فتح الباب الأحمر الطويل ليتقابل مع ظلامٍ دامس و هدوءٍ شديد ينبعث من أرجاء المكان.
وقف متصلباً في مكانه ينظر بعينيه السود المظلمتين على الداخل و بأقصى مجهودٍ عنده كان يحاول تجاهل ذاك الشعور القاسي الذي يصاحب قلب الضعيف المتعب من كثرة الشجن الذي سيطر عليه. حاول أن يدفع بعض الذكريات الأليمة بعيداً عن عقله الذي تعلم خيانته و عدم الانصياع لرغباته.
كان قد بدأ يغوص في العالم المظلم الذي وهب نفسه له من سنوات و رفض الخروج للنور و الضوء إلى أن صوتاً ما دخل إلى أذنه ليقوم بالتشويش على عقله.
- لقد ناديت منظفة صباح اليوم لتنظيف المنزل، لا تؤاخذني قد يكون البيت متسخ قليلاً فهي لم تستطع اللحاق بتنظيف كل شيء.
حينما رأى صاحب الشعر الأبيض جمود صاحب الشعر الأسود و عدم تحريكه لإصبع من أصابعه قرر أن يتقدمه و يدخل المنزل ليفتح الأضواء فتسللت خيوط الضوء في كل مكان في المنزل فضيق عمر عينيه فور استقباله للضوء الذي أعمى عينيه للحظة و بعد ثواني عاد الوضع كما كان عليه عندما اعتاد على الضوء القوي.
نظر شكري له ينتظر رده أو تعليقه على ما قاله و لكن لم يرد عليه أبداً بل بدأ باتخاذ بعض الخطوات إلى الداخل ليستكشف المكان و بدأ يحرك عينيه داخل المكان لينظر على ما أخفاه هذا المنزل لأربع سنوات.
- هلا... هلا أحضرت لي كوباً من الماء؟
نطق عمر ببضع كلمات عندما شعر بحلقه يجف بسبب ازدياد توتره و ارتباكه مع استعادته لبعض الذكريات المؤلمة فأومأ الرجل الأكبر سناً برأسه و اتجه إلى المطبخ يحمل في كلا اليدين عدة أكياس من مستلزمات الطعام الذي قرر أن يحضرها بنفسه عندما تأكد من أن الرجل الصامت لن يتكلم و لن يطلب ذلك أبداً.
حدق عمر بالداخل بعيونٍ واسعة لتتدفق ذكريات ذاك اليوم سابحة داخل رأسه تجعله يبتلع غصة مسننة داخل حلقه.
و لكن قبل أن يغوص إلى داخل عالمه المظلم جاء صاحب الشعر الأبيض من داخل المطبخ ليعطيه كوب الماء الذي طلبه ليبدأ عمر بالرشف منه رويداً رويداً فأخذ الرجل يراقبه ليقول أخيراً بعد فترة:
- عمر بيه... إذا كنت لا تحتاج أي شيء آخر، هل تسمح لي بالرحيل؟
اكتفى عمر بهز رأسه لينفي ما قاله في البداية و لكن وقف شكري لعدة ثواني في مكانه يحاول استيعاب عن أي سؤال جاوبه بالنفي، هل الأول أم الثاني؟ فظل ينظر عليه متردد للحظة بأن يسأل عن ما يقصده و لكن سرعان ما استنتج أنه لا يريد أي شيء و أنه سمح له بالذهاب فقرر أن لا ينشغل بذاك الرجل الغامض و قرر الرحيل بدون أن ينطق بكلمة واحدة.
أما عمر لم يفعل أي شيء غير النظر إلى كل طرف من أطراف هذا البيت و التي لم تذكره بأي شيء غير تذكيرها بها هي....
وحدها هي فقط!!
**********
كانت بيده ورقة بيضاء مليئة بكلمات بحبر أسود اللون و كان ينظر عليها بملامح باهتة جامدة... متبلدة المشاعر. ضغط أسنانه فوق بعضها يحاول ضبط تنفسه المتسارع بينما قلبه العليل كانت نبضاته تتزايد و لكن سرعان ما تغيرت ملامحه الباهتة تلك إلى ملامح غاضبة، تنبعث شرارات الغضب من عيونه فانقبضت شعبه الهوائية و انسدت فاندفعت الدماء الحارة بين أوردته ليحمر وجهه بينما تكورت كلتا يديه بقبضتين قويتين تكاد أظافره تجرحان الجلد الرقيق لراحة يده.
ماذا يحدث له؟ و ماذا كتب في تلك الورقة؟
وحده من يعلم ما كتب فيها!
- حبي... أصبحت جاهزة، هيا لنذهب.
كان قد أنهى قراءة المكتوب في الورقة منذ دهر و ما جعله يحملق بها بهذا الشكل كانت صدمته التي مازالت تعتليه إلى الآن و لكن ما جعله يفيق كان ذاك الصوت الأنثوي لتلك المرأة التي تعيش معه تحت سقف البيت نفسه و التي تدعي أنها زوجته فتسلل صوتها من أذنيه و تخلل خلايا رأسه لتزيل كل التشويش الذي اعتلى نفس الرأس.
زوجته....!
نظرت له مطولاً حين شعرت أن هناك شيء سيء سيحدث حتماً و ما أدخل الشك إلى قلبها أكثر هو وجهه الأحمر، عيناه التي ترسلان شرارات الغضب و تلك القبضة التي تكورت فوق الورقة المسكينة التي كادت أن تصرخ ألماً من قوة يده.
و لكن قبل أن تقوم بأي شيء سافرت بأعينها إلى ورقة أخرى موضوعة على الطاولة لتلاحظ أنها كانت عبارة عن ظرف الرسالة و عندما أمعنت النظر لقراءة ما كتب على ذاك الظرف اتضح أنها رسالة من... فكرت!
ماذا كتبت له؟ هل أخبرته بما أخبرتها به يوماً؟
هل أخبرتها أنها حب للإيجار؟
هل انتهى كل شيء؟
هل انتهت قصة حبهما؟!
رغم أن العديد من الأسئلة دارت داخل رأسها و جعلت قلبها يدق كالمجنون و لكنها لم تشعر بأنه بخير فابتلعت لعابها بارتباك و اقتربت منه بهدوء و حذر لتقرر مد يديها للإمساك بذراعيه و الإطمئنان عليه قبل حتى أن تطمئن على مستقبهما معاً.
- حبي...
و لكن فور ما لامست قماشة سترته رفع ذراعه اليسرى بقوة ليرمي كلا يديها إلى البعيد ثم يحرك رأسه باتجاهها ليرسل إليها نظرات حادة و حارقة ألجمتها مكانها و أرعبتعا فارتعدت و رجفت خوفاً.
انقبض صدر دفنة من صدمة ما فعله حتى أنها شعرت بالدموع تتجمع في أعينها إثر إحساسها بغضبه و لكنها حاولت أن تمنع ذرفهم و ابتلعت تلك الغصة القابعة في حلقها ثم رفعت عينيها لتنظر لتلك العيون السوداء القاسية و تكلمت بتلعثم.
- عـ-عمر... هـ-هل أنت بخير؟
-... هل... هل صحيح أنك حب للإيجار؟
انقطع نفس دفنة و شعرت ببرودة أطرافها بينما زادت نبضات قلبها للضعف و التي كانت تهشم جدرانه من الداخل.
هذا ما كانت تخاف منه.
عرف الحقيقة!
حملقت به بصدمة و عدم تصديق لما سمعته يخرج من فمه لا تعرف كيف تتصرف و لا ما تقوله، انتهى كل شيء و عينيه الغاضبتين تلك أكبر دليل على ذلك.
هل هي في حلم؟ هل ما تسمعه حقيقة؟
لم يكن عندها الوقت لتفكر في عدة أشياء معاً و تستنتج ما كتبته له فكرت في رسالتها، فهل كتبت الحقيقة التي أخبرتها بها فعلاً أم أنها اختلقت الاكاذيب؟
أما عمر كان سيجن لأن رغم غضبه الضخم عليها كان يتمنى بشدة أن تكون تلك مزحة غبية من فكرت و لهذا عندما رأى جمودها أعاد السؤال مجدداً و لكن بنبرة أعلى و أقسى من سابقتها.
- هل صحيح أنك حب للإيجار؟!
ابتلعت لعابها و هي تنظر له تشعر بأن الخوف يعتريها في كل مرة قابلت عينيه الغاضبتين المشتعلتين بنار حارقة.
حاولت كثيراً أن تخبره و لكن في كل مرة كانت تؤجل ذلك لأنها كانت تخاف عليه من الصدمة و لكن الآن أرسلت فكرت رسالة تخبره بكل شيء أخبرتها دفنة به سابقاً و ها هي تجني ثمرة غبائها التي قامت به مسبقاً.
ما دار في رأسها لهذه اللحظة هو أنه ياليتها أخبرته قبل تلقيه الرسالة على الأقل لم تكن لتصبح في وضع المذنبة أو في وضع أنها من أخفت عنه حقيقة خطيرة كهذه!
- عـ-عمر...
حاولت أن تتكلم و لكن خانها لسانها و تلعثمت رغماً عنها حينما أرسل شرارات الغضب من عينيه.
- كـ-كنت سـ-سـ-سأخبرك و لـ-لكن....
ما أراد أن يعرفه قد قالته في الأساس و ما كان يريد أن يتأكد منه هو جوابها فقط و ها هي تؤكد له بأنها كانت كذلك. و لكن رغم أنه ربط الكثير من الأحداث مع ما قالته فكرت إلا أنه كان يريد أن يسمعها هي فقط!
لم تستطع أن تدافع عن نفسها لأنها فور ما قررت أن تتكلم لم يكترث لما تقوله و تتفوه به.
- عمر... عمر اسمعني أرجوك... كنت سأخبرك... كنت سأخبرك يا حبي!
لم يكترث لما يسمع و ما رأته منه كان عينين تحدقان عليها بغضب ممتزج بالحقد و الكره فابتلعت لعابها محاولة أن تبحث لنفسها عن شيء ينقذها من تلك النظرات و لكن تشوش عقلها و لم يسعفها فشعرت بقبضة يده تعتصر ذراعها العلوية و تسحب جسدها للأمام فلم يكفي الوقت لكي تعترض عما يفعله لترتطم فوراً بسطح خشن بقوة جعل يديها تنزف من خشونته.
من صدمتها ظلت تحملق بالأرض لا تصدق ما يحدث معها و لكن انتفضت من مكانها فجأة حينما سمعت صوت صفع الباب المدوي!
و لم تجد غير الدموع لتحتمي خلفها بسبب كل نغزة ألم نغزت قلبها و جرحته لتنزف دماً غير مرئي...
أما في الداخل كان الرجل يضع كلا راحتي يديه على السطح الأملس للباب الأحمر، يتنفس بسرعة بينما كانت عينيه على وسع لم يعهده يوماً و قطرات العرق تتصبب من وجهه كالشلال.
كان ينظر على ما أمامه لا يدرك ما هو في الأساس ليعود بذاكرته للوراء، قبل سنة من الآن يتذكر كل ما حل به منذ أول يوم قابلها به إلى أن وصل إلى هذا اليوم.
لقد كذبت عليه، لقد خدعته، لقد آذته!!!
*******
صوت انكسار الزجاج جعله يستفيق من غيبوبته غير واعي بما يجري من حوله فحرك رأسه لينظر من حوله فوجد أنه في نفس المكان الذي كان يضغط على صدره و يخنقه برائحتها التي مازالت إلى الآن تحوم في الأرجاء و لم يستطع ذلك الدهر الذي مر أن يخفيها و يتخلص منها و يبدل رائحتها برائحة التراب العتيق.
و لكن رغم أنه كان في ذاك المكان الخانق، لم ينسى سماعه لصوت انكسار الزجاج. و بدون أن ينظر لمصدر الصوت في الأساس، شعر بسائل ساخن يتدفق على راحة يده اليمنى فأنزل ناظريه إلى تلك اليد فرأى أن أنسجتها قد تمزقت و بدأت تنزف دماً فحرك يده إلى حيث كانت الطاولة موجودة و وضع ذلك الكوب المدمم عليها بحذر ليرفقه بعد ذلك ببعض الزجاج العالق في راحته ثم انطلق إلى حوض المطبخ ليغسل تلك اليد المدممة.
هطلت الكثير من الدماء من راحة يده اليمنى كأنها كانت تنتظر تلك اللحظة بالفعل لتندفع من أوردته و تخرج إلى خارج جسده و لكن لحسن حظه أن ما أصابه كان جرح خارجي و لم يتخلل الزجاج جسده و بسهولة استطاع إخراج الزجاج الصغير من داخل راحته.
و لكن رغم أنه كان مجروح جرحاً فظيع، لك يكن يشعر بأي ألم.
إحساسه بالألم قد انعدم بسبب ما حل بقلبه من ألم....
حملق بالماء الجاري يغوص في عالم أفكاره كأن يده لم تصب بأي أذى من دقيقة سابقة!
هو يؤذي نفسه و جسده بسبب ذكرياته الأليمة، ماذا يحدث له؟ لم يكن بهذا الضعف مسبقاً!
و لكن يبدو أن هذا المكان هو السبب... المكان الذي بدأ فيه كل شيء و انتهى فيه كل شيء.
المكان الذي يحمل رائحتها في كل أرجائه.
المكان الذي تخللت روحها في كل شبر منه.
عندما انتهى شاه السمر من تنظيف يده الحمراء رفعها إلى أعلى ليبدأ بالبحث عن شيء ما ليلف به تلك اليد و لكن عن طريق الخطأ وقعت عيونه على المكان من حوله و رغماً عنه.... استعاد بعض الذكريات.
الذكريات التي كان يعتبرها آنذاك من أجمل لحظات حياته!
**********
- حبي... أخبرني.... ماذا أعد لك على العشاء؟
وقفت أمامه بهيأتها الجميلة مرتدية بيجامة منزلية طفولية، واحدة من البيجامات الكثيرة التي عشق رؤيتها بها لجمالها و عفويتها. شعرها الأحمر المجعد متناثر على كتفيها كشلالات حمراء بينما عينيها كانت مبتسمتان و تضحكان لتريه مدى سعادتها لكونها معه و له هو فقط.
عندما اقتربت منه رفعت كلتا يديها لأعلى إلى ربطة عنقه و أخذت تعدل له منها بينما كانت عينيها البنيتان ترتكزان على عينيه السود الجميلتين و التي سحرتها منذ زمن و أسقطت بلاء العشق على رأسها.
- هل ستحضرين العشاء بهاتين اليدين الجميلتين؟
نظر إلى عيونها الضاحكة و لم يستطع مقاومة جمالهما فامتدت ذراعيه لتتشبث بخصرها و عينيه لم تبتعدا عنهة خاصتيها للحظة واحدة لعدم قدرته على مقاومة جمالهما و سحرهما فكان يشبع ناظريه منها كأنها ستهرب إذا أبعد عينيه عنها في أي لحظة.
بعد إنهائه لجملته السابقة رفع يد من يديه من على خصرها و أمسك بيدها البيضاء بلطف و رقة ليرفعها إلى شفتيه و يطبع عليها قبلة عميقة فتغلل دفئ شفتيه إلى خلاياها الحساسة.
- بالطبع عمر بيه، من سيهتم بك غيري؟
ابتسمت الفتاة و أحاط عمر خصرها بذراعيه الاثنين لترتكز راحتي يده على ظهرها المقوس و حين غاص بعينيه في بياضها و رقتها لم يستطع مقاومة لطافتها فاقترب ليضع قبلة رقيقة بجانب شفتيها و أعاد رأسه بضعة سنتيمترات للخلف لينظر إلى عينيها غارقاً في بحورهما و سحرهما.
- ما أجمل أن تهتم بي فتاة جميلة، بشعرٍ أحمر و وجه أبيض مثلك.... هل أنا في الجنة يا ترى؟
اتسعت ابتسامة البرتقالية و رفعت يديها لتضعهما على وجهه لتلامس وجنته بإبهميها و تحك بهما لحيته.
- لا لست في الجنة عمر بيه... أنت معي، معي أنا فقط!
قبلها مرة أخرى و لكن هذه المرة كانت القبلة فوق شفتيها، قبلة عميقة مدفئة للقلب محركة للمشاعر.
ابتعد عنها بعد فترة بتنهيدة راحة و غاص في جمال عينيها مجدداً يشعر بأن هاتين العينين هما ملكاً له فله الأحقية في النظر لهما قدر ما شاء و وقت ما شاء!
- إذاً كوني معي دائماً و لا تفترقي عني أبداً!
- أمرك عمر بيه!
**********
يبدو أنه لن يستطيع أن يعيش في هذا البيت الذي يضغط على رئتيه و يذكره بابتسامتها في كل مرة ينظر فيها إلى طرفٍ من أطرفه و يذكره أيضاً بضحكتها في كل خطوة يسير فيها على أرضه.
عجباً لهذا البيت، بقي واقفاً على قدميه لسنوات و لكن مازال كما كان في الماضي.... مجهد و متعب للتفكير!
تنهد عمر بقوة و هو يضمد يده المجروحة ليسير بعدها بعيداً عن المطبخ و ثم إلى باب البيت ليغلق أضواء البيت بعدها ليقرر أن يهرب بنفسه بعيداً عن تلك الذكريات التي قهرت قلبه المسكين و يبتعد عن البيت المسكون بضحكاتها و ابتساماتها و قهقهاتها.
هي ماتت بالنسبة له فلم لا تموت ذكرياته بها معها؟!
............................
جلست على الأريكة متنهدة بتعب اليوم الذي قضته نصفه في الركض يميناً و يساراً من اجل إنجاز المهام التي عليها. بعدما جلست سحبت الصغيرة الجميلة ابنتها ذات الشعر الأحمر الطويل، ذات القامة القصيرة و الوجه الأبيض.... و العينين السود... و حملتها لتجلسها على ساقيها ثم بابتسامة على وجهها نظرت لعينيها السوداوتين التي تعشقهما كثيراً و قبلت وجنتها البيضاء الناعمة بعمق و اشتياق لتتلقى بعض الضحكات و القهقهات من تلك الفتاة التي تعتبر أغلى من حياتها.
- روحي...
- تأخرتي اليوم أيضاً يا أمي!
اعترضت الصغيرة و هي تقرن حاجبيها في انزعاج. عضلات جسدها مرتخية و لم تدل على عبوسها أبداً و لكن كان مجرد انزعاج لأنها أرادت قضاء وقت أطول مع والدتها قبل أن تخلد إلى النوم باكراً كالعادة.
نظرت دفنة لنصف وجهها الأيسر الذي يظهر أمام ناظريها تحاول إيجاد الجواب المناسب للرد على المتذمرة الصغيرة فلامست يدها بلطف و قالت:
- كوريش... كوريش غضب كثيراً. غضب كثيراً لدرجة أنه أحزن الجميع!
صدمت الصغيرة من سماع ما قالته والدتها و فتحت عينيها باتساع أخدت تنظر بدهشة إلى الفراغ لتقول أخيراً بنفس تلك الدهشة:
- هل أحزنك أنت أيضاً؟
ابتسمت دفنة و شدت بذراعيها لتحتضن الصغيرة بأكثر قوة و تضمها إلى صدرها لتريح ذقنها فوق كتفها بعد ذلك.
- لا لم يحزنني و لكن لأنه غضب هكذا... حزن كثيراً و بدأ بالبكاء!
- لماذا حزن إذاً؟
لم تستغرب دفنة أبداً من صغيرتها و أسئلتها التي كانت عادةً تطرحها في كل مرة رأتها فيها. فكانت ذكية جداً و تحب معرفة كل شيء عن هذه الدنيا و شبهها الكثيرون بها عندما كانت صغيرة فكم كانت تسأل العديد من الأسئلة قبل افتعال المشكلة. و لكن إيليف، كانت مسالمة و هادئة نوعاً ما و كانت لطيفة جداً. لا تفتعل المشاكل و محبة و مقبلة على الحياة و هذا أراح دفنة بدرجة كبيرة جداً.
- العارضات أحزنوه... ربما.
عزمت دفنة لتشرد الصغيرة بضع ثواني تفكر في تلك الاحتمالية و لكن لم تقتنع كثيراً بذلك فهي أيضاً تعرف كوراي و أفعاله فلم الكذب، تعرف أن ذلك الاحتمال خطأ مئة بالمئة!
- هو من أحزنهم يا أمي!
لم تستطع دفنة منع ضحكتها من الانسياب من بين شفتيها الحمراوتين و وضعت قبلة أخرى على وجنة الفتاة الصغيرة لا تستطيع مقاومة تلك الظرافة و اللطافة التي خلقت بها هذه الصغيرة لدرجة أنها تمنت أحياناً بأن تبقى بهذا الحجم و لا تكبر أكثر من هذا لتبقى الفتاة الصغيرة اللطيفة الظريفة و المحبوبة لدى الجميع!
و بعد انقضاء تلك اللحظة رفعت دفنة رأسها لأعلى لتحدق بذلك الشخص الذي كان يجلس أمامها و يراقبها و على وجهه ابتسامة بسيطة دافئة معجب جداً بما يراه من أمومة متدفقة من ذات الشعر الأحمر فابتسمت ابتسامة منهكة متعبة و تكلمت بصوت خافت و هي تلامس اليد البيضاء لابنتها الصغيرة ملامسة خفيفة طفيفة أمتعت الفتاة و أسعدتها فراحت تلامس يد والدتها بنفس الطريقة.
- كيف حالك نجمي بيه؟
سألته و هي منشغلة مع ابنتها و لكن ناظرها موجه له فانتفض باتجاهها عندما سمع السؤال ليجاوبها فيما بعد بهدوء أقرب إلى محاولة تغطية على انتفاضته هذه.
- أنا بخير... كيف حالك أنت؟
حدق بعينيها ليرى أنهما كانتا ميتتان... منذ زمن، خاليتان من المشاعر فكان في الحقيقة لا يستطيع تحديد السبب الحقيقي وراء تلك العيون. هل لكثرة تعبها في العمل أم أن وجوده هنا مازال يذكرها بذكريات تبغض تذكرها فيضاعف ألمها؟
كانت العلاقة بين دفنة و كل الأشخاص الذين أحاطوا عمر قديماً مترابطة نوعاً ما، أي أنهم كانوا يتحادثون معها و يتواصلون من الحين للآخر و لكن كان بسبب وجود إيليف فقط.
لم تكن علاقتها بهم يوماً كالسابق فهي اختارت البعد عنهم و وضع خطوطٍ عريضة باللون الأحمر و رغم أنه ليس بيدها ما تفعله كانت تشعر بالاختناق و الألم بالقرب منهم.
تعرف بأن لا ذنب لهم بما حدث فهم لم يخبروا عمر أي شيء سيء عنها و لكنها قررت أن تصبح أنانية و تميل لقلبها العليل الذي عانى الكثير و الكثير و أن ترفض كل ما يسبب لها أضعاف ألمها و تكتفي بما ترك لها عمر من وجع و قهر!
و لكن رغم هذا، لم تمنعهم من رؤية إيليف عندما طلبوا منها بل و عملت كثيراً على تقوية علاقة إيليف بهم.
فهم كما عزموا قديماً.... عائلتها.
كان قلبها محطم مهشم من كل من أحاطوها سابقاً تشعر بأنها تموت في كل مرة تقابل أحدهم و لكن رغم ذلك لم ترد لابنتها أن تكبر بمفردها و أرادت أن يكون الكثير من حولها لكي لا تشعرها بالوحدة التي كانت تشعر بها هي في الماضي.... فما أحاطوها قديماً إلى الآن من عائلة كان عبارة عن ثلاثة أشخاص ألا و هم جدتها و سردار و إسرا.
لم تخبر نجمي بضيقها المزعوم و حزنها الذي يتزايد حتى لسماع أسمائهم لأنها علمت أن لا حق لها بمنع الصغيرة من مشاركة الحب مع من تريد و لكن الرجل كان يقرأ ذلك في عينيها، يقرأ الألم و الشجن الذي رسما بدقة و تفنن فيهما.
استوعب أن عليه أن يبتعد قدر الإمكان و استوعب أنه بوجوده في المكان المتواجدة هي فيه يذكرها بألمٍ و حزن تحاول أن تشفى منه و تنساه أو على الأقل تتأقلم معهما اللذان حولا حياتها إلى جحيم و جعلاها تنزف بدل الدموع دم!
- أنا سأنهض الآن.
كان الاكتئاب على وشك السيطرة على عالمه مجدداً و لكنه منعه عندما قرر أن يقف على قدميه ليعدل من هيئته استعداداً للرحيل فرفعت الفتاتين رأسيهما ليحدقا به فتكلمت دفنة معترضة على ما قاله.
- ابقى قليلاً نجمي بيه...
- نعم جدي نجمي، ابقى!
اعترضت الصغيرة و قفزت من على ساقي والدتها و تركض ناحيته لتتشبث في قماشة سترته برقة تكاد تشدها للأسفل فأخفض الرجل رأسه لأسفل لينظر لها بابتسامة يملأها الحزن.
- لا أستطيع عزيزتي إيليف... أخوكي سنان ينتظرني!
عبست الصغيرة لتفلت يديها عن سترة الرجل فاضظرت دفنة للنهوض مجدداً بتعب و إرهاق لتمشي ناحيتهما.
- حبيبتي إيليف... لا تعبسي فوراً، ترينه الأسبوع المقبل.
وضعت يدها على رأس صغيرتها تربت عليه و إذ بها تقتنع قليلاً لما قالت والدتها فارتاح الرجل و المرأة لاقتناعها أخيراً.
رفعت دفنة رأسها لتنظر إلى الرجل لتلحظ أنه قام بنفس فعلتها و قال مودعاً:
-لا داعي لمرافقتي إلى الباب فأنت متعبة...
أومأت الفتاة برأسها و لم ترد له عرضه و قالت:
-.... أوصل سلامي لسنان بيه.
أومأ برأسه لينطلق بعدها إلى الخارج.
عندما خرج نجمي من الباب استقبل مكالمة هاتفية فوراً فأخرج الهاتف و رفعه إلى أذنه ليجيب الاتصال بعد ما عرف هوية المتصل عن طريق قراءة اسمه و عندما فتح الخط، بدأ بالتكلم.
- نعم سنان، لقد خرجت من عند دفنة الآن.
جاوب الرجل ليتلقى تنهيدة تحمل الكثير من الهم و الغم فقرن حاجبيه و هو يسير ببطء في الحديقة الخاصة بالبيت يحاول الوصول لبوابة المنزل.
- ماذا حدث سنان؟
سأله يتأمل أن يحصل على جواب و ليس صمت فقرر سنان أن يجاوبه لأنه لا يستطيع الاحتفاظ بهذا الشيء بداخله فهو يضغط على خلايا استيعابه.
- أخي نجمي... أود أن أخبرك شيئاً يا أخي.
توقف الرجل عن الحراك حين شعر بانقباض قلبه. هو يعرف سنان و يعرف نبراته و تلك النبرة التي تحدث بها لتوه لم تكن نبرة مبشرة بالخير أبداً فظل صامتاً مقطوع الأنفاس ينتظر أن يصدمه بكلامه الذي كان يخبئه في جوفه.
- لقد جاء يا أخي... عمر...جاء...
لم يتنفس من الصدمة و ظل يحدق في الفراغ يعيد جملة سنان بصوته داخل عقله مراراً و تكراراً يحاول استيعابها مع نفسه.
لقد جاء يا أخي... عمر جاء...
جاء ابن أخيه من السفر... جاء بعد أربع سنوات!
عاد تنفسه لحالته الطبيعية حين استوعب و استدرك ما حدث و لكن شيئاً ما لم يكن على ما يرام.
- أخي... هل أنت بخير؟
-... نعم سنان...، أنا بخير.
كان يقول جوابه غير مدرك للسؤال في الحقيقة لأن عقله كان في عالم آخر بعيد كل البعد عن هذا العالم يفكر في ذاك القدر الذي جعله يعود مرةً أخرى إلى البلاد... و الآن!
قادته قدميه للالتفاف في مكانه لتقع عينيه على ذلك المبنى الكبير الذي كان يتكون من طابقين و أطلق زفيراً قوياً مصحوباً بقدرٍ من الألم و الحزن و الهم.
كان ينظر إلى الستار الموجود في غرفةٍ مضاءةٍ في الطابق الثاني و خلف ذاك الستار ظهر ظلان أحدهما للأم و الآخر لابنتها الصغيرة.
عاد عمر بعد أربع سنوات من الجهل بأن لديه ابنة صغيرة!
..................
- هيا كلي كل ما أمامك.
- و لكن أمي... لا أحب الخضار!
تذمرت الصغيرة ذات الشعر الأحمر تحاول استعطاف والدتها لتتركها و شأنها و لا تجبرها أن تأكل ما لا تشتهيه. فنظرت دفنة إليها بنظرة انزعاج تريد إقناعها بتناول الطعام المفيد و لكن إيليف هانم لا تقتنع بذلك فرفعت نظرها لتنظر إلى الطفل الآخر الذي يجلس في الناحية الأخرى من الطاولة و يأكل الخضار الذي تبغضه الآنسة الصغيرة فابتسمت و أحنت رأسها تجاه الفتاة الصغيرة و قالت:
- و لكن انظري إلى إيسو كيف يأكل الخضار و يسمع كلام خالتك نيهان.
رمت الصغيرة رأسها الصغير لتنظر إلى الفتى الذي كان يبكي و هو يتناول الطعام الخاص به فقرنت حاجبيها في ضيق و نظرت إلى عدوها اللدود في الطبق.
نوت على أكل الخضار في في هذه اللحظة لأنها لا تقبل أن يصبح إيسو أفضل منها و مطيع أكثر منها فحركت رأسها لتعود بها و تنظر إلى الشوكة التي كانت دفنة تمسكها في يدها و آخرها قطعة من الخضار ثم قررت أخيراً أن تفتح فمها لتستقبل قطعة الخضار.
ابتسمت دفنة و حركت يدها سريعاً إلى ناحية وجه الصغيرة قبل أن تغير رأيها، فكانت تقدر لصغيرتها تضحيتها الكبيرة و كانت تستغل أقل الثغرات التي التي تستطيع بها جعل إيليف مطيعة بهذا الشكل.
كانت علاقة إيسو و إيليف جيدة جداً و لكن كان هناك القليل من الغيرة من كلا الطرفين و كانت هذه الغيرة طبيعية جداً بالنسبة لما في هذا السن و لكن دون هذه الغيرة كان الاثنين يحبان بعضهما جداً.
مضغت إيليف ما في فمها مغلقة عينيها تحارب دموعها لكي لا تسقط ثم بعد فترة ابتلعت ما في فمها.
- أحسنت يا حبي!
أحنت دفنة رأسها باتجاه ابنتها لتضع قبلك فوق رأسها كمكافئة لها على بذلها هذا المجهود الجبار.
- هيا حبيبي... هيا لكي تلعب بالكمبيوتر اللوحي غداً!
التقطت آذان دفنة صوت نيهان ذات الشعر البني و هي تتكلم إلى ابنها فشعرت بالشفقة على كلا الطفلين.
رغم أن دفنة و نيهان كانتا تعيشان في منزلٍ واحد و لكن كانت كل واحدة منهما تربي طفلها كما تشاء لأن كل واحدة في النهاية الأم المسؤولة عن طفلها.
فكانت نيهان تربي إيسو بقليل من الشدة و التهديدات كالمنع و الترهيب و لكن رغم ذلك إيسو يحبها جداً و يسمع كلامها بحب لها و في نفس الوقت خوفاً منها، أما دفنة كانت حنونة على ابنتها و شديدة عليها في بعض الأحيان إذا لزم الأمر و أحياناً تستغل تلك الغيرة التي خلقت من حيث لا تدري بين الصغيرين كما تفعل نيهان في أغلب الأوقات.
- دفنة...
قاطع صوت جدة دفنة حديث الوالدتين لطفليهما لترمي دفنة رأسها ناحية جدتها التي كانت تجلس في رأس الطاولة بينما لم تتوقف يديها عن العمل و تنظيف وجه الفتاة الذي تلوث ببعض قطرات من الصوص و الصلصة.
- نعم جدتي؟
- كيف حال الأعمال؟
حدقت دفنة بجدتها لثواني تعرف من داخلها أن المرأة المسنة لا تفهم كثيراً في الأمور التي تتعلق بالشركة و لكن هي بالتأكيد تريد أن تفتح حديثاً معها فجاوبتها بكل بساطة.
- بخير جدتي... بخير.
نظرت لها جدتها بتمعن تحاول قراءة الغير مقروء على وجه الفتاة للاطمئنان عليها.
لطالما أخفت دفنة عنهم ألمها و دفنته بداخلها و لم تخبر أي أحد عن ما تعانيه و لكنهم كانوا يعلمون، كان يعلمون أنها تتعذب و تعاني وجعاً فوق وجعها و لكن لم يعرفوا يوماً إلى أي مدى وصل هذا الألم و إلى أي مستوى قد تفاقم و ساء لأن هدوءها و صمتها لم يفسر لهم أي شيء.
حاولوا التخفيف عنها في عديدٍ من المرات و جعلها تتحدث و لكنها لم ترد أن تفصح عن ما في قلبها لأنها تعرف أن مهما تكلمت و مهما قالت لن يقلل هذا من وجعها بل يمكن أن... يزيده.
- غداً العرض أليس كذلك؟
- نعم...
- هل أنت متوترة إذاً؟
ضحكت دفنة و هي تتذكر ما حدث خلال هذا اليوم الطويل من مغامرات خاصة بشركتها الكبيرة ستيل فاغون و كوراي الذي جعلها تكبر سناً ضعف سنها بسبب ما يفعله.
- يعني، قليلاً...
رفع صاحب الشعر الأسود سردار رأسه لينظر لأخته باندهاش يقرن حاجبيه و يحدق بها فقال و هو مستغرب مما يسمعه منها:
- ماذا يعني هذا الكلام؟ من المفترض أن تكوني قد اعتدت على هذا.
أنزلت يدها لتتناول الملعقة لكي تتناول الطعام الخاص بها أيضاً و هي تضحك لتذكرها لماضٍ كانت قاربت على نسيانه.
- أنا هكذا منذ الطفولة يا أخي. ألا تتذكر ماذا كان يحدث لي في بداية كل سنة دراسية؟
فسرت له دفنة و هي تضحك على نفسها لتذكرها طفولتها لتلتقط انتباه الصغيرة التي كانت تمضغ الطعام بتركيز فرفعت رأسها لتنظر لوالدتها و هي تتحدث و عندما سمعت خالتها الأصغر سناً صاحبة الشعر الأسود التي قررت المشاركة في الحديث حركت رأسها ناحيتها.
- و أنا أقول ممن أخذت هذا الطبع؟
لم تفهم الصغيرة ما كانوا يتحدثون عنه و قررت الاستفسار عن ما يقولون بفضول فأعادت رأسها لدفنة مجدداً لتسألها عن ما تقصده.
- أمي ماذا كان يحدث؟
حركت دفنة رأسها إلى ابنتها الفضولية و ابتسمت و هي تغرس الشوكة في قطعة لحم لتأتي بها و تضعها في فمها الصغير.
- كنت أظل مستيقظة طوال الليل و لا تغفو لي عين بسبب التوتر!
مضغت الفتاة ما فمها لمدة دقيقة كاملة تحاول الإسراع في المضغ لكي تقول ما تريده حتى لا تنساه و عندما انتهت تكلمت باندفاعية.
- هل سيحدث لي هذا عندما أذهب للمدرسة؟
- ليس بالشرط أن يحدث هذا و لكن... أنتما تريدان أن تدخلا المدرسة أليس كذلك؟
انحنت دفنة للأمام توجه حديثها لكلا الطفلين اللذان وجها سمعيهما لها فحصلت على إيماءات رأس و أجوبة منهم تدل على موافقتهما.
- نعم!
- نعم!
- إذاً دعاني أقول لكما سر تستطيعا به أن تدخلا المدرسة.
- ما هو؟
وجه كلاً منهما تركيزيهما ناحية دفنة التي أعادت جسدها للخلف لتبدأ في تحريك عينيها بينهما تحاول إشعال شعلة حماسهما و فضولهما لمعرفة ذاك السر.
- إذاً يجب عليكما أن تنهيا طبقكما لتكبرا و تصبحا أقوياء لتستطيعا دخول المدرسة.
تحمس الاثنين عند سماع ما قالته المرأه وقررا أن يقوما بما أمرا فابتسمت دفنة فخورة بما فعلته و أخذت تتناول طعامها بكل أريحية لتسود لحظة صمت لا يسمع بها إلا صوت المعالق المصطدمة بزجاج الأطباق لتتكلم توركان بعد فترة و تقول موجهة كلامها لحفيدتها الكبيرة:
- لأعلق لك خرزة زرقاء لتحميكي من العين.
- جدتي، علقي لي أنا أيضاً!
توقفت إيليف عن تناول الطعام لتعلق فضحكت جدتها و أومأت برأسها موافقة لما تقوله إيليف هانم.
- لأعلق لك أنت أيضاً إذاً.
و لم ينتهي الحديث عند ذلك لكما ذكرت سابقاً إيليف و إيسو في حالة غيرة دائمة و ما تفعله إيليف يريده إيسو و العكس أيضاً.
- و أنا!
حركت توركان ناظريها من على الصغيرة للصغير و لم تجاوبه فوراً و لكن بدأت بالتفكير في حل يسعد و يريح كل الأطراف.
- أنا أقول لنعلق خرزة كبيرة للغاية على باب البيت لتحمينا كلنا من العين، ما رأيكما؟
إيسو ابتسم و اقترب من جدته التي اقترحت الفكرة و بابتسامة كبيرة تساءل عن حجم الخرزة.
- كبيرة جداً؟
- كبيرة و زرقاء للغاية!
ضحكت إيليف لتعلق على ما قالته جدتها متسائلة.
- زرقاء لون السماء؟
- نعم...
شاهدت نيهان تحمس الاثنين لما قالته توركان ثم أخبرتهما ألا يتلاهوا عن تناول الطعام.
- و لكن قبل أن نعلقها يجب عليكما أن تنهيا طعامكما... بسرعة هيا!
انتهى الاثنين بعد مدة من تناول الطعام و شبعا و فور انتهائهما قررا الذهاب و اللعب بألعابهما اليومية بينما بقي حمل أطباق الطاولة على عاتقي دفنة و نيهان و الخادمة المسؤولة عن بعض الأعمال فب المنزل لكبر حجمه و اتساعه.
- لأول مرة يأكل إيسو من طبقه كله بمحض إرادته دون اللجوء لإجباره و الفضل كله يعود لك.
و بعد فترة صمت طويلة قاطعت نيهان ذاك الصمت لتعلق على ما حدث على الطاولة منذ قليل فانتبهت دفنة لما قالته و رفعت رأسها لتنظر لنيهان و ابتسمت لتتذكر نفس الذكرى التي كانت تتحدث عنها نيهان و لكن سرعان تغيرت تلك الابتسامة إلى عبوس.
- حالي من نفس حالك فأنا أعاني مع إيليف بقدر ما تعانيه مع إيسو.
تنهدت نيهان لتغوص في فكرها لتتذكر كم المعاناة التي تعانيها مع الصغير بدون توقف أو رحمة منه يعطيها إياها.
فمنذ ولادته عانت من رضاعته و حفاضاته و عندما كبر قليلاً عانت من بكائه المستمر و الآن حينما تخلص من عادة البكاء المستمر أصبح له عادة العناد على كل شيء و أي شيء. و لا ننسى أن إيليف كان ينوبها الكثير من هذه الأفعال بالتأكيد فتندهش و تقول ماذا سيصبهم بعد من وراء عادات الأطفال الغير مفهومة و المتعبة.
توقفت نيهان عن عملها لتنظر لدفنة و هي تضع يد على خصرها تشعر بأنها وصلت لنهاية مسدودة لا مخرج منها.
- ماذا سنفعل مع هذين الطفلين؟ إنهما يكبران ليصبحا أعند من اليوم الذي قبله!
توقفت دفنة عن عملها لتنظر لنيهان المتعبة و لا تلومها في الحقيقة لأنها كما تعاني نيهان مع إيسو هي ة تعاني مع إيليف بتغير مزاجاتها و عاداتها المتعبة.
إيليف كانت فتاة مهذبة و مطيعة جداً فكانت كالأميرة الصغيرة و لكن هي ككل الأطفال عندما يسيطر عليها الضيق يتغير كل شيء و يصبح كل شيء باللون الأسود أمامها لهذا ما تحاول دائماً الحفاظ على ذلك المزاج بقدر المستطاع و لكن في حدود المستطاع.
- علينا أن نتحمل عنادهما و تغير مزاجاتهما فقد مررنا بتلك المرحلة و أنا متأكدة من أن جدتي عانت مني كثيراً و نحن بعمرهما!
تنهدت ذات الشعر البني بتعب و استسلام. إذا أرادت أن تصبح أم يجب عليها أن تمر بكل تلك المراحل و لا تستطيع أن تعترض الآن لأنها من أرادت ذلك في البداية.
بعد ما أدخل الاثنان الأطباق داخل المطبخ و عند خروج دفنة من المطبخ لتتجه عائدة إلى غرفتها من أجل أن ترتاح تقابلت مع أخيها في الطريق ليتكلم بابتسامة.
- سنذهب أنا و نيهان عند إيسو ألن تأتي؟
عبست ذات الشعر الأحمر عندما سمعت ما قاله أخوها و أمالت رأسها ناحية اليسار و قالت بتألم.
- لا أستطيع يا أخي حقاً، يجب أن أنام باكراً كي أستطيع التركيز يوم غد فهو يوم حافل كما تعلم!
تنهد الرجل ينظر لها بحزن فأخذ يتمعن في شكل وجهها الذي لا يراه كثيراً مؤخراً. رأى كم أصبحت البرتقالية البيضاء شاحبة و نحيلة جداً بسبب العمل الذي دفنت فيه نفسها لكي تنسى همها الذي عانت بسببه لسنوات و تركت نفسها لتنجرف مع تلك الأعمال لا تترك لنفسها وقت للاستمتاع غير ذاك الوقت الذي تفضيه لابنتها كواجب عليها تأديته.
- أوصلا سلامي....!
لم تلاحظ دفنة نظرة سردار المليئة بالشجن و قررت المضي قدماً لا تريد أن تفعل أي شيء في الوقت الحالي غير دفن نفسها في سريرها و النوم الهنيء بينما تبعتها عيونٍ مليئة بالحزن و الأسى تتوعد لكل من آذى أخته و جعل الدموع تذرف من عينيها يوماً أنه سيجعله يندم على كل دمعة ذرفت بسببه!
..............
- هذا غريب جداً يا أخي...
حدق الرجل على فنجان القهوة الباردة يستمع بتمعن لكلام الرجل الآخر لدرجة أنه نسي فنجان القهوة الذي قدم له و تركه حتى برد من كثرة الكلام الذي احتاج إلى عقلٍ و تركيزٍ كامل منه.
لم يكن يصدق ما يسمعه و يشعر أنه في حلم فمنذ تلك اللحظة التي قرر سنان أن يصدمه بذاك الخبر حتى الآن و هو يشعر أن جسده يتحرك بمحض إرادته و لا يشعر بأطرافه من الصدمة.
- ماذا يريد إذاً؟ لماذا جاء بعد كل تلك السنوات؟
حدق سنان به يحاول قراءة ذاك الشعور الذي لم يفهمه بتاتاً لا يعرف لماذا يسأل سؤالاً كهذا.
أليس سعيداً بعودة ابن أخيه الذي رحل لأربع سنوات غاضباً ممن يعرفهم كلهم؟
عندما لم يحصل على جواب رفع رأسه لينظر لسنان الذي مازال يحدق به بنفس نظرات الشك فهز نجمي رأسه يحاول أن يوضح سوء الفهم لكي لا يصبح هو الرجل الشرير.
- لا تسيء الفهم يا سنان... لن أكره وجود عمر هنا خصوصاً و أنا لم أره لأربع سنوات و لكن... وجوده هنا غريب. لماذا الآن؟ لماذا شعر بالرغبة في العودة الآن؟
فهم مقصد الرجل و ندم أنه شك فيه للحظة لهذا أنزل رأسه لينظر لفنجان قهوته التي رشف نصفها و ترك النصف الآخر ليبرد مثل الآخر و قرر الرد بهدوء و برود تام يتذكر كل تفصيلة و ذكرى حفرت في ذاكرته لهذا اليوم.
- يريد الانفصال يا أخي... يريد أن يؤسس شركته لوحده.
اتسعت حدقتا الرجل الأكبر سناً و حملق بسنان الذي كان مكتوف الأيدي عقله يعيد تكرار أحداث اليوم كله مازال لا يصدق ما حدث حقاً و يحتاج لأن يثبت له أحد أن ما حدث له كان حقيقياً.
- يطلب مني شراء أسهمه... فبالطبع يحتاج سيولة.
- و أنت ماذا قلت له؟ لم توافق أليس كذلك؟
اندفاع الرجل بهذه الطريقة ذكره بنفسه عندما أخبره بأن ماله لا يكفي لشراء نسبة 49 بالمئة من أسهم الشركة فرغم أن ثروته تكفي و تزيد أيضاً و لكن موافقته على ذلك العرض يعني أنه يوافق عمر على الرحيل و يوافقه على ما يفعله.
- لا تقلق يا أخي... لم أوافق.
توقف سنان يحدق بالفراغ يتذكر أنه من أربع سنوات دمر لعمر حياته بمجرد كلمة و لا يستطيع أن يبرئ نفسه أو يتوقف على لوم نفسه لأنه فعل و لكن ما يفعله عمر بهم و بنفسه مبالغ كثيراً.
يحترم حزنه و يحترم غضبه و لكن سنان إن كان قد أخفى عنه ذاك السر كان لمصلحته و لمشاعره التي كانت مهمة جداً بالنسبة له و ليست مسألة خداع و كذب كما يزعم عمر.
- قاسي جداً يا أخي... عيونه تتوعد لكل من كان سبباً في إيلامه.
بعد لحظة صمت طالت من التفكير بين الاثنين، كلاهما يفكر في الموضوع بطريقة و يعيد سرده داخل رأسه ليوضح بعض الأشياء لنفسه إلى أن قطع سنان هذا الصمت أخيراً لينتبه نجمي له و ينظر له فانتفض قلبه و ابتلع ريقه ليتم سنان كلامه دون النظر لرد فعل الرجل على أي حال.
- هل يريد الانتقام؟ أم سيمرئ كل شيء و كأن شيئاً لم يكن؟... ماذا لو علم....
انقطع صوت سنان لملاحظته ما كان سيقوله فانقطع نفسه و رفع رأسه لينظر لنجمي الذي كان ينظر بنفس الملامح الباهتة فتعرق و ابتلع لعابه بتوتر.
- ... إيليف...!
انقطع الصوت من الاثنين ليغوص كليهما في ذكرياتٍ كانت دفينة بعقليهما!
**********
نظرت الفتاة بنظراتٍ باهتة على سقف الغرفة تحاول السيطرة على مشاعرها الفياضة في الآونة الأخيرة. رغم انتهاء فترة الوحام المزعجة و فترة تغير الهرمونات و لكنها كانت كما هي. تعاني من مشاعرٍ فياضة و باستفاضة تجعلها تستعيد ذكريات أحرقتها حية و لأنها لم تستطع تجنب تذكر تلك الذكريات تركت نفسها لها. تركت نفسها للألم و القهر و ما زاد من ألمها هو أنها قررت مقابلتهما أخيراً.
نعم قررت مقابلة الاثنين اللذان حاولا أن يصلا إليها خلال الخمس شهور الفائتة.
و الآن هي تنتظر قدومهما بصبر و تنتظر كل الأسئلة التي تعرف أنهما سيطرحانها غير مراعيين لحالتها الحالية.
هي لن تلومهما على طرح تلك الأسئلة لأنها تعرف صدمتهما بخبر حملها من زوجها السابق الذي رحل و لا يعرف أي شيء عن هذا الجنين فأي شخص كان في وضعهما سيدور الشك في عقله و سيدعي أنها أخفت الخبر عن زوجها و أنها كانت تهرب من مقابلته لعدم اكتشاف ما أخفته عن زوجها.
تعرف أنها بذلت الكثير من الجهد من أجل أن تخبره و تعرف أنها لم تهرب منهما إنما كانت تريد الابتعاد عن كل ما عاشته لتعيش فترة نقاهة بعيدة عن الحزن و الألم و لكن كانت مخطئة لأن نفسها و قلبها هما الحزينان و للأسف هي تأخذهما معها أينما ذهبت.
طرق باب غرفتها أيقظها من غيبوبتها لتسمح بالطارق بالدخول بكلمة بسيطة و من دون حتى النظر على زائر غرفتها المتواضعة كانت تعلم أنهما قد وصلا.
دخل الاثنين و سلما عليها و بدآ بالتحديق بها لدقائق ينظران كم كانت ضعيفة هشة تحدق على السقف بنظرات باهتة... ميتة.
فكيف لخمس شهور أن تحول إنسانة في غاية الحيوية و النشاط و الجمال إلى... جثة تتحرك؟!
- اسألا... أنا أعرف أنكما.... تريدان أن تسألا.
قاطعت لحظة صمتهما التي طالت بالتحديق عليها لتتكلم معلقة على ذاك الصمت الرهيب الذي صدر منهما فحركت رأسها لجهتهما في آخر كلامها و حملقت عليهما كما يفعلان معها.
شارك الاثنان نظرة عدم المعرفة في كيفية التصرف و لكن قرر الرجل الأكبر سناً نجمي أن يتحدث أخيراً حين شعر بغرابة لحظة الصمت تلك.
- دفنة ابنتي... نريد أن نعلم لماذا أخفيت هذا الشيء... يعني... حملك؟
نظرت له مطولاً تحاول إقناع نفسها داخلياً أنهما لم يأتيا إلى هنا ليشنا الحرب عليها و جاءا بسلام و لكن رغم هذا انزلق تفكيرها بعض الشيء عن ذلك و رحيل عمر و عدم السؤال عنها أعمى بصيرتها عن كل الخير التي ظنته أو رأته يوماً منهما فأخذت شهيقاً عميقاً تنتوي عدم التوقف و الحديث الذي سيحرق الأجساد حية.
- انا لم أخفي شيئاً نجمي بيه... أردت إخباره عدة مرات و لكن في كل مرة ينتهي بي الامر و انا اعاني وحيدة... مرة عندما ذهبت إلى الشركة و اخبرني سنان بيه انه سيسافر و مرة أخرى يوم... طلاقنا... و تخلل كلا المرتين مراتٍ عديدة و انا احاول الاتصال به على هاتفه المغلق الى ان وقعت مريضة على الفراش لا أستطيع الحراك.
نظر لها نجمي يحاول استيعاب كل كلمة قالتها و يبحث عن الصدق في عيونها.
لمعرفته الضئيلة بدفنة يعرف أنها لا تستطيع الكذب و لا إخفاء الحقيقة لهذا تعذبت كثيراً عندما أخفت الحقيقة عن زوجها و غير ذلك طبعها ليس طبع امرأة ستكذب و هي بهذا الحال فصدق ما قالته و حين أراد سؤالها عن شيء آخر توقف عندما سمع صوتها يخرج مرة أخرى.
- لم ارد ان ابخس حق طفلي في معرفة ان لديه اب... و حقه في معرفة ان لديه طفل... انا لست تلك المراة ابداً... و لن أكون... غضبه هو السبب في عدم معرفته بوجود هذا الطفل و لست انا... و هو الذي أدى إلى ما انا فيه الآن... فبسبب ذاك الغضب الذي كنت انا ضحيته... بداخل رحمي طفلٌ يحمل هَمَ الدنيا قبل حتى ان ياتي بها!
لم تنتوي النطق بكل هذا و لكنها انفجرت و لم يستطع أحد منع ذاك الانفجار. لم تعد تتحمل إخفاء كل شيء بداخل قلبها العليل المسكين الذي حمل هَمَ سنواتٍ بداخله في مجرد عدة أشهر بسيطة.
لا تظن أنهما يستحقان عدم معرفة ما تعيشه من ألم و عذاب قد تسببت به عائلتهما الكريمة و إن كانوا يهتمون بالأمر كما يزعمون فليحترقوا بقليل من النار التي تكويها.
- إذاً لماذا لم تخبرينا؟
تلك النظرات التي اعتلت عينا الفتاة لم تعجب الرجل و شعر بالذنب الكبير لأنه كان سبباً فيهما فقرر تغيير الموضوع يظن أن بهذا هو ينفع نفسه لا يعرف أنه كان سيندم أشد الندم على تغيير الموضوع من الأساس.
- و لما افعل؟
نظرت لهما بنظرات تملأها برودة الجليد، خالية من المشاعر، ميتة...كعينا الجثة تماماً!
اتسعت أعينهما و هما ينظران لها لا يصدقان ما يسمعاه و لا يصدقان أن ذاك الكلام يخرج من جوف دفنة.
دفنة الرقيقة الضعيفة التي لا تستطيع أن تؤذي حشرة!
ما قالت جعل نجمي يغضب فاندفع إليها قائلاً بنبرة أعلى مما سبقها يعرف من داخله أن مهما كانت الأخطاء التي ارتكبها عمر برحيله لا تستطيع أن تمنع ذاك الطفل من معرفة عائلته.
- لماذا تفعلين؟! ربما لأننا عائلة هذا الطفل مثلاً!
ظلت محدقة بهما بعيون تملأها آلاف الدموع المحبوسة و في نفس الوقت نفس العيون الباردة التي كانت كبيرة أكبر من عمرها بمئات السنوات، لا تحمل الضغينة ضدهم و لكن... ما قاله جعلها تتذكر كيف عانت بسبب موضوع المئتا ألف و كيف تعذبت بسببهما كثيراً و كيف كانت ناريمان تذكرها بأنها حب للإيجار في كل مرة قابلتها فيها حتى بعدما أصبحت في علاقة واضحة مع عمر... و تذكرت أيضاً كيف كانت تهينها بسبب اختلاف المستوى المادي بينها و بين عمر.
المال... نعم، هو سبب كل المشاكل التي تعيشها إلى الآن!
حركت دفنة ناظريها من على نجمي لتقع عينيها على سنان الذي كان مندهش من ذاك الأسلوب التي كانت تتحدث به فقالت و هي تحدق به:
- لو كنتما عائلة الطفل كما تزعمان و تهتمان به و تهتمان بمعرفة حالي أيضاً ربما لأني والدته أو حتى لأني كنت زوجته في يومٍ من الأيام... ما كان سنان بيه سيسأل عني يومياً فقط من أجل إحياء باسيونيس الذي كان رحيل عمر سبباً في سقوطها.
صدم سنان مما تقوله و لم يصدق ما سمعه أبداً. كيف استطاعت أن تكون هجومية لهذه الدرجة و هما من جاءا ليطمئنا على حالها؟!
نعم هو كان يبحث عنها لشهور للسبب الذي قالته و لكن بعد ما رأى حالها هكذا قرر اليوم أن يأتي من أجلها فقط.
لم يستطع الرد و نكران ما قالته لأنها كانت على حق فأطرق برأسه يحاول الهرب من مرمى نظراتها و عندما تأكدت دفنة أنها سجلت هدف في مرمى سنلن حركت ناظرها عائدة لنجمي.
- في يوم من الايام... عندما بدات احبه... قالت ناريمان هانم لي... شتان بيني و بينه... و اين انا و اين هو... الزمتني حدودي... ذلتني بمالها و نفوذها... و عندما حصلت على القصر كما أرادت دوماً أمرتني بالرحيل... بكل بساطة، و عندما رفضت... حاولت إبعادي عنه بتهديدها لي باستمرار بانها ستخبره الحقيقة التي تصادف أن تكون هي شريكة بها... و لكنها لم تهتم...
صمتت لتاخذ شهيقاً عميقاً يختنق بين جدران جهازها التنفسي لتكمل حديثها بعد ذلك قائلة:
- كيف اصبحت مساعدته ثم حبيبته... كيف استطعت أن أصبح المرأة التي أغرم بها... كنت ضعيفة جداً و لكن حاربت من أجل حبي.
انسابت بعض الذكريات إلى عقلها لتعصر قلبها و تعصفها برياح جافة مؤلمة للروح و لكنها لم تكترث لنغزات قلبها التي تصرخ عليها بأن تتوقف و أكملت كلامها تحاول أن تتجاهل كل ذرة ألم تشعر بها من أجل ان تؤلمهما و تجعلهما يندمان على اليوم الذي رؤوها فيه.
- و لكن انتما... انتما لم تفعلا شيئاً لتساعداني به... لم توقفا ناريمان هانم و تركتماها تعذبني بكلامها و تذكيرها المستمر لي بأنني لا أستحق حب عمر لي... لأن الفارق المادي بيننا... كبير.
اعتصرت قلوبهما عصراً و عصفتهما إلى دوامة لم يظنا يوماً ان يغرقا بها حتى أنهما أرادا الفرار بأرواحهما أمام تلك النار المنبعثة من كلامها الجارح، فرغم أنه صحيح مئة بالمئة و لكن كونها لم تتكلم يوماً و لم تشتكي ظنا أنها لا تعاني و لكن في هذه اللحظة فقط أثبتت العكس.
حركت رأسها لتنظر للسقف تغوص في أعماق تلك الأفكار التي قضت الخمس أشهر الفائتة تفكر بها.
لو أنها لم تترك نفسها في مرمى سهام العشق لما كانت راقدة على هذا السرير الآن.
لو العشق لم يصبها و لم يعميها عن كل ما حولها لما كانت تألمت بهذا القدر.
لو أنها لم تترك نفسها لتلك العاصفة لما أصبحت كالجسد بلا روح!
-... ربما كان علي الاستماع لما كانت تقوله لي في البداية... كانت على حق في كل كلمة قالتها... لا استحق ما انا عليه... ليس لأن المال يحدد قيمة الإنسان كما تظن و لكن لأنني أضعف من أن أستطيع أن أكون في ملعبكم.... و لأنني كنت غبية ظننت أن الحب يخلق المعجزات... و هذه هي النتيجة...!
شعرت بأنها تختنق في كلماتها التي كانت كالسهام في قلبهما.
إلى متى ستترك نفسها للألم و إلى متى ستترك نفسها للمعاناة؟
إلى متى سيتحمل ذاك الجسد الضعيف كل هذا العذاب؟!
مسحت الفتاة بضع قطراتٍ من الدموع التي خانتها و بللت وجنتيها ثم نظرت له بعينين قاسيتين أقسمت أن تتعلم النظر بهما بعد الآن لكي تستطيع العيش.
- رغم كل ما سمعته... كيف لك الان بان تطالب بحقك في هذا الطفل زاعماً انك عائلته...؟
لم يستطع أن يرد عليها فما حدث مع هذه المرأة ليس سهلاً البتة. لم يكن ليتحمل هذا القدر من الإهانة و الألم من أجل الحب لو كان مكانها و كل ما تحملته كان لشخصٍ رحل عن البلد بدون أدنى فكرة عن ما تعانيه هذه المسكينة في غيابه.... و بسببه!
حركت الفتاة عينيها من على الرجل الكبير في السن لتنظر إلى سقف الغرفة الابيض الذي كان صديقها في تلك الشهور التي قضتها مستلقية على السرير.
- لا اريد ان يكون طفلي فرداً من عائلة تظن ان المال هو من يشتري الإنسان و انهم يستطيعوا محو اي شخص بمالهم لو تعدى حدوده الذي رسموها له!
كان الرجل منهار مما سمعه من الفتاة المسكينة التي خبأت ذاك الألم بداخلها و لم تنفجر يوماً في وجه أحد لأنها احترمتهم و اعتبرتهم كعائلتها بحق و لكن عندما خسرت ما كانت تحارب من أجله في لحظة واحدة وجدت أنها ظلمت نفسها باحترامهم و تقديرهم و هم في الاساس لم يحترموها و لم يقدروها يوماً.
و لم يقدروا تضحياتها من أجل حبها الوحيد!
كان سنان يشاهد الحرب من بعيد لا يستطيع أن يتفوه بكلمة واحدة كي لا يندم فيما بعد مثل نجمي لأنها ستقتله بالحقيقة المرة التي ستتلفظها من جوفها و لا شك في ذلك، لكن رؤية الرجل المسكين بحالته المنهارة تلك جعلته ينوي محاولة تهدئتها و لو قليلاً.
- دفنة اخي نجمي كان يرفض ما كانت تقوم به ناريمان هانم و لكن انت تعرفينها و تعرفين ما كانت تفعله أيضاً سواء أمامه أو من وراء ظهره!
لم تهتم دفنة لما قاله سنان و أعادت عينيها إلى الرجل الاخر و أخذت تنظر له بنظراتٍ حادة كادت تحرقه.
- انتم اذيتموني بمالكم الذي لم تكسبوا فيه قرشاً واحداً بمجهودكم... و لن اسمح لكم بايذاء طفلي بنفس ذاك المال!
نظر لها نجمي من طرف عينيه و هو مطرق الرأس يستمع لها بتمعن ليقرأ الغضب الدفين في تلك العيون البنية و التي مهما قالت و أفضت ما في قلبها لن يضاهي يوماً ذاك الغضب الذي يعتلي صدرها و المدفون بداخل جسدها النحيل.
- انا والدته و اموت كل يوم رعباً من خسارته. كل يوم استيقظ لاتاكد من انه لازال بداخلي يتغذى ما اكله و ما اشربه... كل يوم ادعي بان يبقى بداخلي حتى اخرجه من رحمي سليماً. كل يوم اعد الساعات و الدقائق التي تمر منتظرة يوم الولادة بفارغ الصبر حتى لو كان خطراً على صحتي... فبانتهاء مدة الحمل يعني انتهاء الحرب التي تعذبت بسببها ليالٍ و شهور...
ابتلعت الغصة المسننة قي حلقها لتقع دموعها كالشلال على وجنتيها.
-... كل يوم اتالم و اعاني و لكن اتحمل من اجل طفلي... من أجله هو فقط!
**********
- وجود ابنة له بهذا العمر... و هو لا يعرف بوجودها من الأساس!
عاد كليهما إلى الواقع بعد تذكر ذكرى أرادا دائماً أن ينسياها لأنهما عانا الكثير من الإحساس بالذنب فيما بعد و من الممكن أنهما يعانيان إلى الآن بسبب ما سمعاه من دفنة بعد انفجارها و لكن الوضع الآن عاد جزءً منه لما كان عليه رغم ألمها الذي لم يتغير لرؤيتهما بسبب تذكيرها بما حدث سابقاً كانت ترسل الرسومات لباسيونيس و تسمح لنجمي برؤية إيليف.
- إنه شيء صعب جداً...
علق نجمي و هو ينظر لفنجان القهوة الذي أصبح كالثلج من وراء ذكرى أخذت عقليهما بعيداً عن هذا المكان.
- و لكن يا أخي... ماذا سيحدث الآن؟
سأل سنان ليرفع الرجل رأسه لينظر له لم يفهم مقصده في البداية و لكن سرعان ما التقط الفكرة و غاص بها للبعيد.
- حمل دفنة و إنجابها... و طفلة بعمر ثلاث سنوات و نصف لن يكون لطيفاً بوجه عمر بالمرة!
ضغط الرجل على أسنانه حيث شعر بالغيظ من كلام الرجل فاندفع إليه قائلاً بعدم تصديق و قليل من الغضب.
- ماذا سنفعل سنان؟هل سنخبره يعني؟!
تقبل سنان اندفاع الرجل لأنه يعرف أنه ليس في حال سليمة منذ أن سمع خبر عودة عمر و أكمل كلامه كأن شيئاً لم يكن فتلفظ بأشياءٍ لا يعي لها من الأساس.
- نعم نخبره! ربما لو أخبرناه يعود عمر كما كان و يسامحنا.
لم يشعر بأنانيته لأنه فكر في كيفية استعادة صديقه مجدداً متجاهلاً صاحبة الرأي الأول و الأخير.
كان متضرراً بطريقة كبيرة بسبب هذا الموضوع فهو خسر كل شيء تقريباً و لكن في هذه اللحظة عندما شعر أن برجوع عمر قد يصلح القليل مما تدمر لم يفكر في دفنة و لم يفكر إذا ما سمعت قاله قد يجرحها.
رغم أن ما قاله هو شيء مغري للغاية بالنسبة لنجمي أيضاً فما سيكون أفضل بالنسبة له لاستعادة رضا ابن أخيه الذي غضب عليه بسبب خطأ ارتكبه و لكنه ببساطة... رفض أن يكون هكذا!
- لا يجب أن نستغل الوضع لنكون أنانيان سنان.... رغم أننا تضررنا بسبب ذلك، مسألة إيليف لا تعنينا.... إنها تعني دفنة فقط!
صدم سنان مما قاله الرجل ليستوعب أن رغم رغبته في الابتعاد عن الأنانية و لكن عاد إليها من ناحية أخرى و أخذ يفكر في دفنة و ما عاشته لفترة كبيرة... جداً.
ما عاشته لم يكن سهلاً بتاتاً و لن تستطيع أي امرأة مكانها الصمود حتى و لو للحظة و لهذا كان يهابها و يهاب ما قد تفعله لتشفي غليلها من ذاك الرجل الذي ظن أن بعده سيكون عذاباً له فقط و ليس لغيره.
- و لكن يا أخي، ماذا سيحدث لو تمسكت دفنة بكبريائها و كرامتها و لم تخبره؟!
نظر له نجمي بهدوء و برودة وجه يفكر مثله في نفس الشيء و لكن لمعرفته المتقلصة بدفنة و معرفته بمدى حبها لابنتها التي لو طلبت النجوم لأحضرتها لها بدون تردد و لا أي شك قد تمنع عنها نعمة الأب.
- لا أظن أنها قد تظلم ابنتها و تظلمه...
- ربما تفعل! و حينها لن تظن أنها تظلمه لأنها عانت كثيراً فربما ستجد أن حقها بأن تخفي عنه هذا الشيء.
اخذا فترتهما بالتفكير في هذا الشيء الذي آلم القلوب و أوجع الرؤوس يحاولان إيجاد حل لتلك الدوامة التي وضعا بها
و بعد فترة كبيرة من التفكير الذي آلمهما شعر نجمي بملل و تعب من كثرة تلك الأفكار و لدرجة أنه قرر ألا يهتم أبداً بما سيحدث و ليتحمل الاثنين نتيجة أفعالهما لأن بالفعل تعب من كل شيء.
- لا أعرف ما سيحدث و لكن... أنا لن أتدخل في هذا... ليحلا تلك المشكلة معاً.
تنهد سنان و هو يحدق بالطاولة يتذكر ما حدث للمرة الثانية و ما تلقاه ذاك اليوم من كلام أصابه بخنجر في قلبه.
لو كان شخص غيره لادعى أنه لا يد له فيما أصابها و أنها من اختارت أن تصبح هكذا، حب للإيجار يعني. و لكن مؤسف حقاً على هذه الفتاة التي لا ذنب لها بأي شيء.
-كم هو صعب ما عانته هذه الفتاة، تدمرت فعلاً.
التقط تركيز نجمي الذي كان يبحث عن النادل في المكان ليطلب منه الحساب و فور مشاورته له بيده حرك رأسه لينظر إلى الرجل الآخر و عندما استوعب ما قاله تكلم هو معلقاً على ما قاله.
- و رغم كل ما عرفناه عن ما فعله عمر أعتقد أنه عبارة عن أشياءٍ بسيطة و أنا متأكد أن دفنة لم تشرح كل شيء.
عقد سنان حاجبيه و هو ينظر للرجل ثم تكلم بعد رحيل النادل عن المكان.
-ماذا يعني؟ هل تقصد أن دفنة تخفي شيئاً عنا؟
- ليس إخفاءً بالمعنى العام و لكن أظن أن رغم كل شيء دفنة مازالت تحبه... ربما ليس بالشكل الذي قد يظنه أي شخص و لكن... ربما تحترمه و لا تريد لأي أحد أن يتكلم عنه بسوء... لهذا لا تتكلم عما فعله معها.
حملق به كثيراً لان آخر ما قاله جعله يلتزم الصمت و يفكر ملياً في ذلك.
ماذا يعني أنها مازالت تحبه؟ هل يمكن لامرأة مثلها تعرضت لكل ذلك الأذى أن ترفض استبدال ذاك الحب المزعوم من داخل قلبها إلى كره لكل لحظة سعيدة عاشتها معه في الماضي؟ و هل يمكن أن ترفض استبدال ذاك الحب المزعوم إلى كره لكل لحظة عاشتها ابنتها بعيدة عنه لأنه ببساطة لم يكترث و لم يشك للحظة أنها قد تنجب منه؟
ترك نجمي سنان مع أفكاره و أخرج هاتفه لينظر له و عبس فور رؤيته كم الاتصالات التي تلقاها من زوجته.
- لأذهب أنا فلابد أن ناريمان قد شغلت جهاز الانذار لأنني لم أرد على اتصالاتها.
نهض الرجل من مكانه ليبدأ في جمع أغراضه من على الطاولة ليسبب انسياب ضحكة من بين شفتي سنان لسماع ما قاله.
- هل مازال هناك حظر تجول لناريمان هانم؟
- نعم، و لا أظن أني سأزيله عما قريب... أنا لا أثق بها أبداً.
كان الرجل مقتنعاً جداً بما يفعله مع زوجته التي لا تتعلم أبداً من الماضي لهذا وضع قوانيناً حادة و جادة لدرجة أنه كان يمنعها من الخروج إلى أي مكان إلا للضرورات.
سموه رجعي و متخلف و لكنه لم يجد إلا هذا الحل الأمثل بالنسبة له.
- أخي نجمي.... لقد مر العديد من السنوات على ما حدث لابد أنها تغيرت.
- ربما تغيرت أو تدعي التغير و لكن لا يوجد أحد ممن جرحتهم و جعلتهم يتجرعون ألماً قد شفي... مازال الحال كما هو عليه و لكن ما زاد على ذلك فقط هو وجود أميرة صغيرة حلوة للغاية.
كانت ابتسامته متسعة عندما تذكر تلك الفتاة الرقيقة الصغيرة التي جعلت حياته أجمل و أجمل من سابقتها و أنارت طريقه بجمالها و رقتها لدرجة أنه لا يتذكر كيف كانت حياته من قبل أن تأتي هي على هذه الدنيا.
- نعم... معك حق.
............................
- هيا إلى النوم!
رفعت ذات الشعر الأحمر الغطاء الوردي على جسد الصغيرة ذات القامة القصيرة إلى حد صدرها ثم انحنت بعد ذلك لتضع قبلة عميقة على جبينها تنسيها تعب اليوم بما فيه.
عندما استقامت و نظرت إلى صغيرتها لاحظت ابتسامة عريضة فوق شفتيها فحدقت بها تنتظر تفسيراً منها لسبب تلك الابتسامة و عندما لم تحصل على جواب صريح من إيليف تجاهلت ذلك ببساطة و رفعت يديها لتسافر بها إلى وجهها الأبيض الصغير.
- لقد لعبتي كثيراً اليوم، ستنامين فوراً هيا أغمضي عينيك.
وضعت دفنة يدها فوق جفني الصغيرة لتجبرها بأن تغلق كلا عينيها و عندما فعلت دفنة هذا تذمرت إيليف و رفعت يديها لتزيل يد والدتها.
- أمي...!
- ماذا تريدين يا إيليف؟ لماذا لا تريدين النوم؟
نظرت الفتاة لوالدتها بابتسامة أخرى عرفت دفنة حينها أن الصغيرة تريد أن تطلب منها شيئاً و لكن تخاف أن تردها خائبة فتمسكت إيليف بيد والدتها البيضاء و تكلمت.
- أمي... احكي لي حكاية!
طلبت الفتاة منها هذا الطلب لا تريد أن يرفض لها و إذا لزم الأمر قد تتوسل لها لكي تحكي لها ما تريده.
- لقد قرأت لك ثلاث قصص إلى الآن... ألم تملِ؟
هزت إيليف رأسها نافية لتنتظر جواباً من دفنة التي كانت بقلب طيب و لا ترفض لها أي طلب تستطيع أن تقوم به.
تنهدت ذات الشعر الأحمر بتعب و راحت تفتش بيدها بين الكتب الكثيرة الموضوعة على الجانب للبحث عن قصة تعجب الصغيرة.
- ماذا تريدين أن أقرأ لك أيضاً؟
أخذت تقرأ دفنة الأسماء بصوتٍ عالٍ لكي تختار إيليف منهم اسماً.
- هل... سندريلا... أم ليلى و الذئب... أم... الجميلة و الوحش...؟
- احكي لي عن أبي.
تجمدت دفنة مكانها و هي تحملق في آخر كتاب وصلت له و لم تلحق النطق به حتى بسبب ما قالته الصغيرة.
راحت تبحث في عقلها عن رد يناسب ما قالته إيليف و لكن في تلك اللحظة تشوشت و لم تقدر الرد فعبست إيليف عندما استقبلت رد فعل والدتها الغير مفهوم و حملقت بها بحزن.
- أمي...
أظلمت عينا دفنة رغماً عنها و فشلت محاولاتها في ضبظ نفسها أمام ابنتها الصغيرة فأكملت إيليف بدون دراية لما يحدث مع والدتها.
- سأخلد للنوم بعد هذه الحكاية... أعدك بذلك!
تنهدت دفنة ببطء و بدون صوت لتتحرك بتلقائية لتستلقي على الجانب الأيمن من جسدها على السرير التي كانت تنام عليه الصغيرة لترفع يده إلى وجه إيليف و تبعد عن شعرها خصلة حمراء حطت على عيونه الصغيرة و شوشت رؤيتها.
عندما نظرت الصغيرة إلى والدتها لاحظت أن ابتسامتها الجميلة التي تحبها قد عادت مرة أخرى فابتسمت و علمت حينها أن والدتها لم تردها و ستفعل لها ما تريده.
- قصة واحدة فقط...
- واحدة فقط!
- حسناً إذاً
مسحت دفنة على شعر ابنتها من غرتها إلى موخرة رأسها ثم فتحت فمها لتتكلم.
- والدك... كان إنسان رياضي للغاية... يحافظ على صحته من كل سوء.
اتسعت ابتسامة الصغيرة و هي تنظر لوالدتها بشوق و حماس لما تسمعه من قصص عن والدها الذي لم تره يوماً و كانت كل القصص عنه تقصها دفنة عليها.
التزمت إيليف الهدوء و تابعت الاستماع لها بتمعن و تركيز في كل التفاصيل.
- كان يأكل الكثير من الخضراوات... فهو كان يحب الخضراوات و لا يتجنب أكلها... بعكسك.
اخفضت الفتاة الصغيرة وجهها بخجل تحاول الهرب من فعلتها و لكن تابعت دفنة قبل ان تفقد الفتاة رغبتها في الاستماع.
- و في يوم من الأيام كان جائع ليلاً و رغم أن طعام الليل مضر... أخرج من ثلاجته زبدة فول سوداني!
اتسعت عينا الصغيرة و هي تنظر لوالدتها لا تصدق ما تسمعه أبداً فبالتعبير الذي اعطته دفنة لها، ما فعله والدها هو شيء غريب للغاية و لا يصدق و غير هذا إيليف تحب زبدة الفول السوداني كثيراِ لا بل تعشقها إذاً هي تشبه والدها في شيء آخر أيضاً غير العينين السود.
- أيحبها جداً مثل ما أحبها أنا؟
- نعم... كان يأكلها بالملعقة... و عدة ملاعق أيضاً!
قهقهت الصغيرة و تابعت دفنة سرد الحكايا على آذانها و الاستماع إلى ضحكاتها إلى أن غطت إيليف في النوم أخيراً بعد عناء طويل.
راقبت دفنة الصغيرة في نومها متنهدة بأسف.
تلك الصغيرة التي كبرت بدون أب تلتجئ إلى الحكايا لإسعاد قلبها الذي يشتاق لعناق واحد منه أو لكلمة ابنتي أو لحتى رؤيته من بعيد.
كانت تحاول بقدر الإمكان ألا تشعرها بغيابه و لكن لم تستطع يوماً أن تملأ ذاك الفراغ الذي يحيط قلبها.
هي تعرف و تعي ذاك الشعور جيداً لأنها عانت منه لوقت طويل، تعرف كيف يعاني صاحبه و كيف يتعذب و هي تشفق على ابنتها كثيراً و لا فكرة لديها في كيفية تصرفها في المستقبل عندما تكبر و تصبح أكثر نضجاً و تفكر بنضج أكثر من هذا.
تنهدت مرة أخرى و قررت النهوض من مكانها بعد وضع قبلة رقيقة على جبينها لتنهض فيما لتسير إلى باب الغرفة.
وقفت دفنة للحظة و استدارت لتنظر نظرة أخيرة على الصغيرة النائمة.
ستتجاهل كل الألم في قلبها من أجلها.... و ستعمل على ذلك!
............................
- لا تنفصلوا أرجوكم!
لابد و أنكم عرفتم فوراً من قائل العبارة السابقة!
إنه كوراي مع الأسف فبالطبع كان ذو القلب الرقيق مرهف الإحساس الذي يتأثر بكل ما هو مؤثر و لأنه كذلك لم يستطع أن يتحمل فراق الأحبة في مسلسل يعرض حصري على التلفاز فشهق باكياً يمسح دموعه بمنديل جاف ليقفز بعدها مذعوراً عندما بدأ هاتفه بالرنين ليقطع عليه لحظة حزنه و هدوئه.
- ما هذا؟ ماذا يحدث؟
تحرك الرجل حول نفسه و هو يحاول البحث عن الهاتف المدفون في مكان ما و هو بحالة مذرية يتوعد للمتصل بأنه سيسبه بأفظع الشتائم حين يرد عليه ليجد أن ذاك الرقم كان لدفنة فزمجر و رفع الهاتف لأذنه و لكن فجأة صدمت أذنه بصوت الرنين.
- أي نسيت أن أفتح!
و فور ضغطه على اللون الأخضر للرد على الهاتف أطلق سيلاً من المسبات من فمه مع أسئلة كثيرة تتعلق بسبب اتصالها و قطع خلوته.
- لماذا تتصلين بي الآن؟ لماذا تتصلين ها؟ أنا خارج ساعات الدوام الرسمية و لست متفرغ لاتصالاتك!
تركت الفتاة الهاتف على المنضدة قبل تشغيل مكبر الصوت و هي تضع كريم اليدين و الوجه الخاص بها لتهدئ بشرتها المسكينة بينما كانت تنتظر أن ينهي هو صراخه و عندما استقبلت الهدوء تكلمت.
- هل انتهيت؟
عقد الرجل حاجبيه و هو ينظر للفراغ بشر ينوي أن يصرخ في الفتاة أكثر مما فعل و لكن قاطعته دفنة لأن الوقت قد أزف و لا عقل لديها لتتحمل صرخاته.
- كوراي آمل أن تكون قد أنهيت الملف و التقارير للغد.
انكمش كوراي حينما تذكر العمل المتراكم عليه و الذي لم يستطع أن ينتهي منه بعد بسبب مشاهدته لمسلسلاته المفضلك. ماذا سيفعل؟ إذا تكلم و جاوبها بالحقيقة لابد أنها ستقتله. يجب أن يلفق كذبة ينجو بنفسه من غضبها.
- نعم يا روحي... نعم... سأنتهي منه عما قريب.
امتدت ذراع كوراي و أخذت تبحث من حوله عن ملف العمل الذي يحتاج لإنجاز محاولاً إخفاء توتره.
- هل أنت متأكد؟ لأن نبرتك لا تقول هذا.
اعتلى وجهها الهدوء بينما كانت تؤدي عملها على أكمل وجه أما هو توتر و ارتبك و لكن تحلى ببعض الوقاحة لهذا قرر الصراخ بوجهها ليخفي عدم إنجازه للعمل.
- قلت أني سأنهيهم لا تصبحي لحوحة!
تنهدت دفنة لتستسلم أمام العظيم كوراي صارغين الذي لا يستطيع أن يقف أي أحد أمامه في أي نقاشات كي لا يؤلم رأسه و حين كانت على وشك أن تودعه لتغلق الهاتف سمعته يتحدث مرةً أخرى فانتظرت لترى إذا كان الحديث يستحق المناقشة به أم لا.
- و لكن يا حياتي صباحاً سأخضع لعلاج لبشرتي و لن أستطيع أن آتي إلى الشركة.
هل يجب أن تستغرب من رجل يخضع لعلاج البشرة؟ لا لأنها لا تستغرب و لا تندهش من أفعال كوراي الذي دائماً يعد كغريب الأطوار بين الجميع و لا يفهمون ما بداخل رأسه و ما الذي يفكر به أبداً.
- لا باس فسآتي في الصباح الباكر و قبل أن تذهب سأراجع معك.
ضيق كوراي عينيه و جلس باستقامة ليبدأ وصلة تذمر أخرى منه لها.
- هل ستتدخلين في عملي يا فتاة؟!
لم تأبه بمشاعره الحساسة كما يزعم و قررت أن تقول الصدق هذه المرة ليعرف ما يفعله و كيف بعملٍ بسيط يؤثر على صورة الشركة و التي كانت أهم شيء بالنسبة لها.
- نعم كوراي ، فربما عرضت الصورة للفوتوشوب، أنا لا أثق بك في هذا الموضوع!
كانت تعرف أن العاصفة قادمة لا محالة و لهذا أبعدت الهاتف قدر الإمكان عن أذنها لكي لا يثقب لها طبلة الأذن الخاصة بها و كانت بالفعل على حق فما قالته شحن الرجل بما فيه الكفاية و جعله ينفجر بها.
- أيتها القبيحة البرتقالية! سأريكي من هو كوراي صارغين!
- كوراي حباً في الله توقف عن هذا فأنا لا أتحمل، رأسي ستنفجر!
لم تستطع تحمل سماع صوته العالي أبداً فرغم أنها أبعدت الهاتف عنها كلياً آلمتها رأسها بدرجة كبيرة لهذا ترجته ألا يفعل هذا.
و فور سماع كوراي لكلامه تغير وجهه و كان على وشك أن يغلق معها الخط و لكن تذكر شيئاً ما فابتسم ليقوله.
- يا فتاة، ماذا فعلت مع طارق، أخبريني!
أمسكت الهاتف من على المنضدة بسرعة البرق لتغلق المكبر و حمدت الله أن إيليف كان تلعب في غرفة أخرى و ليست هنا و عندما وضعت الهاتف على أذنها قالت بعصبية:
- هل حقاً ما تعنيه؟!
- نعم ماذا في ذلك؟ كفي عن دفن نفسك في تلك الشركة البغيضة و انظري للحياة ببهجة!
استغلت فرصة أنه غير الموضوع و قرر أن تغير الموضوع هي الأخرى لكي تنسيه ما كان يتكلم عنه تماماً.
- تلك الشركة التي تقول عنها بغيضة هي التي تفتح بيتك و بيتي و و بيوت العديد من الناس!
- إيي تمام، و لكن إن لم تخبريني فسآخذ على خاطري كثيراً!
لم يستسلم الرجل و لم ينسى ما كان يتكلم عنه و حاول أن يلين قلبها ببعض الكلمات و لكن لم تسمح لقلبها بأن يلين أبداً.
- حدث يا روحي... هيا إلى اللقاء!
أغلقت الهاتف قبل أن تسمح له بنطق كلمة أخرى تحاول إنقاذ نفسها منه بأي وسيلة ممكنة و عندما وضعت الهاتف على الطاولة أخذت تحملق به و تفكر... كيف عرف؟
- هالله هالله!
و لكنها نسيت أنه كوراي صارغين الذي إذا احتاج أن يعرف شيئاً لا يستسلم حتى يفعل!
- ييي، أغلقت بوجهي!! قبيحة الشكل و الأخلاق!!
نظر إلى الهاتف الذي كان بين يده بوجه غاضب ثم حين سمع أصوات الممثلين في المسلسل رفع رأسه لينظر لهم و تكلم مبتسماً.
- لأتابع أنا المسلسل براحتي!
وضع الهاتف على المنضدة أمامه ليحدق بالتلفاز و يبدأ بإتمام الطعام الذي لم يتمه بسبب دفنة و الدموع و لكن بعد هذه اللحظة قاطعه صوت رنين الهاتف من جديد.
- أقسم أني سأرمي هذا الهاتف من النافذة ذات مرة!
عقد حاجبيه حين وضع طبق الطعام على المنضدة بكل قوة لينتشل الهاتف بسرعة من جانب الطبق و يرد عليه دون أن ينظر لاسم المتصل حتى.
- ماذا هناك؟
- يوهووو كوراي بيه كيف حالك؟
- من يتحدث؟
كان يتابع المسلسل غير مهتم لمن يتكلم على الهاتف، حتى أنه لم يعرف من تكون في الأساس فعند سماع سؤاله عبست الفتاة و راحت تعاتبه.
- سامحك الله هل نسيت صوتي الجميل بهذه السرعة؟ أنا داريا!
أعطاها الرجل نفس نبرة عدم الاهتمام و أكمل طعامه بهدوء.
- من داريا؟
ازداد صوت الفتاة و هي تتذمر لأسئلته الغريبة و لم تتوقع منه هذا أبداً.
- كم داريا تعرف يا كوراي بيه؟!
أسند الرجل ظهره على ظهر الأريكة و أخذ يتذكر الفتاة التي يعرفها و يتذكرها فقال بكل وقاحة:
- أعرف واحدة قبيحة و صوتها كان بشعاً و ليست جميلة البتة!
- سامحك الله كوراي بيه! أنا لست بشعة!
ضحك كوراي و هو يطعم نفسه.
- إذاً أنت إذاً البشعة، ماذا تريدين؟
تنهدت الفتاة باستسلام. هي تركت النقاش و الصراع مع هذا الرجل الخطير منذ زمن فعلى أي أساس تحاول اتعاب نفسها معه.
- عندنا نميمة جديدة يا كوراي بيه و أنترلست هنا لتشهدها!
- حبيبتي أنا لست بحاجة لباسيونيس و نميماتها فعندي الكثير من العمل لأنجزه لأني عضو مهم في ستيل و لست متفرغ مثلكم!
- نعم من كثرة العمل أراهن أنك تركته و تشاهد التلفاز الآن!
اتسعت عينا كوراي و أخذ ينظر من حوله ليتأكد من أنه وحيد و لا يوجد من يراقبه في المكان فأخذ يتساءل كيف عرفت ما يفعله و لكنه لم يصمت و قرر أن يغير الموضوع و يشوش على ما قالته لكي لا تكتشف ما يفعله حقاً.
- أيتها القبيحة البشعة ذات الفم القبيح، إذا لم تقولي ما عندك الآن سأغلق الهاتف بوجهك!
- حسناً حسناً سأقول!
- هيا!
انتظر كوراي ما سيسمعه منها و أخذ يفكر بفضول ما نوع النميمة التي ستقولها الفتاة متحمس جداً للبدئ بنميمة أو فضيحة قد تشعل الأجواء من حوله ليشاهد الجميع يحترق بنظارات ذات ماركة عالية مع فشار لذيذ الطعم و جيد الصنع و لكن تبدد كل الحملس عندما سمع الخبر الذي أعلنته داريا لتتسع عينين على آخرهما.
- عمر بيه جاء اليوم إلى باسيونيس!
- ماذا؟!
.................................
كان يرتدي ثوب الحمام الأبيض الذي كان غاية في الضيق بالنسبة لجسده الضخم ليظهر ذلك الروب الأبيض عضلاته المفتولة و القوية بينما كانت خصلات شعره الندية المبللة تتساقط على جبينه منفردة كل واحدة بجهة.
سار في المكان متجهاً إلى حيث كانت النافذة الواسعة لهذه الغرفة موجودة فتوقف ينظر إلى الخارج للحظات ليضع فنجان القهوة الساخنة الذي حضره قبل دقائق على طاولة بنية دائرية الشكل ثم التقط هاتفه المحمول من على نفس الطاولة.
ركز عينيه على الهاتف ليبدأ في تصفح الرسائل التي قد وصلت ليرى أن رسالة معينة من أحد ما قد كلفه بمهمة و قد أداها و أرسل له ما أراده.
كانت الرسالة تتضمن أرقام هواتف أشخاص معنيين فطلب السينيور أول رقم و بدأ بانتظار الطرف الآخر لكي يرد عليه.
و حين رد عليه الشخص بدأ الحديث كالآتي:
- محمد بيه... إنه أنا عمر إيبليكجي.
- أنا أرغب بالعودة للساحة و فتح الماركة الخاصة بي... هل ترغب في العمل معي... كمستثمر؟
- بالطبع سترى الأحذية بنفسك... حدد موعد لنتقابل و أريك الرسم.
- لنتقابل....
أدى المهمة الأولى على أكمل وجه و تبقى الكثير بعد فأكمل الاتصال بباقي الأرقام لينتهي بعد فترة و يعود إلى الواقع الموير لمرة أخرى.
رشف رشفة صغيرة من فنجان القهوة البنية و أخذ ينظر إلى اسطنبول الصغيرة التي كانت تحت قدميه من النافذة التي أمامه.
لم يحتمل البقاء في بيته لمدة أطول لأنه يعلم أنه لن يهنأ بالراحة أبداً و سيعاني من تلك الذكريات التي ستعذبه و لن تسمح له بالراحة أبداً و قرر أن يتجه بسيارته التي طلب من شكري أن يشتريها له قبل عودته من السفر، إلى فندقٍ يأويه لهذه الليلة ليفكر في حل آخر بعد ذلك.
وجوده في هذا الفندق أراحه كثيراً و أخذه لحمام ساخن جعل جسده يرتخي و أطرافه ترتاح.
فهو أيضاً ليس روبوتاً و ما يتعب الناس يتعبه هو أيضاً و لكن هو من اعتاد الظهور بمنظر القوي الشامخ الذي لا يهزه ريح أمام الناس حتى أخذوا الفكر الخاطئ عنه.
كان متأكداً أنه كان محور الحديث لكل من رآه اليوم في البلد و لكن على الأقل كان لهم من يشاركهم الحديث و لكن هو... هو رمى كل ما يشعر به و كل ما حدث اليوم بداخله رغم صعوبة الأمر عليه.
عودته اليوم لم تكن مجرد ذاك الكلام الذي قاله لسنان فهو تعب بحق من البعد و يريد الاستقرار في البلد و بما أنه كان مقبل على حياةٍ كهذه، يريد أن يؤسس لنفسه حياة جديدة مختلفة عن القديمة.
لن يضره بدئ عمل جديد و بدئ حياة جديدة طالما هو حيٌ يرزق.
جرحه كان كبيراً جداً على أن يطيب في أربع سنوات من الغياب. جرحه كان ينزف و يحرق ذلك القلب الذي تحمل أكثر مما يقدر فكان كمن يعيش نفس اللحظة يومياً... مع كل ساعة و كل دقيقة و كل ثانية تمر.
حاله.... لم تكن أفضل من دفنة التي كانت تموت كل يوم.
فكان في لحظة هو الآخر...!
يموت في كل لحظة رآها بداخله.... يموت في كل لحظة تذكر حياته معها!
كان عقله يبغضها و يبغض ذكراها التي لم تمحى منه يوماً بينما قلبه.... ينزف في كل ثانية بسبب اشتياقه لحياته معها.
مرت أربع سنوات من الفراق و قضى تلك السنوات ما بين الغضب و الاشتياق.
الغضب عليها و على ما فعلته له و كيف آذته و أحرقت حياً.
أما الاشتياق... الاشتياق لها.
فكان يشتاق لدفنته القديمة، طفلته التي كان يصبح والدها إذا شاء أو حبيبته الذي كان يصبح معشوقها إذا شاء.
تلك الدفنة التي مازالت في رأسه يراها مختلفة تمام الاختلاف عن التي اكتشفها بعد معرفته للحقيقة.
فإذا كان يعد عاشقاً، كان متعلق بدفنة العالقة في الماضي قبل معرفته بكل شيء و بقي هو عالقاً معها و مع حبه لها و لا ينسى أبداً كيف قتلتها تلك الحقيقة.
بالنسبة له تلك الدفنة... ميتة.
لم تعد على قيد الحياة لهذا يؤلمه فراقها!
يشتاق إلى كل ما فيها.
مازالت رائحة شعرها في أنفه حتى الآن، ملمس شفتيها الناعم و الدافئ مازالت شفتيه تتذكرانه. لمسات يدها البيضاء الناعمة تدخل إلى أحلامه ليلاً لتعبث بخصلات شعره و تلامس وجهه و جسده بنعومة.
أما صوتها... فقد حفظته آذانه عن ظهر قلب و خاصة نبرتها السعيدة عندما كانت تناديه....
"عمر..."
صوتها لم يفارقه طوال الأربع سنوات و لا يظن أنه قد يفارقه في يومٍ ما.
وضع عمر يده على صدره ليشعر بكل نبضة ينبضها ذاك القلب العاصي الذي لا يتعلم، قلبه الذي ينبض باسمها في كل لحظة.
قلبه كان ينبض حباً و اشتياقاً لدفنته التي كانت داخل عقله الباطن و التي لا تخرج إلى النور.
ذلك القلب المتعلق بأحد خانه و آذاه.
كان على وشك أن ينام من كثرة تعب اليوم و لكن... قلبه لم يطاوعه فارتدى ملابسه و انطلق خارج الغرفة متبعاً قلبه العاصي للأوامر لا يأبه بما يأمره به عقله الذي يفكر بغضب.
.............................
كان قلبها منقبض عن غير العادة تشعر بذبذبات نبضها التي انتقلت إلى خلايا يدها الحساسة بسرعة رهيبة.
لا تعرف ما أصابها لهذه الليلة فرغم أنها قد قررت الخلود للنوم مبكراً من أجل الغد الحافل الذي ينتظرها لم تستطع ذلك.
لا تعرف لما يصيبها الخوف لهذه الليلة المؤرقة و لا تعرف لما مر طيفه في مخيلتها.
لما حدث ذلك؟
كانتا عينيها تحدقان على السماء المظلمة الداكنة و النجوم البيضاء المضيئة تكسوها... فتذكرته.
تذكرت لياليها الدافئة معه... تذكرت تخديقها على السماء و هي نائمة على صدره تسمع صوت نبضات قلبه التي تنبض عشقاً لها.
لماذا مازالت تتذكره؟
لماذا لم يذهب من عقلها و لماذا يزورها طيفه في كل دقيقة ليذكرها به و بأيامه التي كانت تعتبريها من أجمل ليالي حياتها.
لماذا تتعذب؟ لماذا...؟
هل مازالت متعلقة به؟
هي نفسها لا تعرف الإجابة و هذا يتعبها.
لم تنسى ما حدث و لم تنسى سبب الفراق و لم تنسى ألمها الذي تسبب به و لكن... كان قلبها العاصي مازال يتذكر اللحظات الجميلة بحزن على الضائع منها!
كان قلبها العاصي الذي أصابه خناجر الألم الأسى الشجن و القهر مازال ينبض لتذكر وجهه الأسمر و مازال ينبض لتذكره تلك العيون السوداء.
فلم يكفي غضبها منه و كرهها لما فعله بها بأن تبغضه و تبغض لياليه و أيامه و ذكرياته المحملة بكثير من الابتسامات و الضحكات.
تتعجب لذاك القلب كثيراً. كيف له أن يرفض التخلي عن التعلق بشخصٍ قد آذاه بهذا الشكل؟
كيف له أن يرفض أن يكره شخص قد آلمه و عذبه بهذا الشكل؟
كيف له أن يهينها بهذا الشكل و هي بأضعف حالاتها؟!
بينما اختبأ عمر خلف قناع الكبرياء الذي لجأ له عندما خسر أمام الحب هي لم تعترف بالكبرياء في الحب حتى آخر لحظة عاشتها معه ممتثلة لقانون 'لا كرامة في الحب'.
و لكنه رغم الكثير الذي فعلته من أجله و ضحت بالكثير من أجله هو فقط... رحل في النهاية و لم يتبقى لا حب و لا كبرياء!
أكان من السهل أن يرحل و أن يمحي كل ما شاركاه في لمح البصر؟
بكت ليالٍ طويلة و هي تحدق على السماء الزرقاء الداكنة تتساءل عن حاله رغماً عن أن عقلها الذي امتثل لقناع القوة يرفض ذاك الموقف الذي اتخذه قلبها الهش الضعيف المهان.
عقلها و قلبها اعتادا الصراع دائماً و اعتاد العقل أن يسأل سؤالاً واحداً في كل مرة لينهي ذاك الصراع أو يؤجله و هو لماذا مازلت متعلق به يا قلب؟ و لكن بكل أسف لا يرد قلبها ذاك السؤال لأنه لا يملك جوابه في الأساس!
فذاك القلب المسكين لا يملك حتى تفسير احتفاظه بما فيه!
فتعاني من ألم و وجع فراقه تارة و تعاني من ألم و وجع ذاك الحمل التي تحمله فوق كتفيها تارة أخرى.
حين يحل الليل كل يوم، ترتدي حلة التعب و الإهاق و تستأذن للدخول لدفن نفسها في السرير و لكن ما إن تأوى ابنتها الصغيرة إلى الفراش لتنام تبدأ رحلة بداخل عقلها الدفين للبحث عن ذكرياتٍ خبأتها بداخله لتعيش مع نفسها، مع عالم بعيد جداً عن هذا الواقع المؤلم لتبدأ فيما بعد تبني أحلاماً على تلك الذكريات السعيدة و تبني حياةً كانت دائماً تحلم بتحقيقها.
في عالمها تعيش مع أسرتها... زوجها عمر اللطيف الغير قاسي و المسامح و ابنتها الجميلة إيليف التي لن تندم لحظة على إنجابها!
عائلة سعيدة مبتعدة عن المشاكل و عن الهم و التعب!
عائلة سعيدة لا تعرف معنى الشقاء!
عائلة سعيدة لا تعرف معنى الحزن و الشجن!
عائلة سعيدة لا تعرف معنى الألم!
كيف لها أن تعيش المتبقى من عمرها تدفن نفسها في أحلامها الوردية فقط؟
..............................
- أهلاً بك يا زوجي العزيز... هيا أخبرني، كيف حال الدنيا في الخارج؟
خلع الرجل صاحب الشارب سترته و نظر لزوجته من طرف عينه نظرات غير مصدقة ليقول بعد فترة:
- و كأنك لا تعرفي... خرجنا البارحة و قضيت الأسبوع كله مع كوراي.
نظرت له تسمع ما يقوله و على وجهها ابتسامة تحاول الحفاظ عليها و لكن بداخلها تبغض ما يحدث و بدون قصد همست رغماً عنها:
- نعم و لكن انا احاول تليين قلبك لتزيل حظر التجوال عني!
- سمعتك!
لم تكن و كأنها تهمس بالنسبة له لهذا بعد ما قاله انطلق ليدخل إلى داخل المنزل ليتركها تحدق عليه باستسلام لمحاولتها البائسة التي فشلت مجدداً لإقناعها بشيء لم تسأم المحاولة منه.
مرت أربع سنوات على ما حدث و ما قالته دفنة لنجمي ذاك اليوم أثر به كثيراً لدرجة أنه صب كل اللوم على زوجته و انفصل عنها آنذاك ليطول الخصام بينها للسنة و أكثر و لكن بعد مداخلات معينة سامح نجمي ناريمان أخيراً و لكنه لم يستطع استعادة الثقة التي دنستها أبداً لهذا اشترط عليها أنهما إن عادا لبعض يجب عليها ترك تلك الأفعال التي تقوم بها و تؤذي الناس و لكي يضمن ذلك ألزمها أن تجلس في البيت و لا تخرج إلا معه أو إلى أمرٍ هام لا يستطيع التأجيل حتى يأتي.
في البداية كان الموضوع شيء عادي بالنسبة لها و لكنها ملت فيما بعد فبالنسبة لناريمان تعيش سنتين كاملتين من دون مؤامرات أو خروج من المنزل... إنه شيء صعب حقاً!
كانت قد عادت بذاكرتها إلى سنوات مضت ندمت كثيراً على تصرفها القبيح مع دفنة و تتمنى أن تعيد الزمن للوراء لكي لا تفعل معها ذلك ليس لأنها تحب دفنة و تريدها كنة لها و لكن لأن رؤية نظرة الحزن في عيون زوجها و ليس له أي ذنب فيما حدث جعلتها تراجع نفسها لكي لا تحزنه مجدداً.
- ألا تنوين الذهاب لرؤية إيليف؟
قاطع صوت الرجل حبل ذكرياتها الذي طوق عقلها ليسحبها من عالمها و يعيدها إلى عالم الواقع فنظرت له بعدم استيعاب في البداية و لكن سرعان ما استطاعت أن تستوعب ما يقوله و قبل أن ترد عليه بأي شيء تكلم مجدداً ليكمل حديثه.
- ... إنها تكبر يومياً و تتغير و في المستقبل لن تتعرفي عليها.
انتظر جوابها بفارغ الصبر و راقب حركاتها المرتبكة و عينيها التي كانت تسافر من مكان لآخر لا تعرف ما عليها الإجابة به و خائفة من رد فعله أيضاً.
- أريد ذلك كثيراً...كنت أود الذهاب و لكن، مازلت أخجل من دفنة و أعرف إنها لا تطيق رؤيتي.
جاوبته بعد فترة ليحدق بها أكثر لا يفهم ما يحدث. هذه المرأة كانت تعرف دفنة أكثر منه لأنها تعاملت معها كثيراً و لكن كيف لها ألا تتعرف إلى شخصية دفنة إلى الآن؟ كيف لها ألا تكتشف ذاك القلب ناصع البياض التي تمتلكه صاحبة الشعر الأحمر؟ ففي الماضي يتذكر أن ناريمان اتهمت دفنة بإرادتها الزواج من عمر لأنها تريد الغنى المزعوم و ابنته سودا اتهمتها بأنها صائدة ثورة و لهذا لأنه كان الوحيد الذي يعرف داخل دفنة غضب من نفسه كثيراً لأنه تركها بين أيديهما، تركها لتعذيبهما!
- دفنة فتاة طيبة و لا تحمل شيئاً قديماً كهذا بداخل قلبها... مشكلتها ليست معك أبداً، حتى عندما كنت تؤذيها لم تملك أية مشكلة معك... أنت من تتوهمين.
- أهذا ما تظنه؟ إذاً...
.................
دفن يديه الاثنتين في جيبي بنطاله ليحدق بذاك البيت الخشبي المكون من طابقين.
بيتها...
بيته...
كم كان هذا الشعور غريباً و جديداً على قلبه. وجوده في نفس المكان بعد أربع سنوات من الفراق يحدق بالمبنى البني الذي كان سبباً لأن تكرهه فكان يحاول البحث لأي ذرة تأثر بداخل قلبه و لكنه لم يجد.
لم يكن البيت الذي كان سبباً لغضبها عليه - و هو يراهن أن هذا الغضب قد طال إلى الآن- سبباً في تحرك وجدانه المدفون.
لم يعتبر ذلك البيت بيته أبداً لا عندما قرر شراءه لها و لا حتى عندما أرسل رسالة الطرد منه لها.
لا يعرف لما لم يتأثر و لكنه يظن أن تأثره سيكون بها هي و ليس ببضع من القطع الخشبية التي بنيت و أسست بيتاً أخضر اللون.
تنهد بتعب و استسلام من الإعياء الذي أصاب رأسه لكثرة التفكير و كثرة المشاعر المختلطة و المتضاربة التي تعصف قلبه و لا ترحمه.
رفع عمر رأسه لينظر لأعلى، على الشرفة التي كانت في الطابق الثاني و طالت مدة نظره لتلك الشرفة... يبحث عنها بعينيه. يبحث عن ماضيه الذي تركه و رحل.
هل هي بالدخل؟ هل مازالت تعيش هنا في الأساس؟
لا يعرف لماذا يسأل نفسه تلك الأسئلة التي تقسو على قلبه و تذكره بمدى وقاحته آنذاك عندما أرسل لها رسالة الطرد من المنزل دون أن يرف له جفن و لكنه ندم أشد الندم عندما هجمت على مكتبه تفضي غضبها كله بوجهه بعينين ملتهبتين حارقتين لم يراهما هكذا من قبل.
و مازال صدى صوتها عندما قالت جملتها الشهيرة يتردد في عقله إلى الآن.
'عائلتي خط أحمر!'
كم عانى كثيراً بسبب تلك الجملة و أنب نفسه تأنيباً شديداً لأنه مهما كانت مشاكلهما ما كان عليه أن يفعل هذا، ما كان عليه أن يؤذي أطرافاً آخرين!
بدأ رأسه يؤلمه هذه المرة بحق فقرر أن يعفي نفسه من كم الذكريات الهائلة المرابطة لهذا البيت و التحرك لتعذيب نفسه في مكان آخر.
أعتقد أنكم عرفتم ذاك المكان.
دكان معلمه صدري.
توفي صدري منذ عدة أعوام و ترك هذه الحياة و شاه السمر لم يعلم بذلك إلا مؤخراً.
في لحظة عندما ضاق به الحال و اعتلى الهم قلبه و صدره و احتاج لأن يفضي ما بداخله لأحد ما في هذا العالم فقرر أن يتحدث مع الشخص الوحيد الذي يسمعه و ينصحه فيثق بنصيحته و يفعلها و عندما قرر الاتصال به و اللجوء إلى معلمه و الرجل الذي كان له الأب و الأخ و الصديق كان الأوان قد فات و الرجل كان قد رحل عن هذه الدنيا منذ زمن!
كان الصدمة شديدة للغاية على عمر و للآن لا يستوعب ذلك و لكن ما يستطيع أن يستوعبه هو الشعور بالذنب الذي يعتلي صدره و يتعبه.
أنب نفسه كثيراً لأنه لم يراه قبل وفاته و رحل هذا الرجل عن الحياة و لم تستنى له الفرصة بأن يغدق ببحر نصائحه.
تذكر ذكرى معرفته بالخبر و تنهد حينما وصل أخيراً عند الدكان فأخذ ينظر له من بعيد.
لا يحمل لتلك الدكان الكثير من الذكريات التي تؤثر على قلبه العليل و تجعل مشاعره تفيض و لكن وجود معلمه فيه كانت تكفي لتكون مؤثرة و محركة لمشاعره.
كان صدري يحب عمله كثيراً و يقبع في الدكان لساعات طويلة حتى بسبب حبه لعمله ذاك علم الكثير من الناس تلك الصنعة و هو كان أحدهم و يفتخر كثيراً لأنه تعلم تحت يد ماهرٍ مثله و لكنه ما يعتصر قلبه و يجعل أيامه حزينة أن معلمه و مدربه قد فارق الحياة من زمن و هو لم يملك الفرصة حتى لتوديعه.
كم كان سيئاً ما يشعر به!
- لا تنسى عرض دفنة غداً.... كانت متوترة جداً على العشاء و تحتاج من يدعمها.
قاطع تفكيره الطويل ذاك الصوت الأنثوي الذي خرجت صاحبته من الدكان فقرر الاختفاء عن الأنظار كي لا يتسبب لنفسه بأي مشاكل فهو لا يظن أنه يستطيع مواجهة المشاكل في الحقيقة فانطلق بعيداً عن المكان و أخذ يحدق بهم من بعيد.
- لا لم أنسى أبداً و سآتي بالتأكيد.
كان يعرف تلك الأصوات و تلك الأشكال جيد جداً، بل كان يحفظ نبرة تلك الأصوات عن ظهر قلب!
رغم أنه كان يعرف تلك الأصوات و لكن كان يعرف جيد جداً أن صوتها ليس من ضمنهم لأنه يعرف أنه إذا سمع صوتها بعد كل هذه السنوات متأكد مئة بالمئة أنه سيعرفه من بين الملايين من الناس لأن ذلك الصوت كان سبباً من أسباب عشقه لها... سابقاً!
و لكن استكان عمر للحظة، لحظة واحدة فقط و أخذ يفكر فيما قيل من ثانية سابقة.
لديها عرض؟ إذاً ما يشعر به ربما يكون صحيحاً.
- هل رأيت ما حدث؟ مع الزمن أصبحت متأكدة من أنها ستبدي رد فعل كهذا!
قالت نيهان كبداية لموضوع جديد و بما أنهم كانوا يتكلمون عن دفنة في الأساس رجح عمر أنها مازالت محور الحديث.
- يبدو أنها ستصبح عنيدة أكثر و أكثر... لا أعرف كيف سنتحمل عنادها من بعد الآن؟!
هذه المرة سمع صوت رجولي غير الصوتين الآخرين و كان يعرفه أيضاً لتتبعه ضحكة من نفس الأنثى و تتكلم بعدها.
- إنها دفنة يا حبيبي...!
حين تكلمت الفتاة بعذر أنها دفنة العنيدة التي اعتاد الجميع على طباعها هذه و لم يقدروا على تغييرها حصلوا على لحظة صمت ليقول إيسو الحكيم في النهاية:
- دعوها تعاند و دعوها تحارب من أجل ما تريده و عندما تكتفي ستهدأ لا تقلقوا!
كان قلقهم الزائد عليها بسبب عدم اعترافها بكونها إنسانة فكانت تفعل كل شيء لتصل إلى حد إرهاق نفسها في العمل و البيت و لا تتعلم و لا تهدأ و ما قاله إيسو حول هدوءها يشكون فيه حتى و لا يتخيلون أنها سترحم نفسها في أي لحظة قادمة.
- ما عاشته على مدار الأربع سنوات لم يكن سهلاً و ما تفعله بنفسها تفعله لكي تفضي ما بداخلها...!
- تقول أنها لم تتعافى بعد...؟
رغم أن سردار كان يعرف ما بها و يرى حالاتها الغريبة و لكن لم يظن يوماً أن ألم ما عاشته قد يظل طازجاً حتى بعد أربع سنوات.
- لم تتعافى يا أخي... أنتما أكثر من تريان حالتها و تعرفان.
- رؤية ماذا يا أخي... إنها تأتي ليلاً بعد ساعات العمل طويلة و لا نرى وجهها إلا على الوجبات الرئيسية فقط.
اشتكى سردار من الوضع الذي رميوا فيه و يتذكر جيداً أنه منذ أربع سنوات لم يستطع أن يجلس ليتكلم مع أخته كلمتين عن ما يحدث معها بسبب هروبها الدائم من كل شيء و بسبب إخفائها لألمها عن الجميع.
نظرت نيهان على الأرض و تكلمت بنية خالصة كتتمة لما قالاه الاثنان لا يدركون أبداً أن زوجاً من العيون كانتا تحدقان بهم و زوج من الآذان كانتا تسمعان حديثهم.
- يعني... حملها من عمر و تعرضها لخسارة الجنين... بالتأكيد لقد ترك أثر كبير عليها أكبر من أثر تركه لها!
ماذا....؟
لحظة....!
أي حمل و أي خسارة؟!
أنت تقرأ
Aşk acısı
Fanfictionكانت تحبه كثيراً و كانت مستعدة أن تفعل أي شيء في سبيل ذلك الحب و لكن حبها لم يكفي كما ظنت و تخلى عنها و رحل لتعاني هي من آلامها وحيدة... تغيير أحداث قصة عمر و دفنة في مسلسل حب للإيجار و تغيير طريقة معرفة عمر بالحقيقة التي أخفتها عنه دفنة