قصدت الأم مأوى السيارات التي تنقل الركاب من بلدتها إلى بلدة ولدها ، فوجدت السيارات ولم تجد الركاب .كان الوقت قبيل الغروب في يوم من أيام الصيف ، وانتظرت ساعه في مأوى السيارات دون أن يحضر مسافر واحد ! وانتظرت على أحر من الجمر ، وقد غابت الشمس ، والمسافة بين المدينتين حوالي أربعين ومئتي كيلو متر ، تقطع بالسيارات في ساعتين ونصف الساعة فإذا لم تسافر ليلا ضاع عليها الوقت ولن تصل مدينة ولدها إلا بعد ساعات من صباح اليوم التالي .
وعرضت على سائق إحدى السيارات أن تستأجر - وحدها - سيارته على أن يسافر بها فورا ، وقبض السائق أجرة سيارة كاملة من المرأة ، وتحركت السيارة في طريق جبلية وعرة ، وفي الطريق تحدث السائق إلى المرأة ، فعلم منها قصة بيع الدار ، وقصة دفع البدل النقدي عن ولدها .
وتدخل الشيطان بينهما ، فلعب دوره في تخريب ضمير السائق ، فعزم على تنفيذ خطة لاغتصاب المال من المرأة المسكينة .
وفي إحدى منعطفات الطريق ، حيث يستقر إلى جانب الطريق الأيمن واد صخري سحيق ، أوقف السائق سيارته فجأة ، وسحب المرأة قسرًا من السيارة إلى خارجها ، وسحبها سحبًا إلى مسافة عشرين مترًا في الوادي السحيق ، وهناك طعن المرأة بخنجره عدة طعنات ، فلمّا تراخت وظن أنها فارقت الحياة ، سلبها مالها ، ثم عاد إلى سيارته تاركًا المرأة وحيدة فريدة في مكانها تنزف الدماء من جروحها ، وتتخبط في بركة من الدم .
وقصد المدينة التي كان متجهًا إليها ، فقد خشي أن يعود إلى المدينة التي خلّفها وراءهـ لِئَلّا ينكشف أمرُه ، إذ يعود إليها بدون مسافرين ، وقبل الوقت المعقول لذهابه وإيابه . . . ! وعندما وصل إلى المدينة أوَى إلى مأوى السيارات ، فعزم لأصحابه أنّ المسافرين الذين كانوا معه غادروا سيارته بعد عبور الجسر .
ووجد ركّابًا ينتظرون السفر إلى البلدة التي غادرها مساء ، فسافر بهم عائدًا من نفس الطريق .
وحين وصل إلى المكان الذي ارتكب فيه جريمته الشنعاء ، أوقف سيارتَه ، وادّعى لركّابها الذين كانوا معه أنه يريد أن يقضي حاجته ثم يعود إليهم فورًا . . . ! .
وانحدر إلى الوادي السحيق ، متجهًا إلى مستقر المرأة فسمع أنينًا خافتًا صادرًا من المرأة الجريح التي كانت أقرب إلى الموت منها إلى الحياة . .
وقصد المرأة السابحة ببركة من الدمـ ، وقال لها ( ملعونة ! ألا تزالين على قيد الحياة حتى الآن ! ). وجمدت المرأة في مكانها ، وانتظرت مزيدًا من الطعنات . . . ! .
وانحنى السائق إلى صخرة ضخمة ليحطّم بها رأس المرأة الجريح ، وما كان يضع يديه تحت َ الصخرة ألّا وصرخ صرخةً مُدْوِيَةً هزت الوادي الصخري السحيق ، ورددتها جَنَبَاتِهِ الخاليه إلّا من الوحوش والأفاعي و الهَوَامْ ، وسمِعَهَا ركّاب السيّارة فهرعوا لِنجْدتِهِ .
كانت تحت تِلكَ الصَّخْرَةِ الضّخمة التي أراد السّائق المجرم رفعها لِيقذف بِها رأْس المرأة الجريح ، حيّةٌ سامّةٌ لدغته حين كان يهم بحمل الصخرة العاتية ، فسقط إلى جانب المرأة يستغيث ويتألم . . . ! .
وحَمَلَ المُسافِرُون السّائق ، وحملوا المرأة ، وانتظروا على قارعة الطريق حتى قدمت سيّارةٌ أُخرى ،فاستوْقفُوها وطلبوا من سائِقِها حمل المرأة والسّائق إلى المستشفى التي كانت في المدينة التي يستقر فيها ولد المرأة الجريح .
وفي الطريق فارق ذلك السّائق المجرم الحياة مُتأثّرًا بالسُّمّ الزعاف القاتل .
وفي المستشفى ، قدم الشرطة والمحققون العدليّون ، فعرفوا القصة كاملة وانتزعوا مال المرأة من طَيّات جيوب السّاق اللّعين .
وطلبت المرأة حضور ولدها ، فحضر في الهزيع الأخير من اللّيل . . .
وراحت المرأة في غيبوبة عميييقة ، فظَنّ الأطبّاء والمُمَرّضُن أنها تُعاني سكرات الموت . . . وعمل الطبيب على نقل الدّم إليها .
وفي ضُحى اليوم التالي فتحت عينيها لِتقول لِولدها : ( إدفع البدل النّقدي سريعًا ) ثمّ أغمضت عينيها وراحت في سُباتٍ عميق .
ودفع الولد بدله النّقدي ، وسرح من الجيش . . وتحسّنت صِحّة أُمّه يومًا بعد يوم ، حتى تماثلت للشفاء ، حيث غادرت المستشفى إلى أهلها . .
وذهبت قصّة نجاتها ، وقصّة موت السّائق ، وقصّة الحية المُنقذة ، شرقًا وغربًا ، وأصبح حديث النّاس جميعًا . . ولقد كان الوادي الذي ارتكب السّائق فيه جريمته ، والّذي قذف بين صخوره المرأة الجريح ، من الوديان الموحشة الخاليه من الماء والكلأ ، كما كانت سُفُوحُه منحدرة انحدارًا شديدًا ، فلا يسلكه الناس ولا يطرقونه ، حتى الرُّعاة لا يجدون فيه ما يُيد ماشيتهم فأصبح موطنًا آمنً للذئاب والأفاعي .
وما كانت المرأة الجريح لتسلم من الموت الأكيد ، لو لم يعُد إليها الجاني مدفوعًا بِغريزة حبّ الاستطلاع ، وبالقوّة الخفيّة التي هي القدر .
وما كان المسافرون مع الجاني لِيعرفوا موضع المرأة ، لو لم يصرخ الجاني صرخةً مُدْوية بدون شعور ولا تفيكر متألمًا من لدغة الأفعى السّامّة ، ولو لم يسقط إلى جانب المرأة فقد كان الظّلام دامسًا .وما كان ولدها لِيَدفع البدل النّقدي لو قدمت أول سيارة غير متّجهة إلى المدينة التي كان فيها . ولو أنّ أول سيارة قدمت من الجهة المعاكسة ، لنقلت والدته إليها بعيدًا عن مدينته التي يقضي عسكريّته فيها ، ولضاع الوقت المحدّد لدفع البدل النقديفي قوانين التّجنيد . وكان البدل النّقدي في حينه مئة دينار . لقد كان ذلك كلّه من تدبير العليّ القدير .
أنت تقرأ
عدالة السماء
Randomقصص عدالة السماء كلها من الواقع ، قصص تبني ولا تهدم ، تعمّر ولا تخرّب وتقيم القلوب والعقول معًا على أُسس رصينة من الإيمان العميق . إن الكلمة الصّادقة التي تفيد الناس ، لأنها تؤثر فيهم ، وهي التي تمكث في الأرض ولا تذهب جفاءً.