نظرت إليه نظرة فزع ليس لأنني سأغادر البيت ، لكن لأنه لم يحس بكلامي و كأنما قد انطفأت نار غيرته . كأنما أنه قد خدِّرجسمه و مات إحساسه!
ودعت أهل البيت و كان عناقي لأمي طويلا . لقد أحسست أن الدنيا انقطعت و أن الزمن قد توقف . احسست برعشة في جسدي لم أحس بها من قبل ، أحسست بدفء شديد أنساني ما أنا فيه ، فأغمضت عيناي و و تذكرت طفولتي مع أمي .
تذكرت يوم كنت ألعب قرب الوادي دون علمها و كدت أن أسقط فيه لولا اسراعها في نجدتي لكنها سقطت و كادت تفقد حياتها غرقا . و أذكر جيدا كما لو كان أمس اليوم الذي كانت تعد فيه الحلوى و الكعك للضيوف و كنت أتذوق واحدة تلو الأخرى دون علمها إلى أن أنهي كل ما أعدته فتضطر لإعادة كل شيء . و تلك المرة التي قطفت فيها ورودا و أردت تقديمها إيها لكنني كنت خائفا لأن سرب نحل كان يلاحقني ، فتعثرت ووقعت أرضا ، و إذا باللسعات تتوالى واحدة بعد الأخرى. رجعت إلى البيت حاملا ثلاث زهرات جميلة . ففزعت أمي لرؤية منظري وحمدت الله أنني عدت إليها حيا . لقد كنت شقيا في طفولتي و لربما أتعبت أمي في تربيتي . لكنني فخور أنها رغم كل الصعاب نجحت في تكوين رجل بكل ما تحمله الكلمة من معنى .
لقد كبرت ياأمي ،لقد بذلت جهدك كله حتى لا أحس أن الحياة تقسو علي . عملت جاهدا للابتسام في وجهي مهما حدث و جعلتني أأمن أنني الأفضل و الأجمل و الأذكى . كنت تقولينها بنبرة قوية ملؤها الثقة والإفتخار . كنت تعيدينها دائما و تؤمنين بها فعلا ، فتلمع عيناك حين كنت تنطقينها فأحس أني الأفضل ، أحس أني الأقوى و الأذكى . جعلتني أحس بالحنان رغم قسوة الحياة . جعلتني فخورا بك و بنفسي و بحياتي ، في حين أن هنالك من قد يجد نفسه في نفس ظروفي فيكتئب و يلوم والديه على إنجابه . رسخت في ذهني كل القيم النبيلة ، و الأخلاق الفاضلة و روح المسؤولية . فأنت يا غاليتي تستحقين الأفضل . لا تخافي علي يا أمي . فابنك سيبقى صامدا إلى آخر عمره وفيا لقيمه و مخلصا لوطنه .
لن أضعف يا أمي أمام أي شيء ، سأظل قويا كما كان أبي . اطمئني يا أمي سأعود . لكنني حين أمعنت النظر ، علمت أنها كانت خائفة ، خائفة من أن أذهب و لا أعود كما حدث لأبي . لا تريد من الزمن أن يعيد نفسه ، لا تريد استرداد ماض مرير لازالت تحس بحرقته في داخلها . كان فراق أبي صعبا علينا جميعا ، لكنه كان صعبا عليها أكثر فأنا كنت في عمر ثلاث أو أربع سنين و لا أتذكر غير أحداث معدودة على رؤوس الأصابع ، أختي كانت في بطن أمي آنذاك ، و كانت الصدمة خطرة على حياة أمي و أختي ، لذى فقد أخبروها بعد الولادة بمدة . أمي ، أمازلت خائفة مما قد يحصل لي ؟ و ماذا قد يحصل يا أمي ؟ على الأقل أني كنت وفيا و لم أرض بذل العسكر . لكن أعدك أني سأعود اطمئني ، لن يصيبني مكروه ، سأعود سالما إليك أعدك . نطقت هذه الكلمات الأخيرة و انصرفت منحني الرأس من شدة الحزن ، فالتفتت إلى صوت أمي يناديني نداء أخيرا : ارفع رأسك يا بني ، و لا تنحني. ألست أنت من كنت ترفض العمل كملمع للأحذية حتى لا تنحني ؟ عدني أنك ستبتسم رغم كل شيء ، عدني أنك ستكون بخير ، بني . رفعت رأسي ببطء و نظرت إليها نظرة أخيرة و في صوت مضطرب أجبت : أعدك أمي ، أعدك .

YOU ARE READING
بقلم سجين
Random''قد تقبل أن تؤخذ منك أشياء كثيرة ، لكن حتما لن تقبل أن تُسلب الحرية ''