قوام الصلاة بالدعاء
.٩١ إن أهمية التوجه في الصلاة تنبع أيضا من خلال ملاحظة تسمية الصلاة بهذا الاسم لغة، فإنها مأخوذة من الدعاء بحسب الاستعمال الأولي لها، فالصلاة الفاقدة للتوجه الدعائي وهو العمدة في الصلاة خالية من تحقق مبدا المعنى اللغوي فيها. والشاهد على ما قلناه آنفا هو :
قوله تعالى: ﴿و صل عليهم إن صلاتك سكن لهم﴾ حيث إنه بمعنى الدعاء والاستغفار لهم.
قوله تعالى: ﴿ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول﴾ فإنها بمعنى دعاء النبي ص لهم.
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾ فإنها بمعنى طلب الترحم والمباركة.
ورد في الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله) : ] إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطرا فليأكل ، وإن كان صائما فليصل [ أي يدعو لأرباب الطعام بالبركة.
القلوب في الصدور
.٩٢ كثر الحديث عن الإقبال في الصلاة، من خلال الكتب التي ألفت حول أسرار الصلاة قديما وحديثا، ولكن كلمة الفصل في كل ذلك، هو العمل على عمارة ما به تتم الصلاة الخاشعة، ألا وهو القلب الذي إذا ما عمي لم يبصر شيئا في الصلاة ليقبل عليه، وهو ما أشار إليه قوله تعالى:
﴿ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ ؛ فالبدن الفاقد لهذا القلب الحي لا يمكن أن يكون خاشعا، حيث إن الخشوع نوع معنى لا يصدر إلا من القلب، والبدن لا يكون إلا على هيئة الخاشعين.. وكم الفرق بين المادة والهيئة؟! وللشهيد الثاني (قدس سره) جملة مبينة لهذه الحقيقة حيث يقول في أسرار الصلاة : ] ولذلك شبه بعض العلماء القلب بالعرش، والصدر بالكرسي، وأراد به أنه مملكته والمجري الأول لتدبيره وتصرفه، فهما بالنسبة إليه كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله تعالى [ .
العناصر المترابطة
.٩٣ إن الشيطان يحوم على قلب ابن آدم في كل لحظة ليجد مدخلا فيه ـ وخاصة عند الصلاة ـ وهو ما يفهم من صيغة المضارع في قوله تعالى: ﴿يوسوس في صدور الناس﴾ ، و دفعه إنما يكون بالذكر ولكن بالمفهوم القرآني له، حيث يقول تعالى: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ ، وعليه فإن الذكر المبطل
لكيد الشيطان إنما هو من الذين اتقوا ونتيجته الإبصار ، وهذا هو السبب في أن بعضنا لا يرى أثرا في حياته للذكر ولو كان كثيرا، حيث إنه لم يعمل على إصلاح القابل أي النفس ليؤثر فيه الفاعل أي الذكر سواء في الصلاة أو غيرها. وقد نقل الشهيد الثاني (قدس سره): ] حتى أن بعض الأكابر، اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدثوا فيهما أنفسهم بأمور الدنيا، فعجزوا عن ذلك [ .توصية جامعة
.٩٤ إن من خير ما صنف في مجال الصلاة الخاشعة هو ما كتبه الشهيد الثاني (قدس سره) حيث ذكر ما يفهم منه أنه كان عاملا لما كتبه، ومن هنا ختمت حياته بالشهادة.. ،فذكر ببيان جامع طريقة دفع الخواطر قائلا: ] ولا يلهي عن الصلاة إلا الخواطر الواردة الشاغلة، فالدواء في إحضار القلب هو : دفع تلك الخواطر، ولا يدفع الشيء وإلا بدفع سببه، وسبب توارد الخواطر إما أن يكون : أمرا خارجا، أو أمرا في ذاته باطنا؛ أما الخارج فما يقرع السمع أو يظهر للبصر، فإن ذلك قد يخطف الهم حتى يتبعه ويتصرف فيه، ثم ينجر منه الفكر إلى غيره ويتسلسل، ويكون الإبصار سببا للأفكار، ثم تصير بعض تلك الأفكار سببا لبعضها الآخر، ومن قويت رتبته وعلت همته، لم يلهه ما يجري على حواسه، ولكن الضعيف لا بد أن يتفرق فكره .. فعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره، أو يصلي في بيت مظلم، أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه، أو يقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة ما يشغل بصره، ويحترز من الصلاة على الشوارع، وفي المواضع المنقوشة المصنوعة، وعلى الفرش المزينة، ولذلك كان المتعبدون يتعبدون في بيت صغير مظلم، سعته بقدر ما يمكن للصلاة فيه، ليكون ذلك أجمع للهم.
وينبغي أن لا يعدل إلى غمض العينين ما وجد السبيل إلى القيام بوظيفة النظر، وهي جعله قائما إلى موضع السجود، وغيره من الأمور المعلومة شرعا، فإن تعذر القيام بها مع فتحهما، فالغض أولى؛ لأن الفائت من وظيفة الصلاة وصفتها بتقسم الخاطر، أعظم منه مع الإخلال بوظيفة النظر [خداع النفس
.٩٥ إن بعضنا يظن أن التفكير في موجبات التوجه إلى الصلاة، والبحث في زوايا النفس أثناء الصلاة، لا ينافي الإقبال على الله تعالى، والحال أن الأمر ليس كذلك بالنظرة الدقيقة، من باب إن حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ إذ المطلوب ممن يريد الإقبال على الله تعالى بالمعنى الأتم، أن يجتاز مراحل التفكير والتأمل في المقتضيات والموانع، وذلك قبل الوقوف بين يديه، ولكنه عند التكبير فإنه يستصغر كل شيء ـ حتى نفسه التي بين جنبيه ؛ إذ العين التي فتحت على معاني الجلال والجمال الإلهي لا يمكن أن تنظر إلى ما دونه.
وبمثال بسيط يمكن استيعاب هذه الحقيقة وهو: إنه سار أحدهم على حبل ممدود بين جبلين شاهقين، وطلب منه السير عليه، وهو يعلم أن مجرد النظر إلى أسفل سيسقطه في الوادي السحيق، أو لا يكون حريصا أشد الحرص، على أن لا ينظر إلا إلى الأمام لئلا يزيع بصره ؟!.
الفعل القبيح
.٩٦ إن السير في طريق التكامل، يحتاج إلى حركة معاكسة لمقتضى الطبع الأولي، فإن الإنسان بطبعه يخلد إلى الأرض، ويود طريق غير ذات الشوكة.. ومن هنا فإن ترك الأمور على حالها لا يوجب الخلاص وإن تمنى صاحبه خلاف ذلك، ومن مصاديق ما ذكر هي الصلاة، فمن لم يعمل على إتقان صلاته قلبا وقالبا، فإنه سيبقى على ما كان معتادا عليه في أوائل تكليفه، وهو ما حذر منه الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه لحماد بن عيسى قائلا:] ما أقبح بالرجل منكم يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فلا يقيم صلاة واحدة بحدودها [
العجب الماحق
.٩٧ إن المصلي قد يوفق لصلاة خاشعة ولو بدرجة من الدرجات، ويسلم حينها من الرياء المبطل للعمل، ولكنه يبتلى لاحقا بالعجب الذي هو للخواص من العباد فخ من فخاخ ابليس، ذلك أن عامة الخلق ـ لقلة أعمالهم وعدم إتقانها ـ قد لا يجدون في أنفسهم موجبا لانقداح هذه الحالة في النفس، وعلاج هذه الحالة هو التفكر في أنه أين له ضمانة القبول أولا، وضمانة الاستمرار على هذا التوفيق ثانيا، وتدارك النقص فيما مضى ثالثا ؟!. وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله): ] قال الله عز و جل لداود عليه السلام يا داود بشر المذنبين ، و أنذر الصديقِين. قال : كيف أبشر المذنبين و أنذر الصديقين؟ قَالَ : يا داود ، بشر المذنبين أني أقبل التوبة و اعفو عن الذنب، وانذر الصديقين الا يعجبوا باعمالهم، فانه ليس عبد انصبه للحساب الا هلك [ وهنا ينبغي القول إن العجب بالعمل، أمر يغاير الابتهاج به، من جهة أن ما وفق له من الخير إنما هو بتمكين من الله تعالى وتسديد منه، فعاد إلى قوله تعالى: ﴿قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا﴾