بدء البدايات

429 14 17
                                    

يقال: أن تصيبك الحياة بفقدان الحبيب و القريب، أن تجد كل أحلامك أمام عينك وغيرك ينعم بها، ان لا تستطيع الحراك وأنت بكامل قواك العقلية والزهنية والجسدية لا أعلم كيف أبدء، هل أبدء من حيث كان يا مكان، أم أبدء من حيث كان ينطوي على ذاته.
ذلك لن يخطر بالك، ليس يوسف الذي كذب أخواته علي والدهم بمقتله وظلمو الذئب المسكين، وليس نوح الذي ظل عمره ينحت الخشب ليصنع سفينة لتنجيه من غضب ألأله على قومه، بلا! أنه (عبد الحميد) باشا!.
الشاب الوسيم، الذي يملك من طول القامة متران الا بضع سنتيمترات، عينان بنيتان، شعر ناعم ومرتب فوق رأسه تجاه اليمين.

الموظف الذي يملك العالم بأسره، لا يوجد صعب في الحياة يوقفه عن الحلم، تمنى كثيراً، و لم يستطيع تحقيق ما يحلم به، فهو للأن فقير لا يملك شيئاً عالا على المجتمع، لن أقول انه فاشل بل سأقول أنه حاول كثيراً أن يصل لحلمه، ولم يستطيع، ألا تجدون تضاد بين ظروفه، وبين أحلامه أنه يعاني في واقعه، و يعيش ملكاً في أحلامه.
-أخ يا واد يا عبد الحميد لو الدنيا تلعب معاك راح تبقى الأشيا معدن.

قالها وهو يقعد على رصيف محطة قطار المنصورة، يرتدي تربوشا احمر اللون، وبدلة لونها أسود باهته، وينظر للمرين المسافرون من داخل المحطة كما تعلمون.

قام أخيراً من مكانه الذي أرتده منذ أكثر من ساعة، لا يتحرك منه أبداً، ذهب تجاه القطار الذي سيذهب للقاهرة.
صعد عبد الحميد، وهو في العشرون من عمره،  دخل الكبينة الذي يركبها الجميع، المخصصة لضعاف الدخل ومتوسطي الدخل، فهو لا يستطيع دفع تذكرة قطار من الدرجة الأولى، يكفيه الدرجة الرابعة، فهناك سيقعد على منضدة خشبيه ذو مقاعد معدنية الصنع، ويأتي شخصاً ليلبي طلباتك مقابل ما يحصده من مال منك.

وهنا سيصعد إلـىـ... او ربما لم يجد مقعد فارغ في بدأ النهار، وقف متصلبا على باب المقطورة الذي صعدها، يتحدث في نفسه:
-يا سلام يا أمي لو ربنا أستجاب لدعائك وأتقبلت في الوظيفه دي.
ثم ينظر للسماء ليحدث ربه ويقول متألما..!
-يا ريتك كنتي معاية يا أمي، بداعوة واحدة كنتي بتفتحي أبواب السما في وشي، ربنا يرحمك.
وبعد تحرك الشمس من جانب القطار لتنتقل فوقه، لتصبح السماء صافية والرياح منعشة أخذ من الهوء بقدر يكفي لملئ رأتيه ليزفر بطلاقة...
وصل عبد الحميد الى محافظة القاهرة بعد سفر ساعتين من انطلاقه من محافظة المنصورة.

أنطلق عبد الحميد ليلتحق بمكتب الوظايف ليلتحق بأي وظيفة، وقف أمام تماثيل قصر النيل، وظل يمشي على قدميه بين أذرع الكورنيش، يتأمل جمال القاهرة، وهنا عشاق يلتقون، و الصيادون في النيل يقومو بعملهم، و عبر (الكورنيش) ليقابل مبنى الأذاعة، يمر بجانبه ليسمع غناء السيدة أم كلثوم.
وصل أخيراً إلى مبنى الألحاق بالوظائف، دخل ثم صعد لأول طابق، نظر لمكتب أمامه مكتوب عليه (مكتب الألحاق بالوظائف)

وجد شخص يخرج من المكتب متشدد ومتشأم، ويتحدث بصوت مسموع، ويقذفهم بأقذر الشتأم.
دخل المكتب، وجد بجانبه دولاب محمل بالأوراق كاد ان يغطيها الغبار، كان ذلك على يمينه، وامامه الحوائط ممزوجة بلون ازرق باهت عليه اللون الأسود من كثرت الغبار وكأنه قد دخل مقبرة، وامامه ايضا المكتب الذي يقعد عليه شخص بدين ذو لحية سوداء مفضضة، ليقول بنبرة مترددة.
-السلام عليكم يا أستاذ، أنا جيت عشان محتاج أي وظيفه القيها عندكم..؟
نظر  إلى عبد الحميد ليردف وراء قوله.
-وعليكم السلام طيب أستنى أرد السلام الأول، و بعد كدة قول كنت عايز آيه، بص يا بني أدخل للسكرتيرة سبلها الأوراق وألارقام والعنوان بتاعك وهنكلمك تاني، لو لقينا شغلانا مناسبة ليك.
ليقف من مقعده، ويمد بيده إلى عبد الحميد وينظر له ليقول.
-أتفضل حضرتك عشان عندي شغل.
وتصافح به ليذهب عبد الحميد إلى السكرتيرة، التي تجلس في مكتبها بجانب غرفة المدير، بدينة ذو شعر مصفر ومقتص إلى نصف رقبتها بيضاء من كثرة مسحوق التبييض وكأنها كادت تنتهي من شقة على جسد بدين، ليعطيها الأوراق، وضع الأوراق بجانب يدها على المكتب، ثم تنظر له وتقول، بصوت مبحوح.
-تعرف انت الكام انهردا عشان تتوظف، أنت رقم 44 في الكشف أنت متعرفش أنت محظوظ أد أيه..!
أبتسم عبد الحميد بسخرية، ليقول لها :
-هكون محظوظ أكتر من اللي انا فيه، ورب النبي يا أبلة خلصيني أنا جاي من مشوار أسود.
-لا انت هتتوظف في المجموعة الأولى.. يعني أنت الوظيفة هتجيلك أسرع من الأرقام اللي بعدك، ممكن الوظيفة تجيلك في خلال سنة أو ست شهور .
فنظر عبد الحميد لها، ثم كانت تنظر في بيناته في الأوراق.

ودون أي حديث، أخذ الورق المنثور على المكتب حتي أصابها بالأرتياب، الى أن أخذ أوراقه وهوا يصيح
-إيه انتم عيذني اموت من الجوع... حرام عليكم...
وذهب عائداً للمنصورة بعد خذلان ومحاولات بائت بالفشل، وماذا يفعل المسكين في حال أنه لم يجد أي وظيفة ليأكل منها ويلبي حاجاته.
ربما وقتها يتسول، أو ينتحر حتى ليذهب ألى الجحيم، او إلى النعيم، لم يعلم أحد حتى الأن أنه سيذهب للجحيم إم للنعيم، أختلف الجميع على ذلك، ولكنك ستذهب على قدر أعمالك، كا أنسان، ليس كغضب من اللّٰه، ستذهب للنعيم وما تم جرحه لن يصلحه لك الله.
ولكنه لم يفعل أي شيئاً من هذا، جلس في عربة القطار، أشترا مشروب الشاي من الباعة المتجولون في القطار، وقعد ينظر عبر الشباك في القطار ليجد المساحات الخضراء بكثرة.
يجول زهنه إلى الماضي لبرهة ليجد الماضي، الأليم كله في بضع لحظات وجد والده الذي كاد أن يتسول حتى مات فقراً، و والدته التي ماتت من مرض لم يكن يعلم عنها العالم شيئاً حتى ظنوه أن وقتها قد نفز أمر الألاه.
و في أواخر فترة حكم الملك فاروق، بدأ ينظر للحياة ببهتان ولم يعد هناك أمل، أراد ان يكون شخصاً ناجحاً ولم يستطيع، لا يوجد فرص أمامه... الأن المستقبل لا يرى له ملامح  عتمة  لا سبيل للنجاح، لا سبيل لأي فرصة متاحا  كل شيء الأن قد فنا، وماذا يستطيع أن يفعل في تلك ظروف؟ هل يبحث عن شخص ليدلل عليه، ام يبحث عن المجهول وسط النفايات.

ديستوبيا أرض الضياعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن