط تتشابك حولها بلا قدرة على فكها.
أدركت أنها لا تستطيع الوقوف مكتوفة اليدين، فجمعت شجاعتها وركضت نحوه بخطوات مضطربة."بهاء!" نادت باسمه بصوت عالٍ، كانت نبرتها تحمل خليطًا من الرجاء والخوف. لكنه لم يتوقف. واصل سيره حتى وصل إلى السيارة وأمسك بمقبض الباب، كأنه يحاول الهروب من كل شيء.
ازدادت نبضات قلبها وهي تقترب منه شعرت بأن الكلمات تخرج من بين شفتيها بصعوبة: انتظر... أرجوك!
توقف فجأة، وكأن صوتها تمكن أخيرًا من اختراق الجدار الذي بناه حول نفسه. بقي ظهره مشدودًا للحظة قبل أن يلتفت إليها ببطء. التقت عيناه بعينيها، وكانت نظراته مزيجًا من الغضب والاستياء، وكأنهما مرآة تعكس اضطرابه الداخلي ثم سأل بصوت هادئ ظاهريا رغم أنه كان مثقلا بحواف حادة تكاد تقطع:
ماذا هناك يا نجوى؟وقفت نجوى أمام بهاء وقد بدا عليها الارتباك. لم تكن تعرف كيف تبدأ الحديث، لكن صمت اللحظة كان ثقيلًا جدًا ليترك الكلمات ترتب نفسها. تنفست بعمق، ثم قالت بصوت مهتز: بهاء، أنا آسفة... آسفة على كل ما حدث. فقط أردت أن أوضح لك شيئًا، أسيل وتلك الولد... لا يوجد بينهما أي علاقة، أقسم لك أن الأمر ليس كما يبدو...
لكن كلماتها لم تكتمل. قاطعها بهاء فجأة بنبرة حادة، عيناه تشتعلان غضبًا لم يحاول إخفاءه:لا تعتذري يانجوى. لا حاجة لذلك لا يوجد شيء يستدعي الأسف. توقّف للحظة، وكأنه يحاول كبح جميع عواطفه قبل أن يضيف ببرود يكاد يجمّد الهواء بينهما: لقد رأيت التصرف الصبياني الذي قامت به أسيل. أشكرك لأنك حاولت مساعدتي، والآن ها قد انتهى الأمر .
تراجع خطوة للخلف، ناظرًا إليها بنظرة صارمة لا تخلو من خيبة الأمل، قبل أن يكمل: اذهبي إليها وأخبريها شيئًا واحدًا فقط... أن تحذفني من حياتها بشكل نهائي.ترك كلماته تتردد في الهواء كصفعة قاسية، قبل أن يدير ظهره لنجوى ويتجه نحو سيارته. أمسك بمقبض الباب وفتحه بحركة عنيفة، وكأن كل غضبه انعكس في تلك اللحظة. لم ينظر خلفه، ولم ينتظر أي رد منها، وكأنه قد أغلق الباب ليس فقط على سيارته، بل على كل ما يربطه بأسيل.
وقفت نجوى مكانها، جسدها ثابت لكن عقلها ينهار تحت وطأة الأفكار المتضاربة شعرت أن الهواء من حولها قد أصبح أثقل، وكأن الكلمات التي ألقاها بهاء علقت في أذنيها، تعيد نفسها بلا توقف.كانت الحيرة تمزقها كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ هل كان بإمكانها أن تفعل شيئًا لتجنب هذه الفوضى؟ ثم تسلل القلق إلى أفكارها، وأدركت أن المواجهة القادمة ستكون مع أسيل. تخيلت وجه أسيل، ملامحها المشدودة، وكلماتها القاسية. هل ستفهم ما حدث؟ أم ستلقي عليها اللوم؟ فكرة أن صداقتهما قد تنتهي بسبب هذا الخلاف جعلت قلبها يثقل بحزن لا يمكن احتماله. شعرت كأنها تقف في منتصف طريقين متعاكسين، كل واحد منهما قد يؤدي إلى خسارة شخص ما. كانت تلك اللحظة أشبه بصمت خانق، صمت يُثقل روحها ويدفعها لإعادة التفكير في كل كلمة قالتها وكل خطوة اتخذتها. لكنها، رغم كل شيء، لم تجد جوابًا يريحها فقررت أن تلاحق أسيل و تواجه الواقع متحملة العواقب.
كانت أسيل لا تزال تسير بجانب أنس على الرصيف، خطواتها بطيئة وكأنها تحاول إطالة الخطوات الى وقت محدود أو ربما الهروب من التفكير في شيء آخر. بدا الجو حولهما هادئًا، لكنه لم يكن كافيًا لتهدئة الصراع الذي يدور في داخلها.
على الجانب الآخر، كان أنس يفيض حماسة. ابتسامة عريضة لم تفارق وجهه، ويداه تتحركان بتوتر واضح .
وفجأة، قطعت أجواءهما الهادئة صوت محرك سيارة ينطلق بسرعة جنونية. مرت سيارة بهاء بالقرب منهما، وكأنها سهم يشق الهواء. كانت قيادته متهورة، والسرعة التي تحرك بها حملت معها غضبًا صامتا لكنه واضحا كالشمس. نظرت أسيل سريعًا إلى السيارة، قلبها ينبض بقوة وكأنها توقعت هذا اللقاء العابر، حاولت إخفاء ارتباكها، لكن ملامحها خانتها للحظة.
أما أنس، الذي كان غارقًا في نشوة اللحظة، لم يلحظ شيئًا مما حدث.
بعد صمت قصير، استجمع أنس شجاعته أخيرًا وقال بصوت مليء بالحماس: لم أكن أعلم أنك تشاركينني نفس الشعور... كنت أظن أن الأمر مجرد أحلام في رأسي.كانت كلماته مليئة بالفرح، وكأنها لحظة انتصار طال انتظارها، لكن تلك الفرحة اصطدمت بصوت أسيل البارد الذي أوقفه في مكانه. توقفت فجأة، وعينيها تتوهج بغضب مكبوت، ثم قالت، وكل كلمة تخرج منها كالبركان: أنت! لا تقترب مني مجددًا، ولا من طريقي أحذرك، أنس، لا أريد أن أجعلك أضحوكة أمام الجميع.
كانت كلماتها حادة، وكأنها تُسحب من فمها بقوة، تملؤها مشاعر مكبوتة لا يستطيع أحد رؤيتها سوى هو، شعر أنس بشيء ثقيل يسقط في صدره. تحولت دهشته إلى ألم مميت، فما كان يظنه بداية لفرحة مشتركة أصبح الآن شتاءً قارسًا في قلبه.
عدل نظرته ببطء، غير قادر على استيعاب الموقف، ثم قال بصوت يتسرب منه التردد:لكنني ظننت... أنك تحبيني، و...لكن أسيل لم تتركه يكمل. عيونها التي كانت حتى لحظات مضت مليئة بالشكوك، تحولت إلى نظرات قاسية،و بسرعة بطريقة غاضبة، نزعت عنه تلك النظرات كما لو كانت عبئًا ثقيلًا، ثم رفعت قدمها بكل جنون وقذفت بها نحو الأرض. ضمت جسدها بحركة عنيفة وأخذت تدس بقدميها كل شظية، حتى تحولت تلك النظرات إلى قطع صغيرة متناثرة على الأرض.
فتح فم أنس قليلاً، وكأن صدمته كانت أكبر من أن يتحملها. وقف غير قادر على تصديق الأمر، وكأن قلبه قد تم تحطيمه في لحظة واحدة و الألم كان يعصره.
أسيل، التي كانت تقف أمامه مثل تمثال، قالت دون أن ترف عيناها:هذا هو الأمر، كي لا تقترب مني مجددًا، أو حتى تفكر في التربص بحياتي. وإذا لم تحترم هذا، فسأجعلك تندم على اللحظة التي ظننت فيها أنك تملك الحق في الاقتراب مني.
وقف أنس في مكانه، قلبه يئن من الألم، وهو يشاهدها تبتعد، تاركة إياه يواجه فراغًا لا يُملأ.
يتبع... ♡♕
أنت تقرأ
نسيج الظلام
Mystery / Thrillerتدور أحداث الرواية حول فتاة تدعى أسيل تعيش حياة عادية مُحاطة بحبّ والديها ورعايتهم. لكنّ سعادتها لم تكتمل بعد رحيل والدها تاركًا وراءه فراغًا هائلًا في حياتها. كبرت أسيل محاطة بظلال الحزن والوحدة، تبحث عن دفء الأب الذي لم تراه منذ أن كانت في السن...