دقّت روزالي على باب مكتب أبيها ثم فتحت الباب فدفعت برأسها الى الداخل , أنها فارغة , أحست بخيبة , لكنها دخلت وأغلقت الباب خلفها , ثم مشت بتأن وأطلت على مكتب السكرتيرة المتصل بمكتب أبيها , إنه فارغ أيضا , لا بد أن تكون جين قد ذهبت الى البيت.
ثم تنهدت روزالي , إنه اليوم الأول لعملها الجديد , لذلك فهي متوترة الأعصاب قليلا , لكنها مفعمة بالرضى والأعتزاز , كم تود أن تتحدث عن ذلك , أن تقول لأحد ما , كيف أستمتعت بعملها , كيف تفضل عملها كمحاضرة في كلية , بدلا من معلمة في مدرسة للأولاد , ولكن حيث لا يوجد من تكملة عما في قلبها فليس أمامها سوى التحكم بتشوقها للحديث هذا , فترضى بالتفكير فقط.
منتديات ليلاس
أسقطت حقيبتها الى الأرض , وجلست على الكرسي المتحرك خلف طاولة والدها , ذلك الكرسي الذي كثيرا ما شعرت بسرور خاص كلما جلست عليه , ولطالما فعلت ذلك حينما كانت تزور الكلية مع والدها , قبل أن تصبح هي نفسها من أعضاء هيئة الكلية التدريسية , حين ذاك كان هدفها الأول ذلك الكرسي المتحرك حيث تروح تتأرجح بدوائر لا نهاية لها فيطفح البشر على وجهها حتى يصيبها الدوان , وكان من عادة والدها أن يدع لها الحبل على الغارب فيعطيها بضع دقائق لتمرح وتتعب نفسها قبل أن يطلب اليها ترك الكرسي فيجلس هو عليه.
لكنها اليوم أكثر حذرا بجلوسها , أنتصبت على الكرسي بهدوء وقاومت الرغبة الدفينة نحو التحرك اللولبي , لقد هيأت نفسها لأنتظار طويل , فهي تعرف أن والدها سيتأخر , فطالما فعل ذلك , كانت تعطي نفسها نصف ساعة أضافية على أي وقت يعود فيه بالوصول , نزعت سترتها ووضعتها على مسند الكرسي الى الخلف , وقع نظرها على سلة المهملات فوجدتها فارغة , وقلبتها رأسا على عقب , جلست مرة أخرى على الكرسي , خلعت حذاءها ووضعت قدميها على سلة المهملات المقلوبة , ثم راحت تنتظر.
وحيث أخذ الملل يتمكن منها قليلا , راحت تبحث في حقيبتها اليدوية , فأخرجت علبة من الشوكولاتة وبدأت تأكل لتلهي نفسها في قضاء الوقت , بعد ذلك جعلت تفتش حولها , ألتقطت شيئا ما من بين أوراق والدها ثم أعتدلت في الكرسي , وراحت تقرأ.
أنهمكت بالقراءة لدرجة أنها نسيت الوقت , حتى أنها أندهشت عندما وجدت النصف ساعة التي أعتادت أضافتها لموعد والدها قد مر , فصارت تفقد صبرها , وخالجها قليل من الأنزعاج , وبينما هي تهم بجر نفسها من مقعدها المريح أنفتح باب المكتب , أسرعت بعرض أبتسامة ترحيبية على وجهها , ولجمع الكلمات التأنيبية الرقيقة : ( جئت بموعدك بالضبط كعادتك !) , التي كثيرا ما أعادتها على والدها , ولكن هول المفاجأة هو أن من فتح الباب لم يكن والدها , بل شخصا غريبا تماما.
إنه طويل القامة قوي الجسم ذو وجه وسيم تمتاز ملامحه بالعزيمة والأرادة مما أضفى بريقا مخيفا لعينيه السوداوين , خطا الى داخل الغرفة بينما أخذت عيناه تنظران اليها بقوة , وكأنهما لا تريدان تصديق ما رأتاه , وعندما تكلم , أتسم صوته بالأنضباط , لكن بوادر الأنزعاج كانت بادية عليه بدون شك.
" هل لك من فضلك أن تقولي لي بالضبط , ما عساك تعملين هنا؟".
وبينما هي ترقب الغضب في عينيه , وصار يحول وجهه الى مظهر التعالي والغطرسة , صارت هي على درجة حادة من الأضطراب : ( كيف يبدو مظهري الآن ؟ ) , راحت تفكر مع نفسها وقد ساورها الحياء وأضطربت علائم وجهها وقد أنزلت قدميها الى أرض الغرفة بسرعة , وأعادت لطاولة والدها الأوراق التي كانت تقرأ بها , ثم أخذت تبحث بأضطراب عن حذائها , لبستهما ووقفت على قدميها بأنفعال وهي تشعر وكأنها قد أقترفت جريمة شنيعة – يبدو أن الأمر كذلك في عيني هذا الرجل الذي راح يحملق بحركاتها بصمت متجمد.
" أرجو المعذرة..... متأسفة". هو كل ما أستطاعت قوله بينما أستمر الرجل مقطبا حاجبيه.
" هل أنت موظفة جديدة هنا ؟ لم أرك هنا من قبل ؟".
" نعم , بدأت العمل اليوم فقط , أنه اليوم الأول من السنة الدراسية كما تعلم".
أي حد من ضعف الشخصية يمكن أن أصله؟ راحت تفكر مع نفسها , لقد كان جوابه لها وكأنها في الخامسة من العمر فقط , فشعرت أن لا لوم يقع عليه من ذلك.
" أنني أقدّر جيدا كونك جديدة ولكن ما لا يمكنني فهمه كيف يمكنك أن تخطئي بهذه الغرفة وهي تعود لرئيس قسم – فلم تميزيها عن غرفة الموظفين الواسعة المشتركة أو حتى غرفة أستراحة السيدات , والتي كما يبدو لي تعتقدين أنك جالسة فيها ! ألا تستطيعين أن تقرأي العنوان بحروف واضحة على الباب : رئيس قسم العلوم والرياضيات – واضحة بما فيه الكفاية حتى لشخص دون مستوى الذكاء ليحل رموزها , لأي قسم تعودين أنت؟".
لقد كان لأسلوب السخرية هذا فعل شديد فيها , أصابها في الصميم , فأمسكت بقبضة حقيبتها المكتبية وكأنها تريد أن تفلت من بين أصابعها , ثم سحبت شفتيها وقالت:
" إذا وجب عليك أن تعرف , فإنني من قسم الأعمال والدراسات العامة , أنني محاضرة في الدراسات العامة وهنا لم تصدق عينيها , وهي تراه يدخل يده في جيبه بصورة عاجلة , ويخرج ورقة راح يكتب عليها المعلومات التي أعطتها له.
" الأسم؟".
عند هذا الحد أخذت تستعيد بعض هدوئها , لم تكن الأمور سهلة أمامها في السابق وهذه المناسبة يمكن أعتبارها في سياق الصعوبات المارة , لماذا يجب علي أن أعطيه أسمي؟ فكرت مع نفسها , هل يتصور أنه يستطيع أرباكي بأسلوبه المتعالي هذا لمجرد كوني موظفة جديدة ؟ لقد عرفت أنه ليس المدير ولا وكيل المدير لأنها كانت قد قابلتهما في السابق , إذن قررت أن لا تعطي أي معلومات لهذا الشخص المتباهي.
" أعيد مرة أخرى , إسمك؟".
لا زالت صامتة , لم تقل شيئا.
" ربما ينبغي أن أوضح لك ". قال وهو يظهر مزيدا من الصبر : " إنني أحد كبار أعضاء المؤسسة , إنني في الواقع , وكيل رئيس هذا القسم".
هنا بدأت تلمس رأس الخيط , بدأت تعرف من يكون هذا الرجل , فهو إذن ذلك الرجل الذي تحدث أبوها عنه بعبارات المدح المتناهية , إنه لامع , كان أبوها يقول عنه , أنه سيتقدم , سيصل الى القمة , قبل أن تنقضي بضع سنوات وأكمل كلامه:
" وعليه , فإنني مسؤول عن محتويات هذه الغرفة حينما يكون رئيس القسم غائبا , لا يمكنني أن أسمح لأي أحد بما في ذلك أنت , أن يفلت بدون عقاب مما يمكن أعتباره عملية أغتيال , لاحظي أحتلالك الوقح لهذه االغرفة موقفك عندما دخلت أنا , وفوق كل ذلك , الحقيقة الصارخة وهي أنك كنت تقرأين مستندات سرية , أستحصلت عليها من هذه الطاولة , الآن هل لك أن تعطيني إسمك؟".
" متأسفة لكنني أرفض".
بعد كل الذي قاله , لا يمكنها , لا تستطيع أن تقول له , بكل بساطة , عن العلاقة التي تربطها برئيس القسم , في الوقت الذي شعرت به بعدم الأرتياح لهذا الرجل , فأنها لا تستطيع أن تضعه بموقف لا بد أن يكون محرجا له لو أكتشف أنها أبنة رئيس القسم .
" حسنا !". أعاد الورقة الى جيبه , " لديّ الآن معلومات كافية لأتهامك , وكونك ترفضين أن تعطيني إسمك سيجعل المسألة أسوأ , ولكن حقيقة كونك حديثة العهد في العمل قد تشكل نقطة تخفيف لمشكلتك على أنني سأحاول أن أقلل من أهمية تلك الحقيقة بالنسبة لما قمت به , الآن , أخرجي من هنا بسرعة!".
إحمرت وجنتاها من الغضب , سحبت معطفها وجمعت حاجياتها أدارت سلة المهملات غلى وضعها الأعتيادي , ثم رمته بنظرة مليئة بالتحدي وهي تخرج من ممر الباب لتواجه أبيها يدخل مسرعا الى الغرفة:
" روزالي , يا عزيزتي , متأسف تأخرت طويلا عليك , هل تعبت من الأنتظار ؟ تعالي أرجعي وأنتظريني للحظة , ها هو , دكتور كرافورد , إنكما قد ألتقيتما".
وقفت الى جانب أبيها وهي تتمتع بمنظر الذهول والأضطراب الذي بدا على وجه نائب رئيس القسم , ولكن تلك اللحظة مرت بسرعة وأرتسمت على وجهه أبتسامة ساخرة.
" لا يمكنني الأنتظار لكي أقدم بصورة رسمية لأبنتك الساحرة أيها السيد بارهام".
أشار فرانكلين بارهام عليهما التقدم أحدهما للآخر لكن يداهما لم تتلامسا حيث أحتفظت روزالي بيدها ممسكة بحقيبتها المكتبية.
" روزالي , أقدم الدكتور كرافورد .... أي ..... أدريان , الأسم الثاني أليس كذلك؟ دكتور أدريان أقدم إبنتي روزالي , إنه يومها الأول هنا , كيف تعرفتا على بعض يا عزيزتي ؟". ثم ألتفت الى دكتور كرافورد : " إنها محاضرة في موضوع الدراسات العامة".
قال موضحا وهو يبتسم الى أبنته , لكن روزالي تعلم ما تعنيه تلك الأبتسامة كا تعلم ما في الأكمام.
" وأقول بإعتباري عالما , أن مدرسي موضوع الدراسات العامة شر لا بد منه بالنسبة لكلية متخصصة بالعلوم , وإبنتي تعلم بآراء أبيها حول ذلك , أليس كذلك؟".
أبتسمت روزالي أبتسامة فاترة.
" أعرف ذلك جيدا يا بابا ". نظرت الى الرجل الآخر : " أنت بلا شك أيضا واحدا من هؤلاء العلماء المهرة يا دكتور كرافورد".
" نعم بالفعل يا آنسة بارهام , أنني عالم رياضيات مثل أبيك , لكنك أضفت كلمة ( اماهر ) وأنا لست كذلك".
" نعم أنه من العلماء المهرة يا عزيزتي ". قال الأب : " لقد حصل لتوه على درجة الدكتوراة , فلا تسمعي لتعابيره المتواضعة هذه".
لم تستطع روزالي أن تاقوم شعورها بالسخرية أتجاه الرجل.
" هل الدكتور كرافورد متواضع بالفعل؟ أنت تثير أستغرابي؟ فتلك صفة لا تخطر ببالي أنطباقها عليه".
" آه , إنها تتلاعب معك الآن يا دكتور كرافورد , كما ترى أنها تعيش في عائلة من العلماء , أمها عالمة بالرياضيات أيضا , أن أبنتي أكتسبت بمرور السنين حساسية خاصة أتجاه العلماء , وكلماتها هذه نتيجة فرض الأتجاه العلمي عليها منذ طفولتها".
" أنني أتفهم ذلك". قال الرجل الآخر وراحت عيناه تتفحصان وجهها عن قرب مما أثار غضبها.
أنت تقرأ
بانتظار الكلام - ليليان بيك - روايات عبير القديمة
Romanceهناك من يقول : العلماء بعيدون عن حياة الحب, بل أكثر من ذلك أحيانا ,يتهمونهم بقلة الحساسية والإنسانية وبأنهم يبنون حياتهم على أسس علمية بحتة....ويذهب بعض العلماء ومنهم أدريان كرافورد عالم الرياضيات الى منع دخول المرأة في حياتهم أوحتى بيوتهم ولو لغرض...