الفصل الثالث و الثلاثون

4.1K 255 0
                                    

"دعاء"
ً لن أنسى أبدا علامات الدهشة التي غمرت وجه "نورهان" عندما
ً سمعتني أتمتم بدعاء أكرره كثيرا "اللهم اغسل حوبتي"، حيث
حدقت في وجهي، وعلى شفتيها ابتسامة تميط اللثام عن أسنان
ناصعة وسعادة هادئة، حتى أنني ضحكت من الطريقة التي طالعتني
بها بنظراتها وهي تفتح باب سيارتها الحمراء الأنيقة وتسألني بفضول:
- ما معنى"حوبتي"؟
أجبتها وأنا أراقب تعابير وجهها الجميل:
- معنى واغسل "حوبتي" أي امح واغفر"إثمي" وذنبي.
ّهز ّ ت رأسها بلطف ثم أدارت محرك سيارتها وانطلقت تقودها
ببطء وهي تستمع إلي وأنا أصف لها عنوان بيتي.
ّ
كانت "نورهان" فتاة جميلة ورقيقة، لها وجه فاتن وروح حلوة،
وتأسرك ابتسامتها الراقية
سرقت انتباهي بأناقتها حيث كانت ترتدي فستانًا ورديًا قماشه
من الصوف الفاخر أظهر جمال لون بشرتها المشربة بحمرة خفيفة.
وارتدت عليه معطفا أبيضَ قصيًرا يصل بالكاد إلى خصرها، ياقته
المستديرة شغلت أطرافها بوردات صغيرة رائعة، وكأنها نبتت من نسيج الفستان نفسه، وكانت تعقص شعرها كأميرة، وحول عنقها
ٌ عقد من اللؤلؤ يشبه السوار الذي يحيط بيدها اليمنى، وأما حقيبتها
الفاخرة وحذاؤها الأبيض فقد كانا أكثر ما لفت نظري عندما كنت
ً أسير بجوارها ونحن في طريقنا إلى السيارة، أعجبتني كثيرا، وتمنيت
لو أنها خبّأت جمالها لزوجها فقط.
تذكّرت صديقتي "ريهام" عندما كنا نجتمع ومعنا زميلاتنا في
ّ الجامعة كل أسبوع عند واحدة منا في بيتها، حيث كنا نتزيّن هكذا
ّ وربما أكثر، ونضحك ونأكل ونفرح، ثم نقوم لنتناوب على المرآة
ّ نمسح وجوهنا ونعود لحجابنا، وتعود كل منا لبيتها وقد أشبعت هذا
الجوع الأنثوي للحلي والتزين.
ّ
ً شردت قليلا وأنا أتأمل الطريق وأتفكّر في نفسي وأنا في يومي
الأول بعد أن أطلت حجابي، أي اختبار هذا!، اللهم ثبتني.
انتشلني صوت "نورهان" وهي تسألني:
- وماذا ستفعلين لو رضيت "فيروز" بأن ينشر زوجها رواياتها باسمه؟
التفت إليها وقلت بشجن:
ً - سأحزن كثيرا، ولكن ما يهمني فعلا أن أتأكّد أنها تعرف هي أو أمها.
ّ ابتسمت وسألتني بود:
َ - أو تهتمين بـ"فيروز" لهذه الدرجة؟
أجبتها بعد صمت لهنيهة وقلت:
- الأمر بالنسبة إلي رفع ظلم، وشهادة حق، و....لا أخفي عليك أنا فعلا تعلقت بها كثيرا.
طالعتني باستغراب ثم قالت:
بعد لقاء واحد!
ً أطرقت قليلا أتفكّر في ملاحظتها وقلت بعد صمت قصير:
ّ - نعم، فقد التقيت بها أيضً ا عدة مرات في كل صفحة من روايتها،
طريقتها جعلتني أرى وجهها بين السطور، وكأنّي أستمع إلى صوتها
ّ بتلك البحة اللطيفة التي تصاحبه وهي تخبرني عن تلك الفضاءات
الوهمية، والأشياء الخارقة للطبيعة وكأنها أجزاء من أحجية كبيرة
تكتمل عند آخر صفحة في الرواية، فأرى الصورة واضحة أمامي.
قالت "نورهان" ببهجة:
ّ - شو ِقتني لقراءة رواياتها، عندي فكرة، ولا أدري هل هي من
الصواب أم لا، ولكن عندي فضول شديد لرؤيتها، سأتّصل بالمستشفى،
وسأطلب من إحدى الموظفات في مكتب الاستعلامات أن تحضر لنا
ّ عنوان بيت "فيروز"، ولنمر عليها، ولتكن زيارة عادية استكشافية يا
"دعاء"، لا تخبريهم الآن حتى لا نتسبب في المشاكل، وحتى نعرف
من أبي ما الطريقة المناسبة لتوصيل الخبر لهم، ونحاول أن نتأكّد
هل هي على علم بما حدث أم لا.
وافقتها وقد جذبتني الفكرة كما يجذب قدر العسل النحلة، وجلست
أراقبها وهي توقف السيارة تحت شجرة وارفة الظلال، ثم أنصت إليها
ّ وهي تتحدث إلى إحدى الموظفات في إدارة المستشفى، ثم تشير
إلي بيدها وكأنها تسألني عن قلم، فأخرجت مفكرتي وأعطيتها قلمي
ّ
ّ الذي لا يفارق حقيبتي، دونت العنوان وأغلقت هاتفها، ثم بادرتني
ّ على حين غرة وقالت:
- ما هذا؟!
كانت تشير إلى الصفحة المقابلة للصفحة التي كتبت فيها عنوان
"فيروز" وكنت قد نقلت فيها عبارات أعجبتني من كتاب "الحب
والحياة"، وانطلقت تقرأها بصوت مسموع:
- "أحبك.. هى الكلمة الجميلة الوحيدة التى يتحرك بها الإنسان،
ويفضّ ل فيها امرأة بالذات، يطلبها بالاسم، ويعلن ارتياحه لوجوده
معها، ويحضر معها بوجوده كله، بجسمه، وطبيعته، وعاطفته،
وعقله، وثقافته، ويستمتع معها بهذا الحضور الكامل بلا كراهية، بلا
أنانية، بلا غيرة".
التفتت إلي "نورهان" وهي تضيّق عينيها في دهاء وقالت:
ّ
ً - أنت تحبين إذا؟
شعرت بالخجل الشديد، لكنني حاولت ألا أظهره وأنا أسحب مفكرتي
بلطف من يدها قبل أن تقرأ ما كتبته عن فارس أحلامي الذي لم أعثر
عليه حتى اللحظة، وقلت بنبرة حاولت أن أخرجها بثقة:
- ليس كل من يكتب عن الحب محب!..مجرد كلمات أعجبتني
للدكتور"مصطفى محمود" عن الحب.
أكملت وقد امتلأت عيناها بالفضول:
ً - أعجبتني الكلمات جد ً ا، أنت إذا لا تقرئين الروايات فقط!
تذكرت مكتبتي وقلت بزهو:
- عندي مكتبة جميلة، ليتك ترينها يا "نورهان"، فأنا أعشق الكتب،
وربما أختي "حنين" رحمها الله هي السبب في حبي للقراءة.
رأيت ابتسامة ترتجف على شفتيها وهي تسألني:
- رحمها الله، متى توفيت؟ وهل كانت مريضة؟
شعرت للحظة وكأن روح شقيقتي تخللتني وصارت ترفرف في
صدري، وقلت:
ً - توفيت"حنين" منذ عشر سنين، كانت عروسا جميلة، هي من
علمتني الصلاة، وحبّبتني في القراءة...
ّهزت "نورهان" رأسها باهتمام لتشجعني على الإفصاح عن باقي
قصتي مع أختي فأكملت:
ّ رني بغطائي الصغير، ثم تحملني وهي تجلس على
ّ
- كانت تدث
كرسي هزاز وتهمس في أذني كل ليلة وتقرأ لي قصة جميلة وهي
تحملها بين يديها وتضعها أمام عيني لأراقب الصور،
كانت تصف بطريقتها ما يدور من أحداث، حتى أنام في حضنها،
ثم تحملني وتضعني في الفراش
وتظلّ بجواري للحظات حتى تتأكد أنني مستغرقة في النوم،
ً وعندما كبرت قليلا ّ ، صارت تعطيني القص ّ ة وتطلب مني أن أقصها
عليها لأنها تريد أن تنام، ونتبادل الأدوار وتصبح هي صغيرتي التي
أريدها أن تنام.
ّ ترج ّ حت دمعة في مقلتيها فأحببت أن أخرجها من جو الحزن
والتعاطف معي، وقلت بحماس وأنا أعتدل في جلستي:
- هيا إلى "فيروز" فلنقم بالمغامرة.
ابتسمت وأدارت سيارتها، وانطلقنا نثرثر على الطريق، وجدتها
طيّبة القلب، ولاحظت كلامها الكثير عن "طارق"، وبدا لي أن بينهما
ًشيئا ما، فالنظرة التي رأيتها في عينيها، تشي بالكثير.
إنها تحبه!
وصلنا سريعا إلى بيت "فيروز"، صعدنا على الدرج، وكدنا أن نصل
ّ إلى الطابق الرابع الذي كانت فيه شقة الأستاذ "حاتم فريد".
رنّ هاتف "نورهان"، إنها أمها تطلب منها الحضور الآن، تركتني
على الدرج على وعد بلقاء آخر وتبادلنا أرقام الهواتف، وددت لو
ً بقيت معي قليلا، فقد بدأت أرتبك.

غزل البنات حيث تعيش القصص. اكتشف الآن