الفصل الرابع عشر

4.8K 266 1
                                    

"أحمد"
كنت أسير خلفها ببطء دون أن تراني
لم أتوقع وأنا في طريقي لبيت "نور" أن أرى "دعاء" وهي تخرج
في هذا الوقت، لا بد أنها خرجت لأمر ضروري طارىء، لاحظت أنها
ّ ولجت إلى بناية تحوي الكثير من عيادات الأطباء، تفحصت اللافتات
المعلّقة على شرفات البناية بعيني، طبيب أطفال، وطبيب جراحة،
وآخر طبيب نساء وتوليد، وطبيب أسنان، والأخير طبيب نفسي
مشهور... ترى إلى أي عيادة تتوجه!
ّ تسارعت دقات قلبي وكأنني أصارع طواحين الهواء، ترى ما المرض
الذي تعاني منه وتبحث له عن علاج؟
وددت لو أن كل آلامها وأوجاعها تصب في جسدي، شعرت برجفة
وأنا أتخيلها تصرخ، وانقبض صدري وكأنني أرى دموعها أمامي، وخيّل
إلي أنني أستمع لأنّاتها الضعيفة تصدر من أعماق نفسي، واعتصر قلبي.
ّ
تأكّدت عندما تسللت خلفها دون أن تراني من أنها دلفت لعيادة
الدكتور "أيمن".
عدت لسيارتي حيث تركتها أمام بيت أختي، وقدتها حتى وصلت
مرة أخرى حيث صعدت "دعاء" ووقفت أنتظر..
خرجت من سيارتي ووقفت وقلبي يتآكل، والقلق ينهش أضلعي،
وقد بدأت كل هموم الدنيا تتراكم على صدري، خشيت أن تكون
في خطر، وتساءلت في نفسي عن سبب ترك "نور" و"جمال" لهالتذهب وحدها هكذا للطبيب!
وقفت أسترجع مواقفها معي، ووجدتني أصارع أفكاري، تارة ألوم
نفسي على استمراري في تعلّقي بها وتفكيري في الزواج منها وهي
ترفضني، وتارة أحاسب نفسي لعلّي لا أستحقها، أو لعلّها تستحق
زوجا أقرب لله مني، وربما هو اختبار من الله لي، يحرمني منها لكي
ا، وربما أنا لست كذلك!
ّ أفر ً إليه، فهي تطلب زوج ً ا صالحا تقيً
ّ كم أحن إلى لحظات الالتزام الأولى، تلك التي عشتها في آخر
ّ سنواتي بالجامعة، عندما كنت أرق خلقا وأخشع حتى أمي وقتها
لاحظت أن ملامحي قد تغيرت، أين هذا الشعور الآن؟
لماذا أشعر الآن بوحشة، ولم غابت عني حلاوة الإيمان؟، وما
ّ الذي يحجبني عن لذة الخشوع في صلاتي؟!
صرت أستمر في عباداتي وكأنني إنسان آلي مبرمج، أشعر أن
قلبي قد أصبح قاسيً ّ ا كالصخر الأصم، ولم يعد كما كان وأنا طالب
ّ جامعي، كان لدي حس وحماس، وطاقة تدفعني.
أيا أول أيام التزامي فلتعودي...
بعد ساعة وبينما أنا غارق في بحر من الذكريات، لا يقطع استرسالي
ّ فيه إلا صوت السيارات التي تمر من أمامي، خرجت "دعاء" من بوابة
البناية، أظنها فجعت عندما رأتني، وددت أن أهرول إليها، وأعتذر
أنني أفزعتها، وأسألها أن تشركني همها، لكنها أسرعت هاربة كهروب
الطيور عند اهتزاز الغصن الذي كانت تقف عليه فجأة، وابتعدت
ً وكأنها رأت شبحا.
كدت أنصرف، لكنني وقفت أراقبها من بعيد حتى اختفت، كادت
ّ عيناي تفر من محجريهما وتتبعاها لتطمئنا على وصولها إلى البيت،
ّ ثم صعدت إلى عيادة الدكتور "أيمن" وتوجهت إلى الآنسة التي
تجلس على مكتب أنيق في صالة الاستقبال بالعيادة، وسألتها عنالمريضة التي انصرفت الآن..
سألتني عن اسمها فعرفتها عندما أخبرتها بالاسم ووصفت لها
هيئتها وملابسها، وسريعا ما كست وجهها ابتسامة ذات معنى واضح
ّ وأنا أصف لون الحقيبة والحجاب أيضً ا بدقة شديدة، فشعرت بالحرج
الشديد،دفعت الموظفة المكتب بذراعيها وعادت بعجلات مقعدها
ّ الجلدي الأنيق للخلف ثم قامت بضغط زر ّ على الحائط فدق جرس
ّ يبدو أنه لاستدعاء شخص آخر، جاءت ممرضة كبيرة السن، متوسطة
الطول، بطيئة الخطوات، لها وجه مريح وبشوش، أشارت موظفة
الاستقبال إلي وهي تحدثها وقالت:
ّ
- الأستاذ يسأل عن الآنسة الّتي خرجت منذ قليل، ثم غمزت لها
بمكر وأدارت وجهها وهي تضحك..
ّ طالعتني الممرضة بنظرات ثاقبة، ثم قالت بعد أن هزت رأسها بثقة:
- الآنسة "دعاء"...هل تعرفها؟
وجدتني أجيبها بتردد وأنا أمسح جبهتي التي غطاها العرق:
- بيننا صلة قرابة، ووددت أن أطمئن عليها لأنني رأيتها تخرج من
هنا، أردت أن أساعدها إن كانت تحتاج إلى المساعدة
ّحر ً كت الممرضة رأسها يمين ً ا ويسارا ثم قالت: - بالطبع لن أخبرك
أي شيء عنها، هذه أسرار مرضى وحرمة مجلس وأمانة، ونحن لدينا
هنا نظام خاص وصارم في التعامل مع كل ما يخص المرضى. شعرت
بارتباك شديد، فقلقي عليها كاد يفقدني اتزاني، وقلت باندفاع وأنا
أخرج بطاقتي الشخصية:
- هذه بطاقتي الشخصية، أرجوك أريد فقط أن أطمئن عليها.
زفرت الممرضة بحنق وقالت:
- اسأل عنها أهلها بالبيت فلا شك أنهم يعلمون بزيارتها.
شعرت بيأس وأدركت أنني لن أحصل على أي معلومة منها، فقلت
ّ بهوان وأنا أدون رقمي على ورقة بيضاء صغيرة وجدتها على المكتب
فسحبتها وتناولت قلما بلا استئذان:
ّ - هذا رقم هاتفي، سجلوه في ملفها كأحد أقاربها، ولو احتاجت
الآنسة «دعاء» إلى أي شيء في أي وقت تكون فيه هنا لتتابع مرضها
ً أرجو منكم أن تتصلوا بي فورا..
تناولت الممرضة الورقة من يدي وطوتها بحذر، ثم دستها في
جيب معطفها الأبيض بعد أن طالعتها لوهلة لتقرأ اسمي وقالت
بصوت رتيب:
- اطمئن يا أستاذ «أحمد» ولا تقلق.
وخرجت من عيادة الطبيب وأنا في كرب شديد، وظللت أدور
بسيارتي بلا هدف أتنقل من شارع لآخر شاردا لا أسمع إلا صوتها
وهي تتألم ولا أرى إلا دموعها وهي تسيل.
كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، وإن لم يكن الظلام قد
خيّ ً م تماما، فاصطبغت السماء بلون الشفق، وعكست احمرارها على
مقدمة سيارتي، وتسلّلت خيوط الشمس الحانية لترسم بقعا مضيئة
على المقعد الخالي بجواري والذي كنت أتمنى أن تشغله «دعاء»
وهي زوجتي.
ولم ينتشلني مما غرقت فيه من ظنون إلا صوت الهاتف، أجبت
بعد أن أوقفت محرك سيارتي بعد أن دلفت إلى شارع جانبي على
الطريق الذي كنت أسير فيه لأفاجأ بأنها الممرضة التي كانت بعيادة
الدكتور «أيمن» حيث قالت:
- السلام عليكم أستاذ «أحمد»، أنا «زينب» الممرضة التي أعطيتها
رقم هاتفك منذ قليل في عيادة الدكتور «أيمن»، لقد أخبرته بحضوركوسؤالك، كما أخبرته بردي عليك، وكان رأيه أن أتصل بك لأطمئنك أن
الأمر لا يخصها هي، فالآنسة "دعاء" لم تكن هنا من أجل نفسها بل
كانت تسأل الدكتور عن مريضة ولا أستطيع إخبارك بأكثر من هذا.
ظللت أردد بانفعال لم أتمكن من إخفائه:
- الحمد لله... الحمد لله... بشّ رك الله بالخير.
قالت بهدوء:
ّ - تود خطبتها وكنت ستتراجع أليس كذلك؟ هكذا خمن
الدكتور"أيمن".
أجبتها باقتضاب:
ّ - نعم أود خطبتها ولن أتراجع إن شاء الله.
وانتهت المكالمة واختفت أوجاعي وانشرح صدري، ووجدتني
أضحك بصوت عال في سيارتي...
ً هدأت أخيرا وكدت أن أعود لبيت أختي، لكنني تذكرت وجه
"دعاء" الذي علته علامات الضيق والفزع عندما رأتني وكأنها رأت
ً شبحا، فقررت ألا أزعجها مرة أخرى هذه الليلة، وعدت إلى البيت،
ّ وبعد ساعة دق جرس الباب، وكانت أختي «نور».
* *

غزل البنات حيث تعيش القصص. اكتشف الآن