6-Başlangıç البداية

1.6K 38 9
                                    

تنهدت الشقراء بعد ما أخذت كوب القهوة من فوق الطاولة و راحت تحتسيه بهدوء و هي تنظر على الفراغ الذي أمامها بشرود.
كانت تجلس على الأريكة الخاصة بمنزلها و بجانبها مصور ستيل المشهور كوراي صارغين الذي كان يوجه عينيه و كل أطراف جسده للتلفاز يشاهد فيلم رعب بنظرات الدهشة و الذهول لا يرى و لا يسمع أي صوت من جانبه غير صوت التلفاز لشدة تركيزه في الفيلم الذي كان بسببه يحتضن الوسادة بشدة و قوة.
و رغم أن أصوات التلفاز كانت عالية للغاية لم تلتقط المرأة أياً من تلك الأصوات لأنها غرقت تماماً في عالم آخر و راحت تتذكر ما رأته و ما سمعته هذه الليلة و جعلها تفكر مراراً و تكراراً في ذلك الشيء و فبما يجب عليها فعله بعد معرفة الأمر.
و هذا ما جعلها تغرق في عالمها الخاص لا تسمع و لا ترى أياً من حولها.
**********************
- هيا ناريمان، لقد تأخرنا!
خرج الرجل من السيارة و التفت لينظر إلى الناحية الأخرى ليرى زوجته الجالسة في مكانها تحاول النظر إلى البعيد حتى لا تقابل عينيه و إذ به يتذمر حيال جلستها تلك.
فتكلمت المرأة بكل بساطة تحاول إقناعه للمرة الألف بأن يذهب وحيداً بدونها و لكنه بكل بساطة لا يقتنع و لا يصغي إلى ما تريده.
- لا تأخذني و اذهب أنت!
- كم مرة تحدثنا بهذا الأمر؟ هيا، هيا!
تنهدت المرأة بأسى و تعب. لا يمكنها حتى التفكير في المقاومة مع هذا الرجل المصر اللحوح الذي إذا قرر شيء يقوم به لا محالة و لا يهمه ما تريده هي او أصبح بهذا الشكل شكراً لها.
- حسناً قادمة!
في الحقيقة زيارة الفتاة ليس بالشيء السيء و لكن هي خجلة من دفنة و لا تستطيع حتى النظر في عينيها.
فهي ذات فضل عظيم عليها في إعادة زوجها لهز بينما كل ما كانت تقوم به هو إيذائها فقط.
فكيف بعد كل هذه السنوات تنظر لها في عينيها و كأن شيئاً لم يكن؟!
تنهدت المرأة و هو تخطو باتجاه زوجها و تسير بجانبه إلى حيث كان الفندق و حين تذكرت أن تنظر إلى الهاتف لإكمال المحادثة الكتابية مع كوريش راحت تبحث عن هاتفها في حقيبة يدها و لكنها لم تجده.
-... أين هاتفي؟
توقفت المرأة و هي تقلب ما بداخل الحقيبة للبحث عن هاتفها المحمول و لكنها لم تجده بأي شكلٍ كان.
- ماذا حدث؟
حين لاحظ الرجل توقفها بعد تخطيه لها بعدة خطوات التفت لينظر لها ليلاحظ أنها كانت تدفن يدها داخل الحقيبة و تبحث عن شيءٍ ما.
- أنا لا أجد هاتفي... سأذهب للبحث عنه في السيارة؟
رفعت رأسها لتنظر إليه حين تأكدت أنها لن تجد الهاتف بداخل حقيبتها قررت أن تعود للبحث عنه في السيارة.
و لكن الرجل اعترض بتأفف لا يقبل الانتظار المزيد من الوقت بسبب اشتياقه للطفلة الصغيرة الجميلة إيليف.
- هل هذا ضروري يعني؟
- نعم نجمي... ضروري للغاي!
تنهد الرجل باستسلام و أراد أن يضع لمسة من لمساته المعتادة لا يأبه لما ستفكر فيه المرأة.
- نعم نسيت، كل أرقام المتآمرين و الجواسيس فيه!
شعرت الشقراء بأن حاجبها يتحرك من الغضب فحاولت التماسك و السيطرة على غضبها و لكنها همست بصوت عالي:
- بغيظ!
- هل قلت شيئاً؟
سمعها و هو متأكد أنه سمعها و لكنها رسمت ابتسامة مشرقة على وجهها لكي تخفي عنه حقيقة ما سمعه و كذبت قائلة:
- روحي أنت... أحبك كثيراً!
عادت المرأة إلى السيارة لتأخذ منها هاتفها و بالفعل فعلت و عند سيرها للعودة إلى زوجها الذي كان قد مضى وقت على دخوله الفندق توقفت حين سمعت محادثة امرأة أخرى في الشارع.
- لا لم أحصد أي معلومات...
أغمضت الفتاة عينيها بقوة تعرف أنها ستتلقى التوببخ لا محالة من الطرف الآخر على الهاتف و بالفعل كانت محقة في ذلك لأن الطرف الآخر لم يفهم سبب عدم إتيانها بما يتطلبه الأمر إلا سبب واحد و هي أنها فاشلة في كل شيء و لا تستحق الوظيفة التي حصلت عليها.
- يا آدم بيه صدقني... نحن بحاجة إلى أن نركز هدفنا على حياتها الشخصية و ليس العكس!
عقدت ناريمان حاجبيها عندما سمعت ما قالته و رغم أن الأمر لم يعنيها من قريب و لا بعيد حاستها السادسة أشعرتها بأن هناك أمر مريب و لم ترتح أبداً لسماع ذاك الكلام.
- يعني برأيك لماذا انفصل عنها زوجها و اختفى فجأة و لم يره أحد إلى الآن؟!
الآن بدأت تلمح للأمر و أن تلك التي تتحدث عنها هي امرأة ربما تعرفها جيداً و لكن لم تتدخل و قررت أن تستمع لباقي الحديث مع التمثيل بأنها تتحدث على الهاتف كحيلة تجعلها بعيدة عن الشك.
- نعم أين أنت؟
- أو مثلاً... لماذا كانت تعمل لباسيونيس و انفصلت بعد إنهاء زواجها ثم انتقلت لترامبا و بعدها انفصلت عنه و أنشأت شركتها الخاصة؟!
صمتت الفتاة للحظة حين لم تسمع أي اعتراضات أو أي توبيخات من مديرها و حينها علمت أنه قد بدأ يفكر بمنطقية أكثر و قررت أن تبقى على هذا النهج و على هذا النطاق كي تأخذه إلى صفها.
- ألا تظن أنه من الأفضل أن نترك إنجازات دفنة توبال العظيمة الذي لا يهتم بها الكثير و نركز على الأخبار التي تصيب المجتمع بالفضول لمعرفتها؟!
سجلت هدف في مرماه، حتى ناريمان استغربت ذكائها.
فرغم أنها تبدو صغيرة في السن و لكنها تعرف ثغرات إثارة فضول الجميع و هو التركيز على ما كان خفياً عن الناس.
- حسناً... معك شهر واحد... إذا لم تحصلي على ما تقولينه ستكفين عن التصرف من رأسك و ستفعلين ما أمليه عليك حرف حرف!
- شهر!... حسناً حسناً، أنا لا أصدق أنك وافقت من الأساس!
لم تعرف ما تفعله.
هل تفرح لأنها و أخيراً حصلت على موافقة مديرها فيما تريد فعله أم تغضب لأنه أعطاها فقط مدة شهر لأنها إذا نوت أن تقوم بما تخطط له من مغامرات بالتأكيد سيحتاج إلى أكثر من شهر.
و لكنها وافقت في النهاية حيث قررت أنها ستحاول أن تقلل من مغامراتها المدهشة لمعرفة السر الذي تخفيه دفنة توبال.
أما ناريمان كانت متصلبة في مكانها لا تصدق ما سمعته. فرغم محاولات دفنة المريرة بإبعاد الكاميرات عن حياتها الشخصية لم تفلح في هذا أبداً.
فلابد أنها ستحارب دوماً الصحافة لتبعدهم عن بيتها.
هي تعلم أن دفنة لم تخبر الصحافة يوماً عن ابنتها و لكن لماذا فعلت ذلك؟ لماذا أخفت شيء مهم كهذا خصيصاً أنه إذا عرف ذلك السر بالصدفة قد يسبب العديد من المشاكل لدفنة و لعائلتها.
فإلى متى ستستطيع فعل ذلك و إلى متى ستنوي إخفاء ذلك و خلفها هذه المرأة الشابة التي تبحث عن أي خيط رفيع يساعدها في التلصص على حياة المرأة الشابة.
**********************
- اااااه!!!
استفاقت الشقراء على صرخة عالية من صرخات كوريش و بعض حبات الفشار تهطل فوق رأسها فاتسعت عينيها من الصدمة و حركت رأسها لتنظر له و إذ بها تلاحظ أنه كان يدفن رأسه في وسادة الأريكة التي كانت تفصل جسديهما و طبق الفشار واقع على الأرض بينما تناثرت حبات الفشار في المكان من حولها.
و بكل خوف و ذعر حاولت الاطمئنان عليه لأن الجزء الذي سبب تلك الصرخة المدوية التي ايقظتها من غيبوبتها ممسوح من عقلها تماماً.
- كوريش، ماذا حدث لك؟
- الفيلم... الفيلم مرعب جداً يا نورو!!
شعرت بصدمة حياتها و عمرها كله. فهذا الرجل كان سبباً في إيقاظ كل حاسة من حواسها و إرعاب قلبها حتى الموت و شعرت أن ذلك القلب المسكين قد سقط في أرجلها و كل ذلك بسبب فيلم تافه!
تنهدت المرأة و لم تعطيه اهتمام و أعادت ظهرها للخلف و اللحظة الأخرى رأت فيها جهاز تحكم التلفاز فأمسكته لتغلقه فترتاح هي و يرتاح هو من ذاك الفيلم الغير مفهوم.
و لكنها شردت مجدداً تفكر في الدور الذي يجب أن تأخذه بعد سماعها ما قالته الشابة.
هل تقوم بمساعدة دفنة أم تتركها تحل مشاكلها بنفسها.
هدأ الرجل بعد دقائق و رفع وجهه من على الوسادة فهبطت عينيه على الشقراء ليلاحظ شرودها و راح يحدق بها.
و عندما لاحظ العبوس الذي ارتدته على وجهها ارتعب و تكلم باندفاع.
- ماذا هناك يا فتاة ارعبتيني؟!
نظرت المرأة للرجل الذي يجلس بجوارها و يرتدي حلة الذعر الحقيقية و حملقت به مطولاً تفكر فيما تفعله و لكن خطر على رأسها سؤال فسألته هو لأنه هو الوحيد الذي كان أمامها.
- برأيك كوريش، لماذا لم تخبر دفنة الصحافة بأن لديها ابنة من عمر؟
كان سؤال مفاجئ منها فهو لم يسمع اسم دفنة يخرج من فم هذه المرأة منذ زمن ليس لأنها تخاف منها و لكن لأنها لا تهتم بما يجري معها أو مع ابنتها فلماذا الآن تسأل سؤال كهذا؟
- لا اعلم يا روحي، عندما سألتها ذات يوم أخبرتني أن هذا أفضل.
لم تهتم لجواب كوريش كثيراً و همها الوحيد كان عن سبب إخفاء تلك المرأة حقيقة كهذه.
- و لكن لما تسألين نورو؟ هل أصابك الفضول اليوم عندما رأيت الصحافة تخرج من عندها؟
و بابتسامة عريضة سألها يشعر بالفضول لمعرفة السبب فضم يديه إلى صدره و راح يحدق بها ينتظر الجواب بفارغ الصبر.
- لا كوريش لم يصبني الفضول أبداً... على أي حال، دعنا نغير الموضوع.
لم ترد أن تفكر في دفنة أو ابنتها لأن هذا الأمر يضايقها من الحين للآخر و يجعلها لا تفكر فيه بشكلٍ متزن لهذا أرادت أن تتحدث في أمرٍ آخر لهذه الليلة و تغتاب به و تؤجل التفكير فيما سمعته في وقتٍ آخر.
- صحيح يا فتاة هل علمت لماذا عاد عمر؟
ابتسمت ناريمان بفخر و مطت جسدها للأعلى و تكلمت بكل غرور و قالت:
- نعم و علمت العديد من الأشياء أيضاً!
احتضن كوراي الوسادة و اتسعت ابتسامته و اقتربت منها بضع سنتيمترات و تكلم بحماس و شوق لمعرفة ما علمته المرأة.
- حمستيني، ماذا علمت؟! هيا أخبريني!
- علمت أن نجمي كان يعرف بمجيء عمر.
كانت هذه أولى معلوماتها و راحت تعد على أصابعها لتكمل المعلومات الأخرى بتسلسل.
- و نجمي قد أخبر دفنة اليوم بعودة عمر بعد رحيل الصحافة من عندها.
- اوووهااااااا!
- انتظر القنبلة الأساسية!
- ما هي هيا قولي!
نظرت له و صمتت للحظات لا تتوقع كيف سيبدي رد الفعل في الأساس عندما يسمع ما ستقوله فتكلمت و هي تراقبه بدقة كي لا تفوت منظره.
-.... عمر يريد أن يعلن افلاس باسيونيس و ينفصل عنها ليؤسس لنفسه شركة جديدة بدون سنان.
اتسعت عيون كوريش و زالت ابتسامته و راح يحدق بالمرأة التي أمامه.
- هذا ما حدث عزيزي كوريش.
فأكدت له الخبر الذي فاجأته به ليستدرك الرجل الامر بعد فتره من تحديقه بها و تكلم باندفاع ليفهم حدث.
- و ماذا سيحدث يا فتاة الآن؟ ماذا قرر المغرفة أن يفعل؟ هل سيعلن إفلاس باسيونيس كما يريد؟
- نجمي قال أنهما سيتناقشان في تلك المسألة لاحقاً.
صمت كوريش و راح يفكر في الأمر و شعر بالأسى حيال باسيونيس التي وقفت على قدميها لسنوات طويلة و لم تخذل أحداً من قبل و الآن ما يستغربه أن رغم قيمتها العالية عند عمر إلى أنه بكل بساطة يريد أن ينهيها في لحظة، و لماذا؟ لأنه لا يطيق أن يكون مع سنان في مكان واحد.
- يا فتاة، هل علينا ان نتدخل يا ترى؟
تساءل كوراي هل عليه أن يتدخل فيما لا يعنيه أم يظل بعيداً عن الأمر فهو في النهاية لا يتحدث مع سنان و لا يتوقع أن يتحدث معه عمر بعد ما حدث من أربع سنوات لأنه على ما يبدو هو مازال غاضباً كما كان في السابق و عودته إلى الوطن ليست إلا عودة فقط و ليست مصالحة مع الجميع.
- أنا صحيح أصبحت لا أطيق المغرفة و لكن في الحقيقة أشفق عليه و على باسيونيس مما يفكر عمر فيه.
وجدت ناريمان ان كوراي معه حق فيما يزعمه لأن برغم ذاك السر الذي اخفاه الجميع عن عمر إلا أنهم لم يقصدوا إيذاءه و لا جعله يعاني الألم فلا ذنب لسنان بأن يعاني كل هذا القدر من الضغط و الألم.
و حينها أدى الطريق بها إلى دفنة مجدداً. فهي أكثر من تأذت و تألمت فيهم جميعاً و كانت مهمومة بمراحل كبيرة عنهم لهذا لن تستطيع تحمل أي ضغوطات أو ألم آخر.
لهذا قررت ناريمان أن تساعدها!
- هذا من جهة بالطبع و لكن عندي مهمة اكبر و أخطر من هذا!
- شوقتيني يا فتاة ماذا هناك؟
- .... إنه سر!
.............................................
- نعم.... وصلنا....
أفاقت ذات الشعر الأحمر على صوت ذكوري تعرفه و حين رفعت رأسها لتنظر للأمام لاحظت أنه إيسو الذي كان يجلس في مكان كرسي السائق فحملقت به لثواني ثم حملقت بالمكان من حولها لتكتشف أنهم قد وصلوا إلى المنزل أخيراً فتنهدت بتعب.
منذ فترة كان التفكير يؤرقها و يتعبها و حين قررت أن تنام للتتجنب التفكير لم تستطع أن تغفو لدقيقة واحدة حتى.
- شكراً لك يا بني...
ترجلت المرأة الكبيرة في السن توركان من سيارة دفنة و وقفت خارجاً بينما راقبتها دفنة إلى أن خرجت ثم قالت بصوتٍ تعب و نعس:
- إيسو... خذ السيارة و ارحل بها فمن الصعب أن تجد سيارات أجرة بهذا الوقت.
- و ماذا ستفعلين أنت في الغد؟
- سأجعل اخي يوصلني في طريقه لا تقلق.
ما قالته لم يصل لإيسو فقط بل وصل للمرأة التي خارج السيارة فاندفعت قائلة:
- ما المناسبة يا روحي؟ من قال أني ساتركك لتفعلي ما شئت؟
أدخلت توركان رأسها من النافذة فجأة و تكلمت لتفزع دفنة و ترتعب منها و من دخولها المفاجئ فراحت تحدق بها ببلاهة لثواني.
- جدتي... انا ذاهبة للعمل و ليس للعب!
تكلمت و لكن حاولت الا تترك الفرصة للمرأة العجوز أن تتحدث.
- و غير هذا انظري... الليلة سارتاح و انام جيداً و غداً سأذهب للعمل متاخر ايضا.
راقب إيسو الاثنين و هما يتناقران و كل واحدة منهما كانت تظن انها على حق و ليست الأخرى و بالنسبة له كان يميل لدفنة قليلاً في هذا الوضع.
هو يعرف أنها تتعب كثيراً و ما حدث لها هذه الليلة كان بالطبع بسبب التعب و لكن عملها و تصاميمها هو ملجأها من الأحزان و الهموم التي تغرق فيها.
هو لا يقول أنها بخير مما كانت عليه و لكنها أفضل حالاً من السابق، هي أفضل حال من وقت كانت فارغة اليدين لا تعمل.
تخرج همومها و أحزانها و آلامها في التصاميم و الرسم و العمل لهذا تصاميها خرافية تعجب أي شخص كان.
- خالتي توركان... برأيي ان تتركيها تذهب... دواء دفنة هو العمل.
ثم حرك رأسه لدفنة و هو عاقد حاجبيه و يقول بنبرة غاية في الجدية و تبعث على قليل من الخوف في قلوب البعض.
- و لكن بكمية لا تقتلك، من فضلك!
ضيقت دفنة عينيها و هي تنظر اليه فهي بعكس ذلك البعض، فلم تشعر بالخوف منه بل كانت تشعر بالإهانة و قلة الثقة و قبل حتى أن تعترض عن ما قاله سمعت توركان تعطي موافقتها فقررت البقاء صامتة كي لا توجع رأسها بمزيد من كلام جدتها.
- حسناً إذاً...
اقتنعت توركان أخيراً و سمحت لحفيدتها بالذهاب و لكن ستبقى تحت انظارها كي لا تقوم بما يصيب جسدها بالإرهاق و التعب و ينتهي بها الأمر بها هذه المرة في المشفى.
انتهى الحديث و تحرك إيسو للخلف بضع خطوات و فتح باب السيارة التي في جهة إيليف ليخرجها من داخلها و يحملها بين ذراعيه.
- تعال إلى هنا يا أميرة...
امتد ذراعا الرجل لداخل السيارة لكي يحمل الصغيرة ذات الشعر الأحمر و النائمة ليدخلها إلى داخل المنزل و عندما حملها اتجه باتجاه البيت لكن دفنة أوقفته عندما مدت ذراعيها باتجاهه فقبضت يدها على ذراع صغيرتها العلوي لكي تأخذها منه.
- دعني أحملها أنا...
و لكنه لم يقبل لأنه يرى حالتها فلا يريد للضحايا أن يكونا اثنين بدلاً من واحد.
- لا بأس ديفو، أنت متعبة أساساً!
تنهدت دفنة و لم تجادل معه لأنها شعرت أنه من حقها أن تستخدم تعبها كوسيلة للراحة فتبعته بهدوء تحدق بالأرض برأس و تفكير مشوش كلي.
دخل الاثنين إلى البيت ثم بعد ذلك اتجها إلى غرفة إيليف ليضعاها في سريرها و لكن الفتاة استيقظت فور تعرضها لتلك الحركة المفاجأة.
- أمي...
- أنا هنا حبيبتي...
- خالي إيسو...
- و أنا هنا أيضاً.
نظرت له الفتاة ثم ابتسمت بعيونٍ مغلقة وهي ترفع يدها له فالتقطها الرجل و أمسك بها.
- أخي إيسو... أريد أن أكتب مذكراتي هلا بقيت من؟
حدق الرجل بها لا يعرف ما يقول ولكن دفنة انقذته حين تكلمك معترضة على ما قالته الصغيرة.
- لا يا روحي، لقد تأخر الوقت و يجب عليك النوم.
لم يعجبها ما قالته دفنه و كانت تنوي الاعتراض على ذلك ولكن اخبرتها دفنه باسبابها التي تمنعها من فعل شيء كهذا في الليل.
- و لكن أمي...!
- و على أخوكي إيسو أن يرتاح أيضاً.
كانت الصغيرة ترتدي نظرات الحزن بسبب ما قالته أمها فلاحظ الرجل عبوسها هذا فقرر أن يراضيها.
- أيتها الأميرة الصغيرة...
ناداها بصوته لكي تنتبه له فحركت رأسها باتجاهه و نظرت له بعيونٍ يملؤها الدمع لتشهق محاولة ألا تذرف تلك الدموع فتكلم و هو يقدر لها محاولتها لمنع البكاء.
- نامي الآن و سآتي في الغد و نكتب كل ما تريدين كتابته اتفقنا؟
اقتنعت ايليف أخيراً و اومات برأسها موافقة على اقتراحه فأقترب و لامس الجزء الذي يجاور شفتيها و قال:
- إذا كنت راضية؟ أين هي الابتسامة؟
ارتسمت ابتسامة فورية على شفتي الصغيرة اللطيفة فور سماعها ما قاله فارتسمت ابتسامة على شفتي الرجل و أخفض رأسه ليقبل وجنتيها.
- تصبحين على خير حبيبتي... سأكون في الشرفة دفنة.
- حسناً...
تبعت عيون دفنة الرجل بتلقائية إلى أن اختفى عن ناظريها ثم عادت إلى حبيبتها الصغيرة و بدأت في خلع حذائها و لكن سقطت عيونها عليه صدفة و تدفقت داخل عقلها ذكريات خلقته عنوة و شعرت بأن أنفاسها قد انقطعت.
**********************
كانت تجلس على الأريكة التي في غرفة جلوس المنزل تقوم يالتمرين و رسم الأحذية الجديدة بينما كان زوجها يعد لهما كوبين من القهوة ليزيد مستوى تركيزهما كي يعملا بجد و همة.
فانتهى عمر من إعداده للقهوة و وصل إلى غرفة الجلوس ليضع كوبي القهوة فوق الطاولة و جلس بعدها بجوارها.
- ماذا فعلت؟ أرني...
امتدت يد الرجل إلى المرأة يطلب منها تسليمه إحدى تصميماتها كي يقيم ادائها بنفسه.
- انتهيت من واحدة، الأخرى مازلت أعمل بها... ما رأيك؟
أعطته التصميم و انتظرت بفارغ الصبر لتسمع رأيه في رسمها.
- و الله جميل... أحسنت دفنتي!
و عندما سمعت إطراءه اتسعت ابتسامتها لتصبح من الأذن للأذن و احمرت وجنتيها خجلاً.
- أرني الأخرى الآن.
لم ينتظر عمر أن تنهيها و هذا فاجأها في الحقيقة لأنها لم تظن أن يطلب منها شيء كهذا و لكن انصاعت لأمره و رفعتها إليه.
- و لكن لا تسخر... لم تكتمل بعد!
ضحك عمر على تحذيرها له ثم أخذها منها يتعهد بأن لا يضحك إذا كان بالفعل هناك شيء يضحك أما دفنة عندما أعادت رأسها إلى أوراقها مجدداً لاحظت شيئاً غريباً.
- اوهااا عمر ما هذا؟!
كان عبارة عن تصميم حذاء و لكن بطريقة مختلفة عن كل أحذية عمر المصممة مسبقاً. كان غاية في الصغر و الجمال و اللطافة.
التقط عمر صوت زوجته المميز و حرك رأسه لينظر لها و إذ بها ترى ما أخجله للحظة و راح يحك مؤخرة رأسه.
- ماذا أتى بهذا التصميم هنا؟!
حاول أن يأخذه منها و لكنها لم تعطيه و أبعدته عنه.
- دفنة اعطني هذا!
- ماذا هناك؟ لما تريد أخذه مني؟!
توقف عمر و هو ينظر لها و هي تحاول أن تبعد التصميم عنه إلى أنه مل في الأخير و تنهد باستسلام ليبتعد عنها و بتركها تنظر لما كان يريد إخفاءه.
فابتسمت دفنة و عادت إلى وضع جلستها الأصلي و راحت تحدق بالرسم بإعجاب و عيون لامعة فالتقط عمر رد فعلها و سألها بفضول:
- هل أعجبتك؟
- بالطبع... إنها غاية في اللطافة و الصغر! كيف اتتك الفكرة؟
نظر لها بل حدق عليها و لم يتكلم و لكن عينيه تلألأتا فشعرت بالخوف للحظة و لكن ذلك الإحساس اختفى عندما جذبها من يدها برفق حتى أصبحت بالقرب منه فتكلم بعد وضع قبلة دافئة فوق راحة يدها.
- أريد أكون أب أطفالك دفنة...
تلألأت عينيها و انهمرت الدموع منهما بدون أي إنذار مسبق.
ما قاله وصل لصميم قلبها و أثر فيه للغاية و نثر الدفئ في قلبها و جسدها و روحها فابتسم عمر ببساطة و وضع قبلة أخرى على راحة يدها التي كانت بين يديه تلامسه و يتدفق منهما الدفء الذي يعشقه و يلجأ إليه فكانت القبلة أعمق من ذي قبل اشعرتها بمشاعره و أحاسيسه مركزها من القلب.
و عندما رفع رأسه لينظر لوجهها لاحظ تلك العيون الدامعة و الوجه الرطب فارتفع ليضع قبلة فوق عينها.
- هيا لا تبكي... إنه محض تصميم...
و مسح وجهها الرطب بأنامله السمراء فشهقت دفنة باكية و قالت بصوت متقطع:
- أنت... أنت زوج رائع... أنا... محظوظة بك للغاية!
ما قالته أدخل السعادة لقلبه و جعله يخفق حباً و غراماً مجدداً لتلك المرأة الرائعة التي لونت حياته البيضاء التي لا لون لها و جعلتها مليئة بالأزهار المتفتحة و ذات الرائحة العطرة.
- و أنا أيضاً.... محظوظ بك.
*************************
- أمي...
حركت دفنة رأسها لمصدر الصوت الذي أيقظها من غيبوبتها لتكتشف أنها مازالت في غرفة ابنتها الصغيرة و مازالت تمسك بحذائها الصغير بين يديها و الذي اختلف في الشكل و اللون عن ذاك الحذاء الذي رسمه عمر منذ أربع سنوات.
أجبرت دفنة شفتيها على الابتسام و نظرت لصغيرتها بحب و انتظرت سماع ما تريده دون تدخل.
- هل تعرفين؟.... لو كنت سأختار أبي... سأختار خالي إيسو!
حدقت بها دفنة بدون أي رد فعل و بدون أي كلمة لا تعرف ما عليها فعله بعد سماع ما قالته الصغيرة.
- إن خالي إيسو رائع للغاية و أنا أحبه كثيراً!
كانت مهمومة بما رأته و سمعته لهذه الليلة و بدون أن تشعر إيليف بذلك كانت تزيد من همها أكثر و أكثر.
عانت الصغيرة فقدان الأب لسنوات و كانت تبحث عنه في كل رجل تقابله و رغم أنها لا تبدي أي مشاعر غيرة لإيسو الصغير في وجود أب يعتني به و لكن تعرف دفنة أنها تحزن كثيراً عندما تراه يبدي له مشاعر الأبوة التي تفتقدها هي.
- و هل نظنين أن والدك لن يحزن إذا سمع هذا؟
لم تعي دفنة خطورة السؤال الذي طرحته على الصغيرة و عندما سمعت إيليف السؤال اختفت ابتسامتها و أبدت رد فعل حزين حتى كادت تبكي حزناً لما سمعته.
إنها تحب ذاك المجهول، تحبه كثيراً بدون رؤيته و دون سماع صوته و دون شم رائحته.
تحبه لأن والدتها زرعت حبه في قلبها من الصغر فانتظرت ليالٍ طوال لمجيئه بصبر لأنها آمنت بذلك، آمنت بمجيئه!
و الآن هي تشعر بأنها قد خانته عندما قالت ما قالته فانهمرت دموعها عنوة لترتبك دفنة و تسرع لتمسح دموعها و تندم ألف مرة لقولها ما قالته.
ما كان عليها أن تقول هذا، ما كان عليها أن تتصرف بهذا الشكل.
هي ابنتها فكيف لها أن تفعل ذلك بها!
- حبيبتي...
- أبي... أبي سيحزن مني لأني قلت ذلك، لا تخبريه أرجوك... لأنه لو عرف... لو عرف لن يحبني!
آلمها قلبها و شعرت بالرغبة في البكاء.
لقد آذت ابنتها الصغيرة بكلامها الغير موزون فكان عليها أن تفكر في تلك الكلمات التي تخرج من فمها قبل نطقها.
اقتربت منها و عانقتها ثم قالت و هي تمسح على شعرها تحاول أن لا تترك الدموع تنهمر على وجنتيها خصيصاً أمام الصغيرة.
- ماذا تقولين حبيبتي؟ بالطبع والدك يحبك... إنه يحبك كثيراً. و لو عرف أنك تحبين إيسو و تتمنين أن يكون والدك لن يحزن و لن يغضب منك و لن ينقص حبه لك أبداً.
هدأت الفتاة قليلاً عندما سمعت تلك الكلمات فمسحت دفنة عبراتها المتساقطة و قررت أن تعود بجسدها للخلف و أمسكت بوجهها الصغير بين يديها و نظرت إلى عيونها بابتسامة بسيطة على شفتيها.
- أنت ابنته... إنه يحبك أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم!
- حقاً؟
نظرت الفتاة لوالدتها بعيونها المنتفخة و الحمراء و تساءلت إن كانت حقاً تقول الصدق أم لا.
- بالطبع!
و لكن هذا لم يزل حزنها و لم يزل أسئلتها و فضولها عن غيابه و عن عدم وجوده معهما.
فكانت اللحظة التي فرغ صبرها و تدفقت أسئلتها الغير مجاب عليها.
- إذاً... لماذا لم يعد من السفر؟ لماذا مازال بعيداً عنا؟
صمتت دفنة و هي تنظر إلى صغيرتها و تسمع أسئلة صغيرتها الاندفاعية و لكن لم تكف الصغيرة عن طرح الأسئلة بل تابعت تفضي كل ما بداخلها.
- ألم تخبريني أنه سيأتي إلينا في يوم ليأخذنا معه؟
نعم قالت هذا. فغير رغبتها في أن تصدق صغيرتها أن والدها يحبها و جعلها تصدق أنه يحبها و سيعود ليأخذها، هي نفسها كانت تؤمن بعودته.
تؤمن به....!
مسحت دموعها التي مازالت تنهمر و مسحت على وجنتا الصغيرة الرقيقة و نظرت لصغيرتها بابتسامة متسعة.
- هل أخبرك بسر؟ لقد اقترب موعد عودته... و قريباً جداً ستريه!
كانت تريد أن تعطيها الأمل و لا تجعلها تفقده أبداً مهما حدث لأنها إذا فعلت ستفقد والدها و ستكرهه قبل أن تراه حتى و ستكون هي المذنبة التي آذت ابنتها و تركتها للمعاناة.
- حقاً؟ هل حقاً سيعود قريباً؟!
كانت تعرف أن اليوم سيأتي و تخبره بالحقيقة عاجلاً أم آجلاً.
تخبره بوجود ابنة له بعمر الثلاث سنوات و نصف، حية ترزق بعد مرارة حمل دامت تسعة أشهر كانت لتخسرها في أي لحظة.
ستخبره بكم انتظار الصغيرة له بفارغ الصبر و كم رأته في حلمها يفعل معها ما يفعل أي أب مع ابنته.
و رغم صدمتها بمجيئه الذي مازالت لا تستوعب منه أي شيء أيقنت أن يوم الإفصاح عن هذا كله قد اقترب.
و غير ذلك... كان عليها أن تخبرها بما يسعدها بعد أن حطمتها بهذا الشكل المريع
- ...نعم!
نهضت الصغيرة و وقفت على السرير و راحت تقفز فرحاً و سعادة لسماع هذا و زادت ابتسامتها اتساعاً و كفت عن ذرف العبرات و لكن دفنة أمسكتها من ساعديها و أجلستها بهدوء على السرير و هي تقول:
- اهدئي إيليف...
ثم نظرت إلى عينيها السوداويتين و هي ترفع خصلتان من شعر الصغيرة لتضعهما خلف أذنيها.
-... أبقي هذا سراً بيننا، سنخبر الجميع في وقت لاحق تمام؟
لم تستطع أن تخفي ابتسامتها و لم تستطع أن تخفي سعادتها بسماع خبرٍ كهذا فأومأت برأسها لعدة مرات و بعدها عادت لتستلقي على السرير مجدداً و هي بكامل سعادتها، سعادة لم تذق مثيلها يوماً.
فارتجف الحزن في زوايا ابتسامة دفنة لا تعرف ما سيكون المصير الذي سيواجهها و الصعوبات التي ستلقاها من بعد الآن.
عاد عمر والد طفلتها... عاد عمر الذي لا يعرف بوجود طفلته... عاد عمر الذي تسبب لها بأذى كبير... عاد عمر!
نهضت دفنة من السرير بعد وضع قبلة عميقة على رأس صغيرتها ثم اتجهت إلى خارج الغرفة عندما تأكدت من نوم الصغيرة و بكل هدوء سارت عائدة إلى غرفتها.
غيرت دفنة فستانها السماوي إلى بيجامة خفيفة أكثر راحة و بعدها ذهبت إلى الشرفة حيث كان يجلس إيسو فيها و يحدق على السماء الداكنك فجلست بجواره بكل هدوء.
- لقد تأخرت...
عندما لاحظ إيسو وصولها علق على تأخرها ينظر لها بطرف عينيه بينما يرشف عدة رشفات من القهوة التي اعدتها له الخادمة تولين.
- كنت أنيم إيليف... أنت تعرف هي لا تنام بسهولة.
كانت تحاول أن تهرب من استجوابه لها، لا تريد أن تنطق بحرف مما حدث الليلة و لكن تريد أن تجلس مع أي أحد، تريد أن تتحدث مع أي أحد فربما هذا سيشغلها عن التفكير فيما حدث لأنها لم ترد أن تفكر فيه أبداً.
- هل أنت بخير؟
لا لم تكن بخير و هذا يظهر على وجهها مئة بالمئة و أي أبله قد يرى هذا و هي تعرف أنه رأى هذا و رغم ذلك أومأت برأسها و لم تتكلم بل تابعت النظر من خارج الشرفة على الحديقة الخاصة بمنزلها الكبير.
فسمعت إيسو يتنهد باستسلام ليأخذ بعدها شهيقاً عميقاً من أنفه و يقول:
- لقد عملت و تعبت و أصبحت من الأغنياء دفنة.
ما قاله لفت انتباه دفنة فجعلها هذا تنظر له و إذ بها تغوص في أعماق التفكير فيما عناه و استنتجت في النهاية السوء في كلامه لهذا هاجمته باندفاع.
- هل أصبحت سيئة الآن حين أصبحت غنية يعني؟
علم أن هذا الحديث قد يؤدي إلى شجار كبير بينهما لهذا أراد ألا يتحدث كي لا يحزنها رغم أنه متأكد أنها إذا فكرت بالمنطق سترى أنه لا يوجد شيء يحزن في ذلك.
- جاوبني إيسو!
كانت مصرة على سماع جواب سؤالها فلم يردها خائبة و تكلم و هو ينظر لها بعيون تملأها الكثير من معاني الأسى و الحزن الغضب و خيبة الأمل.
- لست سيئة دفنة... أنت فقط أصبحت كناريمان هانم الآن... تهتمين فقط في كيفية زيادة ثروتك!
حدقت به لأنه صدمها بسؤاله و صدمت أكثر أنها سمعت هذا يخرج من فم صديقها العزيز الذي تفكر مئة مرة في الكلمة التي تنوي قولها كي لا تجرحه.
فلم يفعل هذا بها؟!
هي تجمع المال نعم، و لكن لم يكن يوماً من أجلها!
ليس من أجلها و لم تنوي صرف قرش واحد منه من أجل أن تصبح سعيدة بما صرفته.
و لا تعرف لما لا يفهم من حولها و الذين يكونون هم في الأساس أكثر من يفهمها.
لما يصرون على اتهامها اتهامات باطلة لا أساس لها من الصحة؟!
و لكن كفى... كفاها حقاً!
هي لا تستطيع سماع تلك الاتهامات و الصمت كعادتها... هي إنسانة في النهاية، تريد أن تشعر بالأمان مع البشر الذي يشاركونها نفس البيت و الصداقة لا تشعر بالخوف مما يظنوه بها!
- هل هو ذنب أني لا أريد لابنتي أن تعاني ما عانيته؟!... هل هو ذنب أني لا أريد لها أن تقع في ضائقة مادية و تقحم نفسها مع امرأة كل همها المال، و دفعت لها المال كي تساعدها و لكن في المقابل سلمتها تضحية في علاقة مع رجل لا تعرفه و لا تعرف اسمه حتى؟!
لم تنسى و لن تنسى ما عانته بسبب ماضٍ قد مضى عليه خمس سنوات و بسببه دموعها لم تجف إلى الآن!
- ربما... ربما لو كانت أمي معي قبل خمس سنوات... لما سمحت لي بفعل شيءٍ كهذا... و لكنها... لم تكن موجودة، لم تساعدني... لم تعرف في الأساس ما حدث معي!
تجمعت العبرات في عينيها فور تذكرها مدى تعاستها التي عاشتها منذ رحيل والدتها إلى الآن و لكنها منعت تلك العبرات من القفز خارج مقلتيها و قالت و هي توجه رسالة قوية للرجل الذي كان يظن أن خطته قد خربت كل شيء.
- لهذا سأمنع إيليف بأن تفعل شيء كهذا بكل ما أوتيت من مال و حب... لن أرمي بصغيرتي في التهلكة كما حدث معي!
و نهضت متجهة إلى داخل المنزل تاركةً خلفها، رجل نادم كل الندم على التحدث لهذا الكلام و منه محبط لأنه لم يجني ثمار تعبه.
فإيسو كان يريد أن يوقظها من غيبوبتها و يعيدها إلى الحياة و لكن خذ عندك محاولة فاشلة أخرى كتلك المحاولات التي ذرف فيها الدم ليرجعها إلى دفنة التي كانت عليها سابقاً... و لكن لم يستطع.
فنهض هو الآخر ليرحل عن المكان و ترك المفتاح على الطاولة ثم اتجه بعدها إلى خارج البيت ليرحل عن المكان كلياً.
....................................................
وقفت أمام مرآتها تضع المكياج لتخفي تلك العيون المتعبة التي زينت بحلقات من اللون الأسود أسفلها و ذاك الوجه الشاحب المصفر الذي إذا دل على شيء سيدل على أنها متعبة منهكة مريضة.
و لكن كعادتها... قاومت الإعياء و قررت أن تتجه إلى العمل ترفه عن نفسها و تنسى الهم الذي كتب عليها أن توضع به دون رغبتها.
أنهت إخفاء التعب من على وجهها و خرجت من الغرفة لتتجه إلى غرفة الطعام لكي تقابل باقي عائلتها و لكن قابلت حبيبتها الصغيرة فور خروجها من الغرفة صدفة و كانت الصغيرة مستيقظة من النوم حديثاً بشعر أشعث و عينين منتفختين إثر النوم فابتسمت ابتسامة بسيطة و انحنت لتقبلها.
- حبيبتي الجميلة استيقظت!
دعكت الصغيرة عينها و هي مغمضة لعينها الأخرى تتثاءب بين التارة و الأخرى فأعادت دفنة شعرها إلى الخلف تبعده عن عينيها ثم نظرت إليها.
- حسناً... تعديل بسيط و ستكونين الجميلة النائمة.
نهضت دفنة من مكانها و سحبت يد إيليف من على جانبها لتأخذها سيراً إلى الحمام.
عند وصولهما حملت دفنة صغيرتها لتجلسها على سطح عالي يوازيها و يسهل عليها مهمتها ثم فتحت صنبور الماء و راحت تبلل وجهها و شعرها المشعث لتجعله ثابت لا تتطاير خصلاته حول رأسها.
كانت دفنة تعلم ممن ورثت صغيرتها هذا الشعر و متأكدة من ذلك مئة بالمئة.
و عند الانتهاء من غسيل وجهها فتحت إيليف عينيها أخيراً لتحط بؤرتاها على والدتها فابتسمت ابتسامة نعسة.
- آخر لمسات أيتها الأميرة الصغيرة... دعينا نمشط ذلك الشعر، حسناً؟
أومأت الصغيرة برأسها و بدلاً من القفز عن السطح العالي حملتها دفنة إلى حضنها فلطالما أحبت حملها و احتضانها حتى و هي بهذا العمر ثم سارت بها إلى غرفتها لتمشط لها شعرها.
- أمي... هل تعرفين أني رأيت أبي في حلمي..؟!
فاجأتها بسؤالها البسيط فنظرت إلى المرآة لترى ابتسامتها العريضة انعكاساً لصورتها فابتسمت دفنة لصغيرتها و باشرت عملها كأنها لم تسمع ما قالته و لم يؤثر على قلبها البتة.
كانت تراه في حلمها من شدة رغبتها برؤيته و لم يمنعها أحد من ذلك.
- رأيته؟
- نعم، كان يلعب معي و يرميني إلى أعلى كما يفعل خالي...
كانت الفتاة متحمسة جداً و هي تخبر والدتها عن الحلم الذي رأته و رغم أنها لم تحكي كل التفاصيل و التي تصادف أن تكون مهمة كشكله مثلاً، رائحته و نبرة صوته إلا أن دفنة تغاضت عن هذا لأنها تعرف ابنتها حين تحلم بأبيها.
- هذا جميل...
صمتت الصغيرة للحظات عدة و عندما تذكرت باقي الحلم أكملت سرده.
- نعم... و رأيت الطويل الذي أنقذني أيضاً.
عندما ذكرت ذلك الطويل البارحة لم تركز دفنة في ذلك كثيراً و لم تتوقع بأن يكون أي شخص مميز و ما فعله هو مجرد إنقاذ طفلة كانت ستتأذى و ما لا تعرفه دفنة أنه فعل ذلك لأنه أتى من صميم قلبه الذي لم يعرف سببه أبداً في الحقيقة.
- و لكن أمي... أنا تحدثت إليه في حلمي، هل غضبت علي؟
قاطعت إيليف شرود والدتها و دخلت إلى عالمها مجدداً لتنظر لها في إنعكاسة صورتها في المرآة و هي تنظر بعيونٍ لامعة يملؤها الخوف و الندم فابتسمت دفنة و هي تنهي تمشيط شعرها إلى ضفيرة حمراء في نهايتها شريطة بيضاء اللون.
فجلست القرفصاء لتدور ابنتها إليها ثم نظرت لها بعيون الأم الحنون.
- إيليف... هل تعرفين نحن نلجأ إلى عالم الأحلام لنفعل كل شيء لا نستطيع فعله و نحن يقظة؟
- حقاً؟
- نعم، مثلاً أنا...
أرادت طمأنتها و جعلها تفرق بين المسموح و الغير مسموح به لكي تحميها من العالم و مرارته.
-... عندما أشتاق لرائحة البحر و لصوت أمواجه... أحلم أني على الشاطئ و قدماي تلامس رماله و تضربهما المياه ذات اللون الأبيض...
لمعت عيون الصغيرة عندما راحت تتخيل ما تقوله والدتها حتى شعرت بالرغبة في الذهاب إلى البحر أو أن تحلم به على الأقل.
- أتمنى أن أحلم لو أني على الشاطئ أيضاً!
صمتت لثواني فابتسمت دفنة و نهضت واقفة و لكن أوقفتها الصغيرة ثابتة في مكانها عندما تكلمت مجدداً.
- لا... أنا أفضل أن أرى أبي في الحلم كل يوم!
تغاضت دفنة عن غصتها المسننة التي تكونت في حلقها و قالت بنبرة حزينة و هي تضع يديها على كتفيها.
- هل ستتركيني أذهب للبحر وحدي؟
حدقت الصغيرة بأمها تفكر فيما تقوله. تفكر في فكرة لا تحزن أي من الأطراف لا هي و لا والدها التي تلجأ للأحلام لرؤيته او لتخيله على الأقل.
- لا لا أريد تركك... تعالي أنت أيضاً معنا!
- دعيني أفكر... ماذا تفعلان في الحلم؟
- نركض و نقفز... نطير طائرات ورقية... و نتنزه طوال اليوم!
- كم هذا جميل! سآتي معكما حتماً!
اتسعت ابتسامة الصغيرة و لكن فجأة تحول وجهها إلى وجه مستفسر حين عمل عقلها و فكرت بمنطقية في كيفية وصول والدتها إلى حلمها.
- و لكن كيف ستأتي إلى حلمي؟
- هذه مشكلة أخرى، الحل الوحيد لهذه المشكلة... أن ننام سوياً هذه الليلة، ما رأيك؟!
كانت تحتاج لصغيرتها أكثر من احتياج الصغيرة لها فربما إذا نامت هي بالقرب من طفلتها قد يهدأ قلبها و يخف الألم عنه.
اتسعت ابتسامة الفتاة مجدداً و راحت تومئ برأسها عدة مرات فقبلتها دفنة ثم تكلمت مجدداً.
- هيا لنأكل... لابد أنك جعتِ.
.............................................
وضع عمر آخر تصاميمه داخل الملف ليغلق الملف أخيراً متنهداً بقوة.
لقد أنهى عمله... لقد استغرق مجرد ليلة واحدة من عدة ساعات قليلة لإنهاء العمل و بالطبع كان الرسم خيالي و رائع بشكل مرعب.
و الآن هو يمسك بذاك الملف برغبة ذات قوة و عزيمة للحصول على ما يريده بدون التردد للحظة واحدة في القيام بمخططه.
كان ينوي تدمير سبب إيلامه و أولى خطواته كانت العودة إلى باسيونيس حتى لو أدى ذلك للتقليل من كبريائه و غروره الذي اعتز بهما دوماً، سيتحمل حتى ينال ما يريده.
قاطع تفكير عمر صوت رنين الهاتف فانطلق بحثاً عنه ليرد على المكالمة.
- مرحباً...
- عمر بيه... وصلت الفندق و أنا في انتظارك في الأسفل.
- نعم شكري أنا قادم الآن...
تكلم الرجل ثم توقف لبرهة و حين تذكر شيئاً مهماً تكلم عنه متساءلاً.
- كنت سألتك عن بيت شكري... هل وجدت واحداً؟
- نعم وجدت منزل كبير و مريح... أتريد أن نذهب إليه في البداية؟
- لا دعنا نذهب إلى باسيونيس أولاً.
.................................................
- صباح الخير... لقد جئنا...
دخلت ذات الشعر الأحمر إلى غرفة الطعام هي و صغيرتها إيليف لتجد الابتسامات تنتشر فور رؤيتهما معاً.
- أه دفنة... صباح الخير... صباح الخير إيليف، ما هذا الجمال؟!
ابتسمت الصغيرة و رفعت يدها لتمسك بضفيرتها الحمراء في خجل ثم شكرت ذات الشعر البني كما علمتها والدتها.
-... شكراً لك...
- كيف حالك الآن ابنتي؟
كانت دفنة تنظر للفتاة الصغيرة و هي تبتسم في خجل لسماع الإطراء من زوجة خالها عن جمالها فعشقت ابتسامتها و تمنت لو أرادت أن تكتفي بمشاهدتها طوال اليوم بدون هم و لا غم و لكن قاطعتها جدتها عن فعل ما تحب فرفعت رأسها إليها لترى القلق في عينيها و لكنها ابتسمت حتى تدخل الطمأنينة إلى قلبها و تبعد الشك عنه.
- بخير جدتي...
جلست الأم و ابنتها على الطاولة حيث طعام الفطور و لاحظت دفنة أن هناك طبق جديد خاص بها و أمامها هي فقط و قبل أن تسأل ما هذا و لا ما سبب وجوده على الطاولة سبقتها جدتها بشرح التفاصيل.
- هذا الطبق مفيد جداً يا ابنتي تناوليه بالعافية!
كان شكله غريب للغاية و في الحقيقة لم تجرؤ على تناوله لأنها شعرت أن طعمه مثل شكله غريب أو سيء.
و لكنها لم تعترض و قررت تجربته تحت بند أن ليس كل طعام سيء.
تناولت الشوكة و أخذت منه القليل لتتذوقه و لكن عندما وضعته على لسانها شعرت بمرارة ما تأكله فوضعت يدها على فمها بسرعة قبل أن تبصقه و يكون مظهرها سيء أمام الأطفال.
و للأسف ابتلعته مجبرة!
- ما هذا جدتي؟ إنه مر و سيء الطعم!
أبعدت الطبق عنها و نظرت بحدة و عدم تصديق إلى المرأة العجوز و يا ليتها لم تفعل!
- أأ دفنة... ماذا تقولين عن الطعام؟
بدأت جدتها الكلام بهذا السؤال تنظر لها عاقدة الحاجبين و لكنها لم تكتفي فأكملت.
- هل هذا ما تعلميه لابنتك؟ أتريدنها أن تكره الطعام و تصبح بنحافتك عندما تكبر؟!
كانت تعرف أن هذا الأسلوب هو أسلوب توبيخ و لكن غير مباشر و بوجهٍ جامد دون ملامح فأرادت لو استطاعت أن تختفي في التو و اللحظة كي لا تفعل هذا بها أمام إيليف و إيسو.
- هيا جميلتي... هيا، تناوليه و كوني قدوة لابنتك و ابن اخوكي!
لم يتبقى لديها أي خيار آخر. عليها أن تنصاع لكلام جدتها كي لا تسوء علاقة الأطفال بطعامهما و تكون هي السبب في ذلك.
فتناولت ذاك الطبق تحاول أن لا تفكر لا في طعمه السيء و لا في مرارته.
مر الوقت سريعاً و في النهاية أنهت ذات الشعر الأحمر طبقها كله و كانت بطلة الطاولة فسعدت بها جدتها و استغرب الوالدان الآخرين لقدرتها على إنهاء ذاك الطبق الغريب.
- لقد أتممت الأمر بجدارة، سأخبر نيهان بتحضيره يومياً من أجلك!
اتسعت عيون الفتاة و أمسكت بذراع نيهان و هي تحمل الطبق من أمامها ثم همست بنبرة شديدة الحدة و منخفضة جداً.
- إياك نيهان إياك!
كانت نبرتها مخيفة لدرجة أنها خافت منها و لكن رغبتها في الضحك كانت أقوى من خوفها فابتسمت مجرد ابتسامة تكتم الباقي بداخلها كي لا تفضح و أتمت مهمة حمل الأطباق بهدوء.
و بعد فترة ليست بالكبيرة من توضيب المكان اتجهت دفنة إلى سردار الذي كان يساعد زوجته في تجهيز طعام المطعم.
- أخي... خذني في طريقك اليوم.
عقد سردار حاجبيه و لم ينظر لها لشدة انشغاله بما يفعله و لكن هذا لم يمنعه من سؤالها عن السبب.
- ماذا حدث لسيارتك؟
- قلت لإيسو أن يرحل بها البارحة.
نظر الرجل لها لثواني عدة دون حراك يحاول استيعاب ما تقوله و حاول أن يعرف من المخطئ بينهما فهو في الحقيقة قد رأى السيارة و المفتاح في هذا البيت فكيف لها بأن تقول هذا.
- لم يأخذها، انظري المفتاح هنا.
و تحرك ليأخذ المفتاح من على المنضدة الجانبية و عندما رأته دفنة تجمدت مكانها و راحت تحدق به.
لم يأخذ السيارة كما أخبرته البارحة. لابد أنه قد أخذ على خاطره بسبب انفجارها فيه.
و لكن لا يجوز عليه أن يلومها هي، لا ذنب لها في ذلك.
هي المظلومة و هي من تعاني و ما يخبروها به كالاعتدال و العودة لتصبح كالسابق مجدداً صعب للغاية مع وضعها و هم يعرفون أن ذلك مستحيل فلماذا يتابعون جرحها و إيذائها بنفس الأسلوب؟!
و الآن أصبحت هي المخطئة و المذنبة لأنها صرخت به قليلاً و أخرجت بضع كلماتٍ قليلة تعبر عن الهم الذي غرقت فيه من سنوات.
- هل أنت بخير؟
قلق صاحب الشعر الأسود حين وجدها متجمدة الملامح تنظر له بملامح الصدمة فأومأت برأسها ببساطة و برود جعلته يحدق بها أكثر و لكن بكل بساطة امتدت يدها لتأخذ منه مفتاح سيارتها و رحلت عن المكان.
- ماذا هناك؟
راقبها حتى اختفت من أمام ناظريه و حين رأت زوجته ذلك الشرود الذي يعتري وجهه تساءلت عن سببه فحرك رأسه لينظر لها و هو صامت يفكر في أخته.
- لا أعلم ما بها دفنة، هناك شيء حدث بينها و بين إيسو.
سافرت عيون ذات الشعر البني إلى الخارج لتنظر لها و هي تودع ابنتها على الباب و تسير لتركب سيارتها الواقفة أمام المنزل فسألته سؤال و هي مازالت تنظر إليها.
- هل تشاجرا برأيك؟
- لا أعلم، لقد نمنا مبكراً ليلة البارحة و لا نعلم ما حدث.
حرك الرجل ناظريه لينظر لأخته الأصغر سناً و لمح ملامحها الحزينة من مكانه و شعر بغصةٍ مؤلمةٍ في حلقه.
شعر بأنه ليس الأخ المثالي الذي يمنع الحزن عن أخته و يمنع دمعها. كان أحد أسباب حزنها فلولاه لما التجأت لتلك المرأة الخبيثة التي جعلتها تعاني و تتألم حتى الآن.
هي تألمت كثيراً حتى أصبح الألم ما هو إلا عبارة عن شيء أساسي تحيا به.
و لكن يجب عليه أن يفعل شيء لمنع حزنها، على الأقل لو لم يمنعه يجب عليه أن يقلله.
و لكن كيف سيفعل ذلك؟
و في الخارج كانت دفنة تنظر لصغيرتها المبتسمة لا تستطيع ركوب السيارة و تفويت فرصة النظر لابتسامتها الجميلة.
و لكن لكل شيء نهاية و كان ذلك حين أتت جدتها تركض من الداخل و تنهدت براحة حين رأتها.
- جيد أني لحقت بك، خذي هذا و احرصي على تناوله كله في العمل.
امتدت يد المرأة العجوز بصندوق متوسط الحجم منتظرة أن تأخذه منها الفتاة ما بيدها و لكنها حدقت عليه بكل بلاهة.
- ما هذا؟! صندوق طعام؟! هل أنا صغيرة برأيك؟!
أطلقت إيليف الصغيرة ضحكة من بين شفتيها إثر ما سمعته فتنهدت الجدة بتعب و لم تسأم من مد ذراعها بهذا الشكل.
- لست طفلة دفنة و لكن تتعاملين كالأطفال، هيا خذيه و لا تتعبيني!
لم تجد مخرجاً خصيصاً أنها أهانتها أمام ابنتها فاختصرت على نفسها الوقت و التعب و الإهانة كذلك و قررت أن تأخذه من يدها الصندوق و عندما كانت على وشك الاتجاه إلى مقعد السائق في سيارتها نادت جدتها على السائق علي.
- علي اذهب مع دفنة اليوم.
- جدتي...!
كان فوق الإحراج و الإهانة هو عدم ثقة و قلق. و لكن لماذا كل هذه المبالغة، تبدو كالجن أمام الجميع!
- أمرك توركان هانم.
لم تجد مخرجاً للمرة الثانية مع الملكة توركان العظيمة و لكن هي تعرف أنها دائماً خاسرة فلما تحاول من بداية الأمر في الأساس؟!
فقررت أن تتكلم حيال شيء آخر تذكرته في هذه اللحظة.
- على أي حال، طمأني عن زوجتك يا علي، ماذا أخبرك الطبيب؟
- لقد حدد موعد الولادة، الأسبوع القادم.
- بهذه السرعة؟
- نعم، لقد مرت تسعة أشهر بسرعة كبيرة.
- إذاً لماذا جئت اليوم؟ اذهب لتبقى معها و لتساندها فالمرأة التي تلد تحتاج الدعم لتسهيل الولادة.
لا تعرف لما أثر عليها ذلك كثيراً فراحت تحدق عليه تتذكر أيام المعاناة و آلام الحمل التي واجهتها.
- والدتها معها لا بأس.
- ماذا تقول؟ هي بحاجتك أكثر من احتياجها لأي شخص آخر.
و فوق كل هذا، تذكرت... تذكرت أنها كانت وحيدة في فترة حملها و لم يكن هو بجوارها فوقعت عينيها على صغيرتها المبتسمة لها فأجبرت شفتيها على التقوس لأسفل عنوة كي لا يلحظ أحد تلك السحابة الرمادية التي غطت عينيها.
- يا علي، اذهب لزوجتك و لا تشغل عقلك بالعمل و لك أجر إجازة أيضاً.
- دفنة هانم ، شكراً لك كثيراً!
لم يصدق الرجل نفسه حين سمع هذا و شعر بأنه محظوظ جداً للعمل مع هذه المرأة.
- اذهب إلى زوجتك يا علي و لكن خذ دفنة إلى العمل في البداية.
أضافت توركان لتطمئن على فتاتها فنظرت دفنة لها نظرة جانبية و تنهدت باستسلام.
- لا مفر للهروب منك، هيا يا علي.
ركب الرجل السيارة و هو يضحك على مناقرات الجدة و حفيدتها و لكن قبل أن تركب دفنة السيارة أوقفتها جدتها للمرة الثانية فالتفتت دفنة بتأفف لتنظر لها.
- يا فتاة، عودي مبكراً هذه الليلة سأحضر مأدوبة على العشاء بمناسبة نجاحك.
- لم أرى النتائج بعد، لا تستعجلي.
- ليكن يا روحي، حتى لو كانت النتائج غير جيدة أنا فخورة فيكي و سأحتفل بك مهما كانت النتائج.
التقطت الصغيرة ما قالته جدتها فرفعت رأسها لتنظر لها حيث انتابها الفضول لتعرف إذا كانت الجدة فخورة بها كما الحال مع والدتها أم لا.
- و انا؟ ألست فخورة بي جدتي؟
- بالطبع سأفتخر بك حبيبتي...
كان من المفترض أن تفرح بعد ما سمعت ذلك و لكن حين تذكرت أنها لم تفعل شيئاً مميزاً ليفتخر بها عبست و أبدت ملامح حزينة.
- و لكني لم أنجح مثلما نجحت أمي.
- عندي فكرة رائعة إيليف، ما رأيك أن تساعدي جدتي و تولين في إعداد طعام العشاء؟
و كأي أم لا ترغب بأن ترى الحزن على وجه ابنتها قررت أن تقترح شيء سيجعلها أكثر فخراً بنفسها.
فلمعت عيون الصغيرة و رفعت ناظريها إلى المرأة التي تقف بجوارها و لأنها الآمرة و الناهية في هذا الموضوع و هي من ستسمح أو ستمنع دخولها المطبخ سألتها هي لتعطيها الإذن بذلك.
- هل هذا ممكن جدتي؟
- بالطبع حبيبتي... و حين تساعدينا سأفتخر بك كثيراً كثيراً!
قفزت الفتاة الصغيرة فرحاً و راحت تهتف بفرح و سعادة.
- نعم، سأساعدك!
ابتسمت دفنة و ركضت إلى حيث كانت تقف لتقبلها على وجنتها قبلة عميقة.
- دعيني آخذ قبلة أخيرة تساعدني على إنهاء يومي سريعاً!
قهقهت إيليف و بادلت والدتها القبلة بعدها عادت دفنة إلى السيارة و هي تلوح بيدها مودعة صغيرتها لتبدأ رحلة أخرى من حياتها.
................................................
نظر صاحب الشعر البني على ذلك الملف البرتقالي القابع أمامه فلم يفهم من بداية الأمر أي شيء و لم يلمح أبداً لسبب زيارة الرجل المفاجئة.
في الحقيقة ما كان يتوقعه في البداية عندما رآه في مكتبه أنه سيتحدث عن ما تحدثا عنه من يومين و لكنه لم يفعل و عوضاً عن ذلك وضع ملف برتقالي اللون أمامه و طلب منه أن يفتحه.
- ما هذا؟
و لأن الفضول أصابه فأراد الاستفسار عن محتوى ذلك الملف قبل فتحه حتى.
أراد عمر أن يتركه ليرى محتواه بنفسه دون حرق المفاجأة فانتظر بعض الوقت ليشاهد رد فعله و هو ينظر إلى التصاميم و كما توقع حين وثق بمهارته لأن سنان قد انبهر و ذهل من طريقة الرسم فقرر أن يفجر القنبلة التي بالتأكيد ستصيب سنان بصدمة حقيقية.
- إنها المجموعة الجديدة... رسمتها ليلة البارحة.
صوته دخل إلى أذنه و لكنه لم يستوعب بعض الكلمات فراح يقلب الصفحات مراراً و تكراراً يحاول التأكد من أنه لا يحلم و أن ما يراه حقيقة.
- البارحة! فقط؟!
و حين تذكر كلام السينيور بالمدة التي استغرقها ليرسم مثل هذه التحفة الفنية رفع رأسه و راح ينظر له بعيون متسعة للغاية.
فتكلم عمر بكل هدوء ينظر على السماء الصافية من النافذة الزجاجية بكل هدوء و سكينة.
- نعم....
حملق به لعدة دقائق لا يصدق ما سمعه أبداً.
ذاك الرجل... ذاك الأسطورة في مرحلة بعيدة تماماً عن أي مصمم موجود في تركيا و موهبته تلك مرعبة للغاية و قد تدفن دفنة توبال و ترامبا أيضاً.
و لكن لحظة، لما عاد إلى الرسم؟ لما يريه رسمه في الأساس؟ هل يغيظه مثلاً و يخبره بأنه سيدفنه و يدفن باسيونيس بهذه التصاميم حين يفتح شركته الخاصة؟!
لا عمر ليس من هذا النوع... إذاً، قد بقي تفسير واحد يفسر سبب وجوده هنا.
- ماذا... ماذا يعني... هذا؟
رفع الرجل ناظره ببطء و نظر له بتلك النظرات الباردة التي رآها للمرة الثانية إلى الآن.
إذا كان ما يظنه صحيح، عليه أن يعتاد على تلك النظرات التي لا مفر منها.
- نعم.... أنا عائد إلى باسيونيس.
حدق به سنان بعيونٍ واسعة و ملامح متجمدة و قد غادر الهواء رئتيه و توقف تنفسه للحظات.
نعم، هو يحلم.
بالتأكيد هو يحلم بعودة صديقه إلى الشركة.
فلم يستوعب ما يقول و حدق به بتلك البلاهة فوقعت عيون السينيور على الملف الأبيض الذي يجاور الملف البرتقالي على المكتب.
حدق به لبضع ثواني يحاول أن يتذكر ليلة البارحة بما فيها من قرارات مهمة ستغير مجرى حياته.
يحاول تذكير نفسه بما رأى و ما سمع حتى يمنع نفسه من الرجوع في تلك القرارات.
و عندما تأكد تأكد كلي من أنه سيفعل ذلك و لن يندم عليه أبداً رفع عينيه الميتة و الباردة كالثلج إلى سنان ثم تكلم بنبرة ميتة و قال:
- يمكنك الآن... ارجاع الملف لصاحبته.
كان يعرف صاحبة الملف.
هو يخبره بأن يعيد الملف لصاحبته.
هل يعي ما يقول؟
هل يعي سنان ما يحدث حتى؟
حملق سنان بشريكه لثواني بينما تدفقت ذكريات مضت عليها ثلاث سنوات إلى داخل عقله بدون سابق إنذار لتبدأ في تعذيبه و إيقاظ ضميره الحي.
****************************
كان يجلس على الكرسي يقرأ في الجريدة آخر أخبار عن فشل باسيونيس الذريع في آخر مجموعة لهم.
كانت المجموعة مريعة بدرجة كبيرة و لكن كانت أفضل من أي مجموعة عرضت من المجاميع التي عرضت عليه لكي تحل محلها في العرض.
قل سعر الأحذية الخاصة بباسيونيس في الآونة الأخيرة و أصبحت سلعة رخيصة جداً و رغم كل هذا لم تستطع باسيونيس تعويض التالف من الشركة و تعويض الخسائر.
فاحتضرت الشركة و انخفض مستواها بدرجة كبيرة و اصبحت على مشارف الإفلاس و الآن بعد الفشل الذريع الذي تعرضت له ليلة البارحة يمكنكم أن تقولوا الآن أن باسيونيس ستعلن إفلاسها في الأيام القليلة القادمة.
في الحقيقة صمدت الشركة لسنة كاملة و قد أدت وظيفتها على نحوٍ جيد بدون عمر و لكن يظن سنان أنه هو السبب الذي جعلها بهذا الشكل و هو من فرط فيها لهذه الدرجة إلى أن أصبحت بهذا الشكل و لن يقوم بلوم إلا نفسه لأن لا ذنب لأحد فيما ارتكبه هو.
و ها هو يجلس خلف مكتبه يقرأ ما كتب عنه و عن شركته لكي تعطيه دفعة أكبر في القرار الذي انتوى على أخذه بدون تراجع فيه.
يجب عليه أن ينهيها و يصرح إفلاسها مهما كان الأمر صعباً عليه و يجرح قلبه و يؤلمه.
عليه أن يفعل هذا لأنه لم يعد يتحمل ذاك الحمل الثقيل وحيداً بعد ما تركه الجميع و رحلوا.
طرق الباب جعله يستفيق من غيبوبته التي امتلأت بالمآسي و الآلام فوجه رأسه بأكملها ناحية الباب و أذن لذلك المجهول بالدخول ليتفاجأ بأنه لم يكن شخصاً عادي بل كانت دفنة... دفنة توبال!
نهض سنان من مكانه بتوتر و راح يتساءل بداخله ما أحضرها إلى المكان الذي يحرق روحها بهذا القدر فارتسم الاندهاش على وجهه و راح يحدق بها بصمت غير مستوعب وجودها هنا في الأساس.
نظرت دفنة له بعيونها الباردة التي أصبحت تلازمها موخراً و لكن لم يخل على سنان ملاحظة تلك اللمعة التي كانت تكسوا تلك العيون البنية و رغم أنه لا يعرف ما سببها توقع أن تكون بسبب الملاك الصغير الذي أصبح جزءً لا يتجزأ من حياتها.
و في تلك اللحظة شعر برغبة عارمة في سؤالها عن ابنتها الصغيرة التي ولدت منذ وقت ليس بالبعيد و لكن شعر بالخجل في نفس الوقت لأنه لم يزرها في المشفى مع نجمي.
- دفنة... أهلاً بك... تفضلي.
أغلقت الفتاة باب المكتب من خلفها و وقفت كالصنم لا تعرف ما تفعله و لا كيف تتصرف.
- تفضلي و اجلسي... انتظري سأطلب القهوة...
- لا أريد، شكراً لك.
جلست الفتاة على الأريكة و هي تحدق بالأرض في صمت فزاد ذلك من شكوك الرجل و زادت تساؤلاته أيضاً و لكنه جلس بهدوء و راح يراقبها.
بعد ثواني من الصمت العارم قرر سنان الاعتذار عن عدم تشجعه و الذهاب إليها للزيارة حتى لو كانت غاضبة و حزينة بسببهم.
- لقد سمعت أنك أنجبت... مبارك لك و....
رفعت الفتاة رأسها لتنظر له مهتمية بمعرفة باقي كلامه من بعد حرف الواو.
-.... أنا آسف لأني لم أستطع أن أزورك و لكن...
- لا بأس.
قاطعته دفنة بعزم لأنها تعبت من كثرة سماع الأعذار و الاعتذارات المتكررة التي لم تهمها بأي شيء لأنها لم تكن يوماً غاضبة بتلك الدرجة التي كانوا يتصوروها و لكن هي فقط كانت حزينة و مهمومة بسبب مرض ابنتها المجهول و الذي بسببه نصحها الأطباء بإجهاضها و قتلها و عدم منحها الفرصة لتعيش.
نظر لها سنان لبضع دقائق و هي صامتة يحاول استكشاف سبب وجودها في هذا المكان و عندما لم يستطع أن يكتشف هذا بنفسه قال بكل سخرية و هو يعي أن ما يقوله ليس إلا مزحة سخيفة.
- إذاً.... هل قررت العمل مع باسيونيس؟
- لا في الحقيقة و لكن، أستطيع مساعدتك...
و لتقتصر على نفسها المقدمات و الكثير من الكلام الذي سيخنقها و يضايقها فتحت حقيبتها و أخرجت منها ملف ثم قدمته للرجل فاستغرب الرجل ما تقدمه له و قدم يده ببطء لينتشل ذلك الملف من يدها ليفتحه و ينظر فيه.
تفاجأ الرجل بما رآه فكانت عبارة عن رسومات أحذية غاية في الروعة و الجمال فراح يقلب الصفحات يشاهد المجموعة الكاملة كلها ثم رفع رأسه لينظر لدفنة بدهشة و عدم استيعاب بأن قدرتها في الرسم قد وصلت إلى هذا الحد من الجمال و المهارة و لكن لم تخرج الكلمات من جوفه فقررت دفنة أن تتحدث نيابةً عنه.
- هذه المجموعة رسمتها لباسيونيس و سأفعل مع كل مجموعة... آمل أن تنجح و تنتشل باسيونيس من الإفلاس.
شوشت عقله و ألزمته مكانه و ربطت لسانه بكلامها.
ماذا يحدث؟
لماذا تفعل هذه الفتاة هذا الشيء؟
إنه يحلم أليس كذلك؟
أصبح الرجل يقلب الكلام في داخل عقله يميناً و يساراً لا يعرف كيف عليه أن يبدي رد الفعل و لكن عندما ظهرت صورة مالك الشركة التي تعمل لها خاف عليها من شره و راح يحذرها منه.
- ماذا تقولين دفنة؟ أنت عاملة لدى ترامبا، ترامبا ليس سهلاً و قد يقوم بأذيتك بأي شكلٍ كان!
كانت تفتح النيران على نفسها بتقديمها هذه القنبلة لباسيونيس و رغم رغبة سنان الشديدة بالطيران إلى الإنتاج و الملف في يده من أجل أن يبدأوا العمل على المجموعة الجديدة لم يكن يريدها أن تتأذى بأي شكل كان.
- أنا لم أوقع مع ترامبا أي بند يمنعني من أن أرسم لأي شركة أخرى... لن يستطيع دينيز بأن يمنعني بفعل ما أريده حتى لو لم يحب ذلك.
فسرت له دفنة مقصدها و لكن قلبه لم يرتح و لم يزل الشك منه فراح يفكر في سبب واحد يجعل دفنة تفعل هذا من أجل باسيونيس بعد رحيل عمر من البلاد.
- مهما كان ما تقولينه... كيف لي أن أقبل بهذا الشيء؟! و فوق كل هذا تقولين أنك سترسمي لباسيونيس في كل مرة! كيف هذا؟!
نظرت له قليلاً تستعيد ذكريات السنة الماضية و ذكريات وجودها في باسيونيس و لا تنكر أبداً أنها كانت مرتاحة للغاية في هذه الشركة و لو عاد بها الزمن لما كانت عملت في شركة أخرى غيرها و هذا بالطبع إذا كان في عدم وجود عمر و سيختلف الحديث إذا تكلمنا عن عمر.
- أنا مدينة لباسيونيس بكثير من الأشياء سيد سنان...
قولها مدينة ذكره بأن باسيونيس كانت عبارة عن باب الجنة بالنسبة لدفنة عندما فتحت لها أبواب التصميم و كان لها الفضل الأول في تعلمها التصميم و لكن هل هذا سبب مقنع لتعود بقدميها إلى هنا؟
- ما أفعله هو مجرد رد دين بسيط مما علي...
كانت متواضعة بدرجة كبيرة و دائماً ما كانت تبهر سنان بتواضعها في الماضي و لكن لم تكتفي دفنة بهذا بل زادت جرعة تواضعها أكثر.
- أنا لا أتفاخر بنفسي و لا بموهبتي و لكن... أنا أعرف أن الجميع يقدرون موهبتي و يتمنون العمل معي لهذا... سأفعل المستحيل كي لا تفلس باسيونيس!
و بهذا أخذ سنان الملف و قام بعودة جديدة لباسيونيس و عادت للإزدهار مرة أخرى بعدما كان على وشك الإصراح بإفلاسها و كل الفضل يعود لدفنة.
و أيضاً كان الرجل في غاية الحذر من أن تصب باسيونيس مصيبة من مصائب ترامبا و لكن لم يحدث ذلك فماذا كان السبب يا ترى ؟
*************************
أراد سنان أن يعترض و يخبره بأنه لا يستطيع أن يفعل هذا بدفنة و لا يستطيع أن يرجع لها تصاميمها بكل تلك البساطة و لكنه قلبه الفرح بعودة السينيور... خانه.
قلبه الذي نبض فرحاً لعودة السينيور إيبليكشي إلى البلاد هو نفسه القلب الذي نبض فرحاً لرؤيته يجلس على ذاك الكرسي بعد أربع سنوات من الفراق يخبره بعودته إلى الشركة.
حتى لو لم تنتهي تلك الخصومة هو سعيد لمجيئه إلى هنا و يعرف أنها ستنتهي عاجلاً أم آجلاً طالما كان هنا قريباً منه و يتحادثان.
فلما لا يستغل الفرصة للقيام بذلك.
لما لا يصبح أنانياً لهذه المرة فقط و يختار عمر و عودته إلى الشركة.
في الحقيقة حتى لو كان رسم و تصاميم دفنة أروع مما رسمه عمر لكان اختاره أيضاً.
و لكن الآن، رسمه و تصاميمه أروع مما رسمت دفنة و هذه حجة أخرى لاختياره السينيور فبرسومه الرائعة ستنهض الشركة لتعود لمكانتها القديمة و تدفن جميع الماركات الأخرى!!
يظن أنه لا يجب أن يلومه أحد على اختياره خصوصاً و أن دفنة أخذت مالاً مقابل ذاك الملف و هو حر يفعل ما يريده في رسوماته... يمزقها أو يحرقها أو يتركها لتندفن تحت التراب، أليس هذا من حقه؟!
غوا عمر سنان ببضع كلمات فكان يعلم أن ذلك الرجل القابع خلف مكتبه ينتظر تلك الكلمات بفارغ الصبر و استغل مشاعره الفياضة في التحكم فيه فرضخ الرجل لرغبة شريكه و أخفى الملف الأبيض الخاص بشركة ستيل داخل درج مكتبه ليبقي الملف الآخر على المكتب من أجل صناعة و إزدهار الأحذية المرسومة بداخله.
ثم بلغ الجميع ببدء الإنتاج.......
................................................
حدقت بمكتبها البني مطولاً و راحت تتذكر ذكريات ليلة البارحة و تسردها على نفسها الواحدة تلو الأخرى تحاول استيعاب ما حدث و الذي إلى الآن لم تستدرك الأمور التي حدثت كلها.
و ما أرادته فقط هو استيعاب الأمر ليس إلا و لم ترد أبداً أن تؤلم نفسها بتذكر معاناتها المؤلمة و المتعبة.
و لكن تلك الفرصة لم تترك لها حتى لأن المزيد من الإزعاج قد زار غرفتها و قاطعها عن مهمة التفكير.
- حطمنا الأرقام القياسية دفنة. هل رأيت الأخبار ماذا تقول عنا؟!
دخلت ذات الشعر البني ممسكة بالكمبيوتر اللوحي بين يديها و على وجهها ابتسامة متسعة من الأذن للأذن لشدة سعادتها بما رأت من أخبار كتبتها الصحافة على عرض ليلة البارحة.
فنظرت لها دفنة بدون أي رد فعل و رسم البرود على وجهها بدقة لا تستطيع التصنع خاصةً و هي متعبة بهذا القدر.
- أنا المصور ذو الدهاء العالي بالطبع سأحقق لشركتي الأرقام القياسية!
و ما زاد الوضع سوءً هو دخول المصور كوراي إلى الغرفة لجعلها تصاب بالصداع و تتمنى أن ينتهي من كلامه سريعاً.
- انظري هنا دفنة... اقرئي هنا ما كتب!
كان عليها أن تحتمل كل ما يحدث حولها فنظرت لما تشير إليه سيدا و في الحقيقة لم تعي ما رأته و لكنها أومأت برأسها بعلامة الرضا كي لا تحرج المرأة التي أمامها و لكنها لم تستطع التصنع و إخفاء تلك الملامح الباردة و الحزينة التي كست ذلك الوجه الشاحب.
- هل أنت بخير؟
لم تستطع أن تجاوبها و تخبرها بأنها بخير لأنها حينها ستكون كاذبة و لكن حين أتت إلى نفي ذاك السؤال وجدت أنها ستغوص في بحر الأسئلة و لن تعرف كيف تجاوب أحد تلك الأسئلة فقررت أن تلجأ للكذب عوضاً عن قول الحقيقة هذه المرة فربما تقتنع هي الأخرى بذلك.
فأومأت برأسها مجدداً ببساطة و لكن ذلك لم يخل على شريكتها و استنتجت سيدا السبب وحدها دون اللجوء للأسئلة.
- يبدو أنك تعانين من تداعيات ليلة البارحة، طالما أنت متعبة بهذا القدر لما أتيت اليوم؟
- أنا بخير حقاً.
لنقل أنها صدقتها لأنها كانت في الحقيقة أكثر انشغالاً بقراءة التعليقات على الأحذية و العرض الخيالي.
أما كوراي فكان منشغلاً بالحديث عن نفسه و عن دهائه الذي لا مثيل له و دفنة كانت تسمع أحاديثهما و كانت تشعر بأن قلبها يتمزق.
تدفقت الذكريات الأليمة من عقلها الباطن لتذكرها بكل العبرات التي ذرفتها و كل الآهات التي استنجدت بها و كل الآلام التي عانتها و مزقت قلبها و أتعبت روحها.
ذكرى طرده لها من منزله...
ذكرى طرده لها من منزلها...
ذكرى طلاقهما....
ذكرى عدم مجيئه....
ذكرى معاناتها في الحمل.... وحيدة....
ذكرى معاناتها في الولادة....!
لم تنسى، لم تنسى أبداً و لم تتعافى!
و مازال الألم حياً كسابق عهده!
نهضت من على كرسيها فجأة حينها شهقت بقوة تشعر بالاختناق و عدم قدرتها على التنفس.
و لكن لم تكن فقط من كان غير طبيعي لأن الاثنين قد توقفا عن ما يفعلانه حين لاحظا نهوضها المفاجئ فنظرا لها بدهشة و ذهول.
كانت سيدا الأقرب إليها و ما رسم على وجهها المتعرق حينها ثبتها في مكانها و لم تستطع أن تعلق على ما تفعله.
أما كوراي كان يقف بعيداً عنها فعقد حاجبيه و تكلم بغضب.
- ماذا هناك يا فتاة؟ لقد قاطعتيني في أكثر جزء حماسي.
- دفنة هل أنت بخير؟
- سأذهب لاستنشق بعض الهواء.
تحركت دفنة إلى خارج مكتبها تتبعها زوجين من العيون أحدهما قلقة و الأخرى تنظر بفضول محاولةً استنتاج ما حدث معها. و لكن لم ترى أياً منهما و اتجهت إلى خارج غرفة عملها متجهة إلى المصعد و فور دخولها إليه داست على زر الصعود إلى سطح المبنى و عندما خرجت منه اتجهت إلى السور و استندت عليه لتطلق من جوفها زفيراً مرتجفاً يملؤه الخوف و الحزن الانكسار و الهزيمة.
كانت عينيها موجهة توجيهاً كلياً إلى الشارع و لكن لا ترى أي شيء فيه لأن عقلها كان قد سافر إلى البعيد مجدداً.
سافر إلى سنوات مضت، سنوات من الوحدة و المعاناة... سنوات من الاشتياق و ألم الفراق.
لم تستطع الفتاة أن تشعر بأي شيء حين تدفقت ذكراه و صوره إلى عقلها حتى خانتها عبرتها الساقطة من عينيها لترتطم بالسطح الناعم بوجنتيها نزولاً إلى ذاك السور الحديدي و تلتها الدموع بعدها الواحدة تلو الأخرى.
حتى انفجرت في بكاء لم تجرب مثيله منذ مدة.
و قد خانتها ركبتاها و وقعت على سطح الأرض الخشن و راحت تبكي كطفلٍ تائه عن والدته.

Aşk acısıحيث تعيش القصص. اكتشف الآن