تسللت آشعة الشمس من بين ستائر حريرية موضوعة امام نوافذ زجاجيه ، سقطت معظمها علي وجهها لترمش بعينيها بإنزعاج ثم وبتكاسل تفتح اعينها..
نظرت بجانبها الي مكان نومه فلم تجده ، ظلت ساكنة للحظات الي ان تبين لها صوت المياه بالمرحاض المتصل بالغرفة لتغمض عينيها مجددا وهي تتذكر ليلة الأمس.. .
خرج كريم من المرحاض وهو يلف منشفة حول خصره وأخري بين يديه يجفف بها وجهه ، القي نظرة عليها ليجدها تشيح بوجهها للجهة الأخري بعيداَ عنه ليتجه اليها ثم يجلس بجانبها ويقول:
- صباح الخير يا عروسه..
لم تجـب كعادتها فألقي كريم المنشفة من يده ثم امسك بوجهها بكف يده برفق ليجعلها تنظر اليه ، مال بجسده عليها كـ حصار لها ثم قال بإبتسامته المعهوده:
- صباحيه مباركه..
وضعت كف يدها علي صدره ثم ابعدته برفق واعتدلت في جلستها لتقول دون ان تنظر اليه:
- انا عايزه اروح لبابا..
نظر اليها للحظات ثم اعتدل وقال بجديه:
- انا عند وعدي ليكي يا خلود.. بس بلاش انهارده.
حركت وجهها لتنظر اليه بدهشة فلم تتوقع ان يماطل في تنفيذ وعده:
- يعني ايه ؟! انت كنت بتضحك عليا؟
نظر اليها كريم ثم قال:
- اضحك عليكي ليه بس .. طب انتي هتروحي تعملي ايه هناك؟
- هشوفه اطمن عليه.
- اطمني هـ..
لتقول مقاطعة بسخرية شديده:
- لا صدق اطمنت.. شكراَ.
ثم تابعت بإصرار:
- هروح انهارده .. ودلوقتي.
رفع كريم حاجبيه ثم قال بتحدي:
- وريني هتروحي ازاي.. انا ورايا شغل ومش فاضيلك اوصلك.
- مش محتاجه منك حاجه.
قالتها بعند فإبتسم كريم ثم داعب ذقنها بأصابعه كدليل لسخريته من كلماتها لتبعد هي وجهها عن يده..
نظر اليها للحظات ثم نهض واتجه الي خزانة ملابسه واخرج منها ما يحتاج ليرتديه ثم يذهب الي عمله..
مرت لحظات مشحونة بداخلها ثـم وفجــأة نهضت لتخرج من الغرفة و تتفقد إن كان موجوداَ ام لا..
و لحسن حظها او لسوءه كان قد ذهـب..
اسرعت هي الي ملابسها لترتديها ثم هبطت الدرج بسرعة و ركضت الـي باب المنزل ليوقفها صوت احدهم:
- علي فين يا مدام؟!
تسارعت دقات قلبها لتبتلع لعابها بقلق ثم تلتف بتمهل و ترفع بصرها ببطء وتنظر الي المتحدث لتجدها تلك المربيه المسنه ، تنهدت براحة ثم قالت:
- هروح اطمن علي بابا.
- ايوه بس كريـم بيه مبلغنيش بكدا .. بالعكس دا قالي الخروج ممنوع ليكي.
أغمضت خلود اعينها وزفرت بإنزعاج ثم قالت بدون تفكير:
- مش حضرتك بتيجي يومين في الاسبوع بس؟
لتجيب المربية وقد ادركت مقصد كلماتها:
- بس كريـم بيه كلفني برعايتك كل يوم وقت غيابه.. يا خلود هانم.
زفرت خلود مجددا بإنزعاج اكبر ثم نظرت اليها و قالت برجاء:
- ارجوكي ابويا تعبان في المستشفي وبقالي اكتر من اسبوع مشفتوش..
- ايوه يا هانم بس دي هتبقي مشكلة ليـا وليكـي قبل مني .. انتي متعرفيش كريـم بيه لما بيضايق بيعمل ايه..
اتجهت اليها خلود وامسكت بيدها ثم تابعت بتوسل:
- صدقيني هاجي قبل ما يوصل هنا ، بس اشوف بابا بس واجي علي طول.. طب يرضيكي اتجوز واحد اكبر مني السنين دي كلها ؟
رفعت المربيه حاجبيها ثم قالت بدهشه:
- قصدك انك عايزه تهربي؟!
- لا والله ابدا هرجع قبل ما يجي..
صمتت المربية بتردد ثم قالت:
- لا انا اخاف يا بنتى .. قوليله وكريم بيه مهما كان هو حنين وطيب.. بس متعصيش امره..
نظرت البها بضبق ودموعها تتكون في عينيها لتنظر اليها المربيه ثم تقول:
- انت بتعيطي؟
لتصرخ خلود بضيق ونفاذ صبر:
- وهعيط ليـه يعني ؟؟ انتو بتعملوا حاجـه لا سمح الله.
ثم هتفت بسخريه:
- دا انتو ملايكه..
ثم انسحبت بهدوء وجلست علي الدرج و وضعت كفيها علي وجهها لـتسمح لدموعهــا بالنزول..
نظرت اليها المرببة بإشفاق ، ولكن ما باليد حيله ، اتجهت الي المطبخ وخرجت بكوب ماء بارد ثم اقتربت منها ومدت يدها به لها فنظرت اليها خلود بإشمئزاز ثم دفعت الكوب ليسقط ويتهشم زجاجه الي شرائح..
نظرت اليها المربيه للحظات ثم قالت:
- قومي روحي..
رفعت خلود وجهها لتجدها تخرج لها المفتاح وتلقيه امامها ثم تذهب لتلتقت الزجاج المبعثر:
- انتي بتتكلمي بجد ؟!
سألتها خلود بعدم تصديق لتقول المربية دون ان تنظر اليها:
- روحي قبل ما ضميري يأنبني يلا.
اتسعت ابتسامة خلود لتنهض بسرعة و تحاول جمع الزجاج معها لتمسك المربية بيديها بحدة وتقول:
- ايه دا بقولك قومي وتعالي بسرعة..
لتقول خلود بسعادة:
- ربنا يا رب يـآآآ..
لتقاطعها المربية ضاحكه:
- قومي يا حبيبتي يلا انتي خرفتي.
اسرعت خلود بإلتقاط المفتاح ثم فتحت الباب واستدارت لتلقي بالمفتاح الي تلك السيدة ثم تركض بسرعة..
عادت خلود مجددا ونظرت اليها وهي تقف خلف الباب ثم قالت بحيرة:
- انا نسيت نقطة مهمه.. هروح ازاي؟!
******
توقفت السيارة امام المشفي لتنظر الي السائق وتقول:
- شكراَ يا عمو ..
نظر اليها السائق المخصص لأعمال كريم ثم قال:
- العفو يا هانم ..بس بسرعه الله يخليكي احسن نطرد من الشغلانه..
ابتلعت خلود لعابها بقلق ثم قالت:
- ربنـا يستر..
ارتجلت من السيارة ثم اتجهت الي المشفي بقلب مضطرب متلهف..
وصلت الي تلك الغرفة التي مكث بها والدها و حاولت فتح الباب ولكنه مغلق بإحكام ..
نظرت مجددا الي تلك النافذة الزجاجية ثم وقفت علي اطراف اصابعها لترتفع وتنظر منها فوجدت سريراَ فارغاَ؟
ضمت حاجبيها بتعجب ثم اعتدلت لتسمع صوتاَ مصدره خلفها:
- حضرتك بتدوري علي حد؟؟
التفتت لتنظر الي الطبيب المشرف علي حالة والدها فتسرع اليه و تقول بلهفة وشوق:
- ايوه فعلا .. بابا ، كان موجود هنا في الأوضه دي و كـ..
ليقاطعها الطبيب قائلا:
- حضراتكم كنتو فين الاسبوع دا .. يا آنسه والدك كان عنده مشكله خطيرة جدا في القلب و من الواضح انه اهمل الامر دا ، واحتاجنا نعمله عمليه نسبه نجاحها ميتعداش النص ، و للأسف العمليه فشلت وجثة والدك في المشرحه مستنين حد يجي ياخدها..
كانت كلماته قاسية خالية من الرحمة او الشفقة ، لم تستطع التصديق ، ظلت تنظر اليه بحدقتين متسعتين للحظات ثم قالت:
- لا حضرتك اكيد غلط الموضوع دا اتأكد من الاسم بابا اسمه أشرف..
ليقاطعها مجدداَ:
- عارف.. ويا ريت حد يجي يدفع حساب المده دي ويستلم الحثه..
ثم انصرف من امامها ببرود مثل قوله و
لتظل هي واقفة مكانها وجسدها يرتجف رجفة خفيفه لعدم توازنها فعلياَ ، نظرت امامها بصدمة ودموعها متحجرة في مقلتيها تتراقص بين جفنيها..
تسمع صوته .. صوته ينادي بإسمها بضيق شديد رغم عدم وضوح كلماته الباقيه ، إلي ان وجدته يجذبها من ذراعها بعنف وينظر اليها وكاد ان يعنفها ولكن صدمه نزول دموعها اخيراَ امام عينيه:
- مالك يا خلود؟؟
قالها كريـم بقلق صادق ليزيد بكاؤها ثم ترتمي في احضانه وتقول بمرارة من بين شهقاتها:
- بابا مات .. مات وسابني..
اتسعت حدقة عينيه بصدمة ولم يستطـع الإجـابه ، لف ذراعيه حولها بقوة ليجدها تنفر منه فجأة وتدفعه ثم تقول باكية:
- انت السبب .. انت كنت عارف انه مات ومش بعيد تكون قتلته..
كان يدرك شعورها الآن فقد مر به عند وفاة والديه ففضل تغير الموضوع ليقول:
- تعالي يا خلود هنتكلم في البيت..
- لأ..
صرخت به ثم تابعت:
- لا مش هاجي معاك في حته ..انت السبب انت اللي قتلته .. انت كنت عارف ان عنده القلب صح؟؟
ثم اكملت ببكاء اكثر حده:
- هو كمان كان عارف و مقليش..
اسندت ظهرها علي الحائط ثم جلست علي الأرض بإنهيار تبكي امام اعينه ، ولأول مرة يري ضعفها لهذه الدرجه ، إقترب منها ثم جثي علي ركبتيه امامها وقال بحنان:
- خلود..
رفعت رأسها لتنظر اليه و وجهها مليء بدموع اعينها لينظر اليها كريـم بحزن ثم يجذبها الي احضانه وكأنه يريد سحب الألم الموجود في قلبها.
يدرك تمام معني ان تفقد والديك ، فلقد فقد ابويه في حادث سياره واصبح وحيداَ تماما..
و الآن هي تذكره بنفسه السابقه:
- خلود قومي بس معايا دلوقتي..
لم تجب بل شعر هو بتمسكها في قميصه اكثر ليملس علي شعرها برفق ثم نظر حوله ليجد العيون تراقبهم بشفقة و عطف..
لم يرد ان يشاهدها احد بحالتها تلك فحرك ذراعه ليضعه اسفل ركبتها والأخر علي ظهرها ثم حملها بخفة و وقف ليخرج من المكان بأكمله..
الي ان وصل لسيارته فنظر اليها ليجدها نائمة او فاقدة للوعي ، فتح باب السيارة الخلفي ثم مددها و أغلق الباب مجدداَ ثم عاد الي المشفي..
*******
كان الطبيب يجلس خلف مكتبه يتفحص بعض الاوراق الي ان دلف كريم فجأة لينتفض وينظر اليه بضيق قائلا:
- ايــه يا حضرة ؟! انت ازاي تدخل كدا؟؟
اتجه اليه كريم وعيناه تشع غضباَ ثم امسك بياقة قميصه واوقفه ليقول الطبيب بخوف:
- في ايـه اناا..
قاطعه كريم بدفعه نحو الحائط ليصتدم بـه ثم قال بفضب:
- انا عايز اعرف انت دكتور ولا انسان غبي ومبتفهمش؟!
كانت قبضة كريم تضغط علي عنقه مما ادي الي خروج الكلمات مختنقة من بين شفتيه:
- دكـ ..دكتور .. والله دكتور..
- حلو اوي ..
قالها كريم ثم شد علي عنقه مجددا وقال:
- يبقي دكتور غبي ومبتفهمش ، اما تقول لبنت علي حالة ابوها بالطريقه دي يبقي غبي ولما تعرفها بموضوع مرضه اللي انا حذرتك من انك تقولها يبقي انت مبتفهمش..
كان يختنق فعلياَ فتركه كريـم ليسقط علي مقعده ثم خرج من مكتبه صافعاَ الباب خلفه بغضب .. !
******
دلف الي غرفته حاملاَ خلود بين ذراعيه ثم اغلق الباب بقدمه واتجه الي السرير..
وضعها برفق عليه ثم جلس بجانبها ونظر اليها وهو يضم حاجبيه بإنزعاج لحالها ذاك..
مرر انامله علي وجنتها ليزيل آثار الدموع السائلة من مقلتيها ثم تنهد واطال زفيره قليلاَ ..وشرد في ما حدث منذ بضعة ايام..
جلس امامه و نظر الي كم الأجهزة و المحاليل المعلقة بجسده ليقول بأسي:
- ألف سلامه عليك يا عم اشرف.. شده وتزول ان شاء الله..
نظر اليه اشرف بوهن ثم قال بصوت ضعيف متحشرج:
- خلود.. بـ بنتي فين..
ربت كريم علي كف يده ثم قال بهدوء:
- موجوده عندي في الفيلا .. متقلقش.
- مـ مش عـايزهـا تعـرف حـ حاجه يـ بني..
صمت كريم للحظات ثم قـال:
- انا مفهمها ان فيه تحسـن بس مينفعش تزورك وانت كدا .. بس هي عنيده ودماغها ناشفه..
ابتسم اشرف بضعف ثم قال بأنفاس متقطعه:
- طالعه لامها..
ابتسم كريـم مجاملة لإنشغال ذهنه فقال أشرف:
- اتكلم يابني..مـ ..مالك؟؟
تنحنح كريم ثم اعتدل في جلسته وقال:
- انا عندي حل للموضوع اللي شاغل بالك..
ظهرت عليه علامات عدم الفهـم فقال كريم:
- خلـود .. مش كنت قلقان عليها ان جرالك حاجه .. هي هتعمل ايه من بعدك.
اصغي اشرف اليـه بإهتمام ليكمل كريم:
- اتجوزها..
رفع اشرف حاجبيه بدهشه ثم قال:
- انـ انت بتقول ايه؟
- اهدي بس عشان انت تعبان..
تجاهله أشرف وتابع بعجب:
- تتجوز بنتي .. دي لـسه مكملتش الـ 18 سنه .. وغير..وغير كدا هي عمرها ما هتوافق ، هي متفوقه في دراستها وعندها احلام ماشيه.. ماشيه في سكة تحقيقـها.. وغير دا فرق السن بينكم مش معقول ابداَ..
صمت للحظات ثم تابع:
- انا عمري ما كنت اتخيل انك تفكر في خلود كدا.
نهض كريـم ليقف امامه ثم ذم شفتيه وقال:
- اديني فكرت .. و اكيد انت شايف ان السن مش ظاهر عليا ولا مأثر عليا من اي حاجه صحياَ او بدنياَ .. فكر في بنتك يا عم أشرف ، وابقي كلمني.
ثم استدار ليرحل فنظر اليـه اشرف ثم هتف بصوته الضعيف:
- كريــم..
التفت كريم ونظر اليه ليقول أشرف بحزن:
- انـا عارف ان ..نهايتي قربت..
صمت للحظات يغالب دموعه ثم قال:
- انا بس عايزك متجرحهاش و تخلي بالك منها.. خلود قويه بس من بره بس ، متستقواش عليها.. ولو فعلاَ مش هتجرحها بمشيك مع بنات الناس .. انـا مـ..موافق..
اومأ كريـم برأسه ثم التفت ليذهب ، وما ان خرج من حجرة العناية الفائقة حتي عادت ابتسامته المعهوده تزيد وسامته اكثر .. فأكثر.. !