النهاية - ١.٢

50 2 5
                                    


أنا الفراغ الذي ملَّ سُكنى الوهم، وأصواتٍ لا تتوانى عن ركلِ قدماي في كل مرة أحاول أن انهض، تركعني على ركبتاي وتُملي عليّ قائمة مساوئي الواحد تلو الآخر..
لقد تسربت منّي الحياة، شيئًا فشيئًا حتى إختفت مني
لم أكترث يومًا لجمعِ شتات نفسي الملقى على طرقاتِ الأقدار الصعبة، على ممرات الزمان، حتى خسرتُ كينونتي بالكامل.

لقد حاولت السعي، بكل جوارحي حاولت، وحده الله يعلم عن صلواتي للحياة، عن إبتهالاتي لفُرص، لأبوابٍ تُفتح دونما أن تخبىء ألف مصيبةٍ وبؤس خلفها، لكني فشلت، لكن صلواتي لم تصعد ابدًا ابعد من سقفِ غرفتي، إبتهالاتي صُدت كما أن أبواب الحياة كلها قد أوصدت بإحكام بأقفالٍ من النصيب لتفتح أمام الجميع ما عداي.

أتدفق دموعًا ودماءًا داخل زريبة لحمي الساخنة هذه، أنازع الرغبة بالتكلم وروابط الخوفِ من الكلام خشية سوءِ الفهم، خشية من الوقوعِ تحت مظلة الأحكام القاسية التي لم ترى يومًا حقيقتك، لم تصف يومًا شخصك، لم تبنى على أساساتٍ صحيحة، أو تعطيكَ حقك بالإنصاف، لقد رُصفت على ضعفك، شيدت من ثُلث حقيقة وثلاث أرباع كذبٍ وتهويل، صُبغت بألوانٍ تجذُب السامعين غير آبهةٍ برأي صاحب القضية، أو بجانبه من التبرير، تتهاوى ما بين قتلك أو إطلاقِ ملايين الشظايا لإختراق جسدك الهزيل بشكل أشبه بالموتِ ولكنك لا تموت.

"لا شيء يسعُني، لا شيء يجدي، أريد الخلاص، أريد أن أنعتق."
حقيقة ظلّت طوال هذِهِ السنوات ساكنة إدراك عقلي الباطني، على شفير الضعف وإذعان التصديق من عقلي ومنّي، حقيقة كلما حاولت الركض لتوسعة الفارق بيني وبينها وجدتني أهبُ إليها لتستقبلني بيدينٍ مفتوحة، بضحكة سُخرية على هباء السعي، على سذاجة الإنكار..

"ساعدوني"
صرخةٌ قد رددتها حنجرتي طويلًا، حينًا كصرخة صامتة تهُز دواخلي ولكنها لا تسمع خارج أسوار هذا الجسد، وتارةً كنداء لأي شخصٍ بالجوار، أمد يديّ سائلًا عن راحةِ يدٍ أخرى لتمتد وتسعفني من هذا السقوط الذي لا ينتهي، من هذِهِ الهاوية التي بلا نهايةٍ ما ليرتطم بها هذا الجسد ويتطايرٌ لمئات القطع كما هي حال أفكاره ولكن لم يحدث أن تشبثتُ يومًا باليدِ التي لا ينتهي بها الأمر يائسة من نجاتي، من إمكانية رفعي لأرضٍ ثابتة ولذلك ينتهي الأمر بي كما بدأت، أسقط واسقط واسقط..

إن وطني هي الغربة، ووحشتي هي الإنتماء، كالوحشِ الذي سكن أسفل السرير، سكن الضيق والظلمة، سكن البرد والنبذ، سكن الشك والخوف خاشيًا النور والسِعة، الدفىء والأصحاب، التفهم والتقبل.
لأنه لم يعتدها يومًا، لأنها تُخالف كل ما قد تعلمه، لأنه لا يحب النظر للمرآة ويرى ماهيته، لأنه لا يظن أنه يستحق الرخاء، أو الشدة، لأنه لم يسأل يومًا عن الوجود.

لقد قلتُ سابقًا أني سأنتظر مئة يومٍ لكتابة رسائل لبدر مع معرفة أن بدر ليس سوى شخصٍ آخر من مخيلتي جعل من العبثية أن انتظر أكثر، أن ادع المجال لعقلي ليسوقني حيثما شاء، لأسمح للمزيدِ من التحليق خارج أسوار الجسد أو الواقع لعالمٍ آخر، مجرة أخرى غير مكتشفة بداخل إحدى حُجرِ عقلي لأعود للواقع محملٍ بأثقال من البؤس وندب الحظِ والحياة، بعزم أكبر لإنهاء هذا الوجود الفيزيائي الطيني للأبد، دونما رجعة أو ندم.

إن مُذكرتي كل ما سيبقى مني، كل هذِهِ الصراعات بداخلي، كل هذه العوالم والشخصيات ستُوارى الثرى معي، إن من السخيف أني قضيتُ عمرًا أمحور حياتي على كُلِّ هذا بينما أن العالم يتقدم، يدور حول اشياءٍ وامورٍ أضخم، لم اعلم يومًا ماهو الجديد خارج جدران حُجرتي بالميتم، لم اسأل يومًا عن حالِ أحدهم وعمّا يحدث بحياته، لقد سخّرت حياتي أغوص في نفسي اكتشفُ حقائقًا عني كنت لأفضل لو بقيت مجهولة في سراديب أحشائي، أفتّش عن الشعلة التي ستقودني للحياة لتتشربها الظلمة وأجدني تائًها محاصرًا بأسبابٍ تحتم عليّ أن أنهي هذه الحياة التي وجدتُ نفسي متورطًا فيها بلا مشورة، مقذوفًا بوسطِ براثين إختباراتها ومشاقها التي تنهش اللحم والعظم بيّ بلا هوادة.

لربما لو أحبّتني الحياة بقدر ما أتشحذُ هذا الحب لأختلفتِ النهاية لقصّتي، لطالت فصول هذِهِ الرواية المسماة بحياتي قبل أن ترجع للرفِ المُظلم كما بدأت.

من طينٍ لطين، ومن ظُلمةِ الرحمِ لظُلمة القبر، أتمنى أن يلطِف الله بروحي التي هي منه ومِلكه، أن يتجاوز لي قِلة صبري وإيماني.

أتمنى أن أذكر بحقيقةٍ واحدةٍ ثابتة:

بأني قد حاولت، بكلِ ما أوتيت من حيلةٍ حاولت..

الوداع.

NOTE BOOKحيث تعيش القصص. اكتشف الآن