-1-الفصل الأول

16.9K 1.2K 392
                                    

بَعِيدًا على الميناءِ الخلّابِ لمدينةِ أرومَ، ميناءُ كواركوستَ النابضِ بالحيويةِ، رستِ السُفُنُ بكبرياءٍ وشموخٍ، شاهدةً على انسحابِ شمسِ الغروبِ؛ حيثَ انعكستْ أشعتُها على صفحةِ أمواجِ البحرِ الهادئِ، مُضيفةً عليها لونًا ساحرًا متلألئًا. وغمرتْ أصواتُ النوارسِ المكانَ، كأنها ترتمي في أحضانِ القرصِ الملتهبِ الذي اندثرَ في الأفقِ المحمّرِ، وكأنه يغوصُ في أعماقِ البحرِ الغامضِ، ليبسط الليلِ سلطانَه ونفوذَه.

بحلولِها، أعلنَ عن أولِ ليلةٍ مِن ليالي الربيعِ المنعشةِ، حيثَ تتخللُها نسماتٌ باردةٌ لم تطفئْ قلقَ تلكَ الفتاةِ التي وقفتْ خلفَ جدارِ الزقاقِ الضيقِ والمظلمِ.

قلبُها يدقُ بعنفٍ وهي تنظرُ بتوجسٍ إلى الجُنودِ المنتشرينَ في كلِ مكانٍ بحثًا عنها. راقبتْ بكلِ خليةٍ من خلاياها الطريقَ الوحيدَ الذي يقودُ إلى ميناءِ كواركوستَ، حيثَ يجبُ أن تكونَ حتى تضمنَ اكتمالَ خطةِ هروبِها. فاليومُ مناسبٌ والمدينةُ مكتظةٌ بالناسِ والباعةِ بمناسبةِ مهرجانِ الربيعِ السنويِّ لمدينةِ أرومَ. وسيكونُ الهروبُ أسهلَ إذا اندمجَتْ بينَهم وتسلّلَتْ بحذرٍ.

فِي السوقِ انتشَرَتِ البِسطَاتُ وَالْمَتَاجِرُ وَزُيِّنَتْ بِقُنَادِيلِ يَتَلَألَأُ نُورُهَا فِي جَوٍ بَهِيجٍ يُنَعَّشُ الرُّوحَ، وَلَكِنَّ رَغْمَ ذَلِكَ لَمْ تَسْتَطِعْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْ تَسْتَمْتِعَ بِهِ كَمَا كُلَّ سَنَةٍ. فَفِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، فِكرها مُنْصَب عَلَى طَرِيقَةِ تَوَصُّلِهَا إِلَى الْمِينَاءِ دُونَ أَنْ يَتَمَّ الْقَبْضُ عَلَيْهَا.

هَبَّتْ عَلَيْهَا نَفَحَاتُ نَسِيمٍ بَارِدٍ مَحْمُلَةٍ بِأَرِيجِ الزُّهُورِ الْمُنَعَّشَةِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الصَّافِيَةِ، تَدَاعَبُ شَعْرَهَا الطَّوِيلَ الْحَالِكَ السَّوَادِ وَتَنْسَدِلُ بَعْضُ خِصَلَاتِهِ عَلَى عَيْنَيْنِ لَوْزِيَّتَيْنِ خَضْرَاءَ تَسْحَرُ الْقُلُوبِ. رَغْمَ أَنَّهَا مُلِيئَةٌ بِالْخَوْفِ وَالتَّرَقُّبِ، إِلَّا أَنَّ جَمَالَ عَيْنَيْهَا الْأَخَّاذَتَيْنِ لَمْ يَسْلُبْهُمَا ذَلِكَ الْقَلَقَ الَّذِي يَحِيطُ بِهَا.

شَدَّتْ الْقَلَنْسُوَةَ السَّوْدَاءَ الْمُخَمَّلِيَّةِ الْفَاخِرَةِ فَوْقَ رَأْسِهَا وَرَفَعَتِ اللِّثَامَ لِتَغْطِيَ نِصْفَ وَجْهِهَا، ثُمَّ مَشَتْ بِحَذَرٍ وَبُطْءٍ دُونَ أَنْ تبْعد عَيْنَيْهَا لحَظَةٍ وَاحِدَةٍ عَنِ الطَّرِيقِ.

لَمْ تَكُنْ مُبَالَيةً بِتعثرها ببَرْكَةِ طِينٍ لَوَثَتْ حِذَائِهَا الْبَاهِظِ الثَّمَنِ، فَقَدْ كَانَتْ أَنْفَاسُهَا مَحْبوسا وَهِيَ تَرَى ذَلِكَ الْجَنْدِيَّ يَقْتَرِبُ مِنْهَا. فَبَلَعَتْ رِيْقَهَا وَانْتَفَضَتْ فُرَائِسُهَا حِينَ لَاحَتْ منه نَظَرَةُ شَكٍّ جَعَلَتْ قَلْبَهَا يَقَعُ مِنْ مَكَانِهِ.

الأشرعة السوداءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن