الفصل الثالث

70 0 0
                                    



" صوفيا "

جلست على احد المقاعد الفارغة في فناء المشفى وباشرت بحثي بمتصفح الانترنت عن شقة قريبة من المشفى فيجدر بي ان اجد مكاناً مناسباً للعيش وليس بمقدوري الهرب كالسابق .
عندما وجدت غايتي وحجزت لشهر في احد الفنادق اغلقت الهاتف وانا اغوص ببحر من التفكير، كيف ساعمل مع اولئك الجراحين الذين يحملون علي ضغينة وكانني عدوتهم ام كيف ساتمكن من المقاومة والبقاء صامدة رغم اختناقي بالذكريات ام كيف سيمضي هذا الشهر ؟
والكثير من الاسئلة استمرت في التدفق لذا شعرت برغبة شديدة في السير لعلي اتخلص من هذا القلق فعندما أُلهي نفسي بالحركة اغفل عن التفكير هذه هي الطريقة التي اتبعتها منذ زمن ولا ازال اتبعها رغم ان مفعولها يضعف شيئاً فشيئاً، في الحقيقة لا اعلم ان كنت متمسكة بها لكونها تخلصني من القلق كما ادعي ام لانها ذكرى منه ؟ وكم هذا غريب ! اتمسك بذكرياته وارغب بنسيانه...
كنت اسير في الفناء ذهاباً واياباً، لم ادرك ان الوقت يمضي بسرعة مضاعفة عند التفكير حيث وردني اتصال من الممرضة سوزان تخبرني بضرورة تواجدي في غرفة الاستراحة وان الاطباء منزعجين لاختفائي المفاجئ فكان يجدر بي التحدث معهم مباشرة بعد الاجتماع ،اخبرتها بانني ساتي باسرع مايمكن وعندما اغلقت الهاتف رأيت الساعة كانت في الثانية عشر وعشرون دقيقة, حدثت نفسي باندهاش كبير" كيف مضى كل هذا الوقت ! ".
دخلت الى غرفة الاستراحة ووجدت الجراحين مستائين مني كالعادة اعتذرت منهم عند دخولي مباشرة وهم بالمقابل وبخوني على تاخري واهمالي وعدم مسؤليتي وتقصيري في العمل وبعد ان انتهوا من ذلك قال الطبيب عادل بصوت غليض في اثناء خروجه من الغرفة :
_اتبعيني
تبعته وانا في تردد فلا اعلم الى اين سياخذني او ماينوي فعله بي ؟
رجلاً في الستين من عمره لايعاقب او يتصرف بطفولية ، هكذا اقنعت نفسي وبالفعل هكذا تطمأنت.
فوجئت عند دخولنا لمكتب الرئيس حتى ان الرئيس بدأ عليه التعجب ايضاً , توجه الطبيب عادل الى المقعد وجلس بعدما قال ببرود يخالف سجيته :
_ اريد ضمها الى فريقي الطبي
_ ( رفع الرئيس حاجباه باندهاش وقال مكرراً ماسمعه ) تريد ان تعمل الطبيبة صوفيا معك !
_ نعم
_ لماذا ؟
_ لارى ما مدى صحة قرارك
_ بالتوفيق اذاً.
خرجنا من الغرفة ولايزال الحوار الصغير الذي جرى فيها عالقاً في ذهني ، لا اعلم كيف ساعمل مع الطبيب عادل !
شعرت بمشاعره التي يكنها علي من بغض وغضب في كل اجتماع لكن بدا لي وكانه شخص اخر! كما لو انه هدء بعد موجة من الغضب !
قال لي قبل ان يذهب " سيبدأ عملكِ من اليوم " لم يخبرني عن مواعيد العمليات الجراحية او اي شيء عدى تلك الجملة لذلك لم اكن اعلم مايجدر علي فعله سوى ان اكون مستعدة .
ذهبت الى غرفة الطعام لتناول الغداء , التقيت بهيلين هناك لذا استغرقنا في الحديث ونحن نتجه نحو احدى الطاولات الفارغة , عندما رغبت في الجلوس رأيت كمال يلوح لي وهو يتجه نحوي . قال بعد ان شاركنا الطاولة :
_ الم اخبركِ بانهم لن يعاقبوكِ
_ في الحقيقة بدا لي عقاباً
_ لا تسميه عقاب هذا فقط عق ( جزء من حروف كلمة عقاب )
_ ( ضحكت هيلين ومن ثم قالت ) انت جاد , لقد نقذكِ الله من العقاب  الحقيقي
_ ( قال كمال بتساؤل ) مع من ستعملين ؟
رن هاتفي وكان المتصل رقم مجهول لذلك اجبت على الهاتف قائلة:
_ من معي ؟
_(قال بصراخ كاد يثقب طبلة اذني) الم اخبرك بان عملك سيبدأ اليوم , اين انتِ الان ؟
_ ( قلت بتلعثم ) اتناول الطعام
_ اذهبي لتنظيف غرفة الجراحة رقم ٤ بسرعة
_ حسناً
بعد ان اغلقت الهاتف نظرت اليهم وقلت :
_ اعمل مع الطبيب عادل
_( قالت هيلين ) اوه حقاً...الطبيب عادل له شعبية في المشفى فهو ذو ايدي مباركة 
_ايدي مباركة !
_ عملياته التي نجحت بمقدار ٨٥٪
_( قال كمال ) رغم هذا كوني حذرة فالطبيب عادل ليس عادلاً كما يبدو فهو ينظر بدنو لمن هم اقل منه خبرة
_ ساتذكر ذلك ، علي الذهاب الان
_ ( قالت هيلين وهي تلوح الي ) وداعاً
_ ( قال كمال مبتسماً ) بالتوفيق .
كانت الدماء تملء غرفة الجراحة ؛ يبدو ان الشخص الذي اجريت له الجراحة تعرض الى نزيف حاد.
بدأت بجمع الادوات وتعقيم المكان ، كان عملاً شاقاً عكس توقعاتي...
دخل الطبيب عادل مع فريقه الطبي بعد ان احضروا  المريض ، قال لي بصرامة " اذهبي لتجهيز نفسك ستبدأ الجراحة بعد خمسون ثانية " اسرعت لتغيير ثيابي وتعقيم يدي وبعد ذلك دخلت الى غرفة الجراحة في الوقت المناسب.
بعد ان انتهت الجراحة وقبل ان يغادر الطبيب عادل حدثني قائلاً :
_ لاتنسي تعقيم الغرفة
_ عفواً ايها الطبيب لكن اهذا هو دوري في الفريق ؟
_ أتعارضين !
_ لم يكن لي اي دور في الجراحة ؟
_ انتِ متدربة ولستِ جراحة
_ المتدرب يمارس العمل كي يتقنه
_ ستمارسيه بالمراقبة فقط ، ( اشار الى السرير الذي اجريت عليه العملية الجراحية وقال ) طهري المكان وتخلصي من هذه الفوضى باسرع وقت .
خرج الطبيب وتبعه فريقه الطبي ، طبطبت احدى الطبيبات على ظهري قبل خروجها وقالت بابتسامة " اهلاً بك معنا ".
وقفت انظر لتلك الفوضى بضجر ، كنت محطمة بعض الشيء فيبدو ان الطبيب عادل لاينوي تدريبي كما توقعت.
ذهبت الى غرفة الاستراحة ، كانت تعج بالاطباء والممرضين لذا فضلت الانسحاب لتجنب النظرات والاسئلة التي ستوجه الي لكن لم اتمكن من ملاحقة الوضع فقد استوقفاني شخصان احدهما بدأ وكانه صبغ شعره منذ مدة قصيرة فلونه لا يزال مشرق جداً والاخر كان يحتسي القهوة ، حدثني ذو الشعر الاشقر :
_ أأنتِ المتدربة التي ارسلت من مشفى جلين_اجيلز
_ نعم
_ ينتابني الفضول حول المشفى ، حدثينا عنه
_( قال الشخص الاخر بعد ان اخذ رشفة من القهوة ) الم تزره ! انه من ابرز مستشفيات العاصمة ، ذو شعبية كبيرة حتى ان اغلب اطباءه من جنسيات مختلفة ( اشار الي بقهوته وهو يقول ) اليس كذلك ؟
_ ( اجبته ) يوجد اطباء غير ماليزيين ولكنهم لايشكلون الاغلبية كما ذكرت
_ ( قال باستغراب ) حقاً
_ ( اجبته قائلة ) اجل ( ثم وجهت نظري لذي الشعر الاشقر وقلت ) هو مشفى كبير بالفعل ويتوفر به ١١٠ اخصائي مقيم .
التفتت ممرضتان كانتا بجوارنا ، شاركونا الحديث قائلتا:
_ اتتحدثون عن مشفى جلين_اجيلز ؟
_ مشفى كوالامبور ؟ هل انا محقة
_ ياللهي أكنتِ تعيشين في كوالامبور!
_( اجبتهم ) نعم
_ لابد ان حياتك كانت ممتعة فكوالامبور هي جنة ماليزيا  
_ ( جاملتها بابتسامة خفيفة وانا اقول ) اجل ، جداً...
غادرت بصعوبة بعد ان استمرت اسئلتهم في التدفق وحواراتهم لم تتوقف مطلقاً ؛ كانوا يربطون الحديث كسلسلة وبالكاد تمكنت من قطعها.
رغبت باستنشاق هواءاً لايحمل رائحة المستشفيات لذلك خرجت الى الحديقة الامامية للمشفى وجلست على احد مقاعدها اراقب المارين ، اناس وجوهم شاحبة مرهقين يبكون على حين غفلة ، مرضى في كل مكان ، ابتسامات مزيفة ترتسم على وجوه الاهالي .  حاولت الخروج من دائرة هذا الجو الحزين ؛ فتحت هاتفي وكتبت بمحرك البحث اسم المدرسة الثانوية ، ظهرت الصور وبدأت بتصفحها ، انقبض قلبي عند رؤيته -ادركت انني دخلت الى نواة تلك الدائرة - لامست وجهه باصابعي المرتجفة  كان قلبي متلهفاً له فقد مر الكثير وكدت انسى ملامحه.
ابتلت شاشة الهاتف بدموعي الهاربة  لذا مررت يدي لمسحها ، اطلت النظر رغم تشوش رؤيتي من فرط البكاء ، تساءلت في سري : اين هو الان ؟ ايعقل انه لايزال في بينانق ! ايجدر بي الذهاب لرؤيته ؟
وبخت نفسي قائلة " ما الذي افكر به لم اعد زوجته " مسحت دموعي وانا اتنهد " تمنى عدم رؤيتي "
دخلت الى المشفى من جديد واول ما تفقدته هو غرفة المرضى فهناك مشاعر تربطك بالمريض وكانك تعالج نفسك ، في اثناء سيري التقيت بسوزان ، حدثتني قائلة بابتسامة :
_ الفتاة المشهورة
_ نعم
_ لديك جراحة مع الطبيب عادل في الساعة الثامنة مسائاً
_ في اي غرفة تتم الجراحة ؟
_غرفة رقم ٢
_ حسناً .
اوقفت سيارة اجرة واخبرت السائق ان يقلني الى فندق (رايافادي كرابي )
قال وملامح التعجب تملئ وجهه
_ لايوجد فندق بهذا الاسم ؟
_ يبدو انك لاتعرفه ، الفندق في طريق الخلفي للمشفى
_ صدقيني لا يوجد فندق كهذا في هذه المنطقة
_ رأيت شكل الغرف وحجزت به لشهر ... ان كنت لا تعرفه فانزلني ارجوك ساؤجر سيارة اخرى
_ كما ترغبين
وقفت العديد من السيارات وسألتهم وكان جوابهم واحد ( لايوجد هكذا فندق )  لا اعلم مالذي افعله حيال هذا الامر ولما لاتوجد شعبيه لهذا الفندق ؟
دخلت الى المشفى للبحث عن كمال ؛ اعتقد انه ملم بمثل هذه الامور ، سألت احدى الممرضات واخبرتني انها رأته في قسم الطوارئ لذا توجهت الى هناك ، عند وصولي وجدت فوضى تعم القسم فوق المعتاد ، كانت فوضى كبيرة لم اشاهد مثيل لها من قبل ، الصحفيون متجمهرون امام البوابة والشرطة تحدث الاطباء بالاضافة الى الكم الهائل من الاشخاص ذوي الازياء الرسمية  كما لو انهم حراس شخصيين !
كنت ابحث عن سبب هذه الفوضى غير مكترثة لامري ،
لم اجد شخصاً متفرغاً  جميعهم كانوا مشغولين وفي تلك الاثناء مر من امامي احد الاطباء وهو يدفع سرير المريض ويضخ له الاوكسجين في اليد اليسرى وقف بعد ان رأني وقال وهو يؤشر على مكان النزيف :
_ اضغطي على مكان النزيف
_ ( هممت لتنفيذ ذلك محاولة ايقاف النزيف )
_ لننقله الى غرفة الجراحة رقم ٦ ، بسرعة
_ ( نظرت الى مصدر النزيف وقلت ) يبدو ان الكلى اليسرى لم تتاذى
_ ( قال بتعالي ) النزيف ناتج من تمزق الشريان الكلوي الايسر
( في اثناء تحرك المصعد رفع نظره ليقرأ اسمي المدون على مئزري الطبي وقال ) أأنتِ مبتدئة؟
_ ماذا !
_( ازاح يدي من على المريض وقال) ابتعدي بسرعة
_ ( عارضته قائلة ) ماذا تفعل ؟ 
_ (اسرع للخروج بعد توقف المصعد وهو يدفع السرير بيد ويضخ الاوكسجين باليد الاخرى كالسابق ، قال بصوت عالٍ في اثناء سيره ) لدينا حالة من قسم الطوارئ ، حادثة طعن نتائجها تمزق الشريان الكلوي الايسر، مستوى الدم قد انخفظ بسبب النزيف ، نبضات القلب غير منتظمة ، ليتوجه الفريق الطبي الى غرفة الجراحة رقم ٦.
عند خروجه من غرفة الجراحة وقفت قبالته وقلت :
_ في المصعد ، لماذا تصرفت على هذا النحو ؟
لم ينبس ببنت شفة اكتفى بالتحديق بي ثم انصرف...
الطبيب أمين
حدقت بها ورحلت  فيبدو انها لاتفهم شي بالطب وتتعالى فوق ذلك !
لحقتني الى المصعد ووقفت بجواري حاولت الا انظر لها وبشكل غير مقصود نظرت الى هاتفها عندما فتحته ، على مايبدو انها كانت تحدق بصورة لاحد الطلاب فقد اغلقت الهاتف دون ان تخرج من الصورة ؟ اهو اخاها ام عشيقها ؟ نفضت تلك التساؤلات من رأسي فما شأني بها !
وردها اتصال في المصعد وحسبما فهمت كان المتصل رئيسها ، كانت تتحدث بطلاقة مع الرئيس ومن المحال انه رئيس مشفانا ، أهي تعمل في مشفى اخر ؟ توجهت الى قسم الطوارئ وانا اتسائل حول امرها :
ايعقل انها توددت الى رئيسنا من اجل العمل ؟ ، اجبت نفسي قائلاً : ألذلك كانت تتعالى...!

اوتار حيث تعيش القصص. اكتشف الآن