أسود: عزاء النفوس

801 49 18
                                    


لا تهم الروح إن كانت حزينة أو مبتئسة، العالم لن يبادلها البكاء ولن يبتسم في وجهها، ستجد روحك وحيدة تئن عند الزاوية، هل تستطيع حينها الخروج من هذا السجن الكئيب وحدك؟

بعد أن انتهى الصراع بذهني رحت أتساءل: ما الذي حدث؟
كان لا بد للأمر أن يكون هكذا، كان لا بد لنهاية ما أن تسطر، إنني هنا! في زاوية المنزل وحيدة تصرخ بوجهي كل الجدران.

همست شفتاي في يأس:
-بدأت أشتاقكِ يا أمي منذ الآن!
ولجمت الدمع قبل أن يتكاثر بمقلتيّ، كفى! كفى بكاءً يا نفسي كفى حسرات!
إن الاعتياد على المنزل الكئيب الموحش صعب، فكيف أنسى وجه أمي والجدران معبأة بالصور؟ كيف أنسى وجودها وطيفها يتجول بين الغرف؟ بل كيف أنسى صوتها وهي تهمس عند أذني كلمات المواساة؟
وأية مواساة وأنا أدري أن كل الكلمات لا معنى لها ولا جدوى.

قمت من مكاني مبعثرة الكيان، نسيت كيف كنتُ قبل أن يجتث الزمان من صدري أمي بلا رفق، نسيت كيف أعيش وكيف يتنفس الإنسان بعد الفقد، بعد الهجران، نسيت كيف تكون الأمنيات، نسيت ما هي الأحلام، نسيت ما هو جميل وعظيم وما يبعث على المسرات، ألا عودي يا أمي فابنتكِ نسيت ما هي الحياة.
تجولت بين رفوف المنزل أقرأ الشرفات كما لو أنني نسيت بأي زمان كنت وعقلي يرفض الاستماع ويرفض العودة للواقع، ما الذي يحتاجه الإنسان كي يعيش؟ تساءلت وللآن لم أجد الجواب.
أشعر بالمرض، لا بد للإنسان أن يشعر، أليست هذه هي قاعدة الحياة؟ أشعر بالخواء، قلبي يرقص في كياني الفارغ يترامى كما الموج في البحر.

بعدها قررت أن أستيقظ، أليس الموت واحدًا لكل الناس؟ هذا دور أمي في الراحة، من أنا لأحرمها منها؟ فلأعش في شوارع الحياة أتقلب ولتمت رغباتي ولتنطحن بين براثنها، فلتنغرز شوكة الآلام في قلبي سأبكي ولتعش المشاعر في الأرجاء ولتمت كل الأحلام في عيني ولتنطفئ كما تخمد النيران، أليست هذه هي الحياة؟ إذن فلنعشها على أصولها!

-أريد الاستحمام.
يقولون أن الاستحمام بالماء البارد يجعل الإنسان يشعر بالراحة، غمرت نفسي بالمياه الباردة وشعرت بالحياة تسلب من جديد، شعرت بالأنفاس تتقطع في صدري، شعرت بالموت يلمسني ويلوح بعدها من بعيد، ثم خرجت من حوض الاستحمام مزرقة الشفاه، ألقيت نظرة على نفسي بالمرآة فرأيت تلك الفتاة التي نشاهدها على شاشة التلفاز، تلك الفتاة التي تخرج من البئر حتى تقتل الناس ولكن الأمر هنا أنني أقتل نفسي لا غير.

جربت الابتسام في المرآة، ألا يقولون أن الابتسام في الصباح يمنحك طاقة إيجابية طيلة النهار؟ لكن ما بالي أرى انعكاس وجه متشنج وابتسامة مريضة؟ مثل هذه الابتسامات تجعل للمرء دافعًا للانتحار.

ارتديت ثيابي مستعدة للعودة إلى الدراسة بعد غياب ثلاثة أسابيع، بدأت أبحث عن جواربي وبئسًا لها تختفي في الوقت غير المناسب فصرخت منادية أمي:
-أمي! أين...
أينكِ؟
ابتلعت الغصة في حلقي بصعوبة ثم تنهدت زافرة ما قبع طويلًا بصدري ثم بحثت مجددًا في الخزانة عليّ أجد فردتيّ الجوارب، وبينما أنا كذلك رن هاتفي الذي كدت أنسى أنني أقتني واحدًا بالفعل وقد كان منبهًا لاقتراب موعد وصول الحافلة المدرسية، خرجت من المنزل وكنت أركض بالفعل حتى لا أتأخر عن أول يوم للجامعة دون أمي.

خفقان زهر.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن