السابع عشر ( فات الأوان)

321 25 13
                                    

ازيكم عاملين ايه
جاهزين؟؟؟
يلا نبدأ

في عتمة الليل وبين جدران ذلك المصنع المهجور، جلس هارون في المكتب الذي ملأته رائحة العفن والذكريات الثقيلة. كان ضوء المصباح يتأرجح من السقف، يلقي بظلال طويلة على وجهه الذي غمرته علامات الصدمة والخذلان. عكست عيناه عالمًا تحطم أمامه في لحظة واحدة.
قضى هارون سنواته الأخيرة يطارد طيف قاتل والدته، يقتفي آثارًا مبعثرة ويجمع خيوطًا متشابكة، لكن ما اكتشفه الليلة قلب عالمه رأسًا على عقب. القاتل لم يكن سوى تاجر مخدرات، رجل جشع حول حياة البشر إلى بضاعة تُباع وتُشترى. والأدهى من ذلك، الفكرة التي بدأت تلتهم روحه من الداخل: هل يمكن أن تكون أمه نفسها جزءًا من هذا العالم القذر؟
تدفقت في ذهنه صورها وهي تبتسم له، وهي تحتضنه، وهي توصيه بالسير على الطريق المستقيم. كيف؟ كيف يمكن للمرأة التي كانت تمثل نقاء حياته أن تكون متورطة في مستنقع كهذا؟
انكمشت يده على الورقة التي أوصلته إلى هذه الحقيقة القاتلة، ( معلومات عن الصياد) ثم ألقى نظرة على الورقة التي بها تفاصيل الصفقة القادمة مكتوبة عليها بخط واضح وها هو ينتظر التدريب. كان كل شيء مهيئًا: الوقت، المكان، الشركاء. ولكن هارون لم يكن يرى سوى أن هذا المخطط، الذي سيتورط فيه الآن، لم يكن سوى امتداد للحفرة التي حفرها بنفسه بحثًا عن الحقيقة.
وقف وسط الغرفة، الهواء ثقيل على صدره، وعقله يدور في دوامة من التساؤلات. هل يمضي قدماً في تنفيذ العملية ليكشف كل الخيوط؟ أم يتراجع الآن ويترك كل شيء خلفه؟ ولكن كيف يترك خلفه ذكرى والدته، تلك التي كانت حياته بأكملها تدور حولها؟
في تلك اللحظة، شعر وكأن الجدران تضيق عليه، كأنها تسخر من ضعفه وتردد قراره. تمتم بصوت متحشرج: "أمي... أهذا ما كنتِ تخفينه عني؟ أم أن الحقيقة مجرد فخ أوقعت نفسي فيه؟"
ثم أطلق زفرة طويلة، وفي عينيه نار مختلطة باليأس. كانت هذه الليلة هي الفصل الأهم في رحلته، لكنها أيضاً قد تكون نهايته.
من بعيد، بين الظلال المتراقصة بفعل ضوء المصباح المهتز، وقفت "عزة" تراقب المشهد بعينين مثقلتين بالحزن والندم. كانت تشهد انهيار هارون قطعةً قطعة، وهي تعلم يقينًا أنه بات الآن وحيدًا في دوامة صنعها بنفسه، رغم كل محاولاتها السابقة لتحذيره.
كم مرةً قالت له:
"يا بني، الطريق ده نهايته سودا، وأنت مش قد اللي فيه."
ولكن كبرياءه وإصراره على كشف الحقيقة أعماه، جعله يغلق أذنيه عن كل نصيحة.
عزة، التي كانت تعرف والدته عن قرب، تعلم الكثير عن الماضي الذي لطالما ظن هارون أنه واضح، لكنه لم يكن سوى سراب مخادع. ورغم ذلك، لم تستطع أن تجزم إن كانت والدته بريئة تمامًا أم أن لها يدًا خفية في هذا العالم القاتم.
تأملت هارون من مكانها. رأته يكاد ينهار، يُطوِّح بيده في الهواء وكأنه يحاول أن يمسك بخيوط الحقيقة المتناثرة أمامه. تمتمت لنفسها:
"يا هارون، كنت دايمًا شايف أمك ملاك، وكنت خايفة عليك لما تكتشف إنها مجرد بني آدمة زي الباقيين... ربنا يعينك على اللي شفته واللي جاي."

قاتل في المتجر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن