الفصل السادس و الثلاثون

4K 268 9
                                    

"أحمد"
مرت أيام منذ أن التقيت بـ"دعاء"، ما زلت غاضبًا، أخشى أن
أسأل عليها أختي "نور" فتخبرني أنها خطبت لـ"طارق"،
حاولت أن أبحث لها عن عذر أو أي سبب يبرر وجودها هناك
حتى منتصف الليل ولم أجد.
كنت أجلس كالعادة أمام التلفاز حتى يداهمني النوم فجأة، هكذا
تعودت كل يوم، فصوته هو الشيء الوحيد الذي يؤنسني في وحدتي.
كنت قد استغرقت في النوم للتو عندما أيقظني صوت هاتفي،
ً كان رقما غريبًا، أجبت لأفاجأ أنه "طارق" الذي قال بمرح:
- أحمد، كيف حالك؟ أنا "طارق حلمي".
أجبته وقد شعرت بانقباض في صدري:
- أهلا يا "طارق"، كيف حالك، كيف عرفت رقم هاتفي؟
أجاب وما زال المرح يصاحب صوته:
- من "أسامة"، المهم، أريد رقم هاتف والد "دعاء".
قلت متعجبا:
- والدها متوفى!
سألني باهتمام:
إذا هاتف عمها أو خالها أو أخيها.
سألته بفضول:
- لماذا تريده؟
أجابني:
- أريد أن أخطبها، فهي فتاة رائعة، ومهذبة، وبصراحة هذا النوع
ً من البنات أصبح نادرا الآن.
قلت وقد بدأت تتأجج في صدري حمم بركانية جعلتني أشعر أن
جسدي كله يشتعل:
- فعلا هي كما قلت وأكثر، ترى.. ما الذي أعجبك فيها؟
قال بعد صمت لهنيهة:
ّ - يا لها من فتاة رائعة!، تفر من المصعد وغيرها تركض نحوي
لتجاورني للحظات فيه!
تغضّ بصرها عني وهي تكلّمني، تحافظ على صلاتها، ملابسها
محتشمة، لا تجلس بجوارك في السيارة، وتفضّ ل الجلوس في المقعد
ً الخلفي خجلا منك، كما أنها ذكية ومثقفة وواعية وناضجة فكريًا..
رائع!
ً أظنها الزوجة الصالحة التي كنت أبحث عنها، فعلا أحتاج إلى
زوجة أفضل مني، فأنا تحولت بالتدريج مع ظروف دراستي الطويلة
ثم ظروف عملي الصعبة إلى إنسان آلي، أحتاج لشخصية رائعة
وكاملة تلملم شتاتي المبعثرة.
قلت وقد صارت دمائي تغلي في عروقي:
سأرسل لك رقم أخيها "جمال" في رسالة
سألني بفضول:
- ما صلة القرابة بينك وبينها؟
أجبته وأنا أحاول أن أكون مهذبًا قدر استطاعتي:
-هي شقيقة "جمال" زوج أختي "نور".
قال بمرح:
ً - إذ ً ا سنقترب كثيرا يا "أحمد"، وسنكون عائلة واحدة، كم أحب
هذا، أخبرني...هل خطبت أو تزوجت؟
أجبته وأنا أتألم وكانت يداي ترتجفان:
- لم أتزوج بعد، ويبدو أنني لن أتزوج.
قاطعني وقال:
- عندي لك عروس رائعة، طالبة في السنة النهائية من كلية الطب،
وهي ابنة أستاذي الدكتور"أيمن"
ً تذكرت فورا اليوم الذي رأيت فيه "دعاء" وهي تخرج من عيادته،
وبدأت أعرف الآن كيف التقت به، وقلت بود مصطنع:
ً - طبعا أعرفه، طبيب مشهور وناجح.
قاطعني قائلا:
ً - وابنته رائعة وجميلة ومثقفة، ستعجبك كثيرا.
رددت بكلمات رجوت أن تكون لطيفة وأنا أحاول أن أتمالك
نفسي:
- سأخبرك عندما أنوي الزواج، المهم أن تتأكد أنت أنك مقتنع
بـ"دعاء"، وأنها مقتنعة بك، ولا تتزوجها إلا بعد أن تتأكد أنك تحبها
ًحقا، وحافظ عليها.
سألني متهكما:
ّ - وكيف سأعرف أنني أحبها، فأنا لم أقع في الحب من قبل، كما
ّ أنها متحف ً ظة جدا، لا أظن أن لقاءً ً واحدا سيكفي لكي أحكم، وربما
الحب يأتي بالتدريج.
شعرت لوهلة ببارقة أمل تلوح أمام عيني وتربت على كتفي،
ً فالقصة إذا بالنسبة لـ"طارق" لا تتعدى البحث عن عروس مناسبة.
ً وليس الأمر متعلقا بمشاعر أو قصة حب بينه وبين "دعاء"
ً لكنني سريع ّ ا ما شعرت بغصة في حلقي عندما تذكرت رفضها لي
ّ شخصيا، ولا شك أنها سترحب بالزواج من "طارق".
أجبته بكلمات اقتلعت قلبي معها:
- انظر في عينيها لدقيقة، واطلب منها أن تنظر إليك وهي تحدثك،
فهذا حقكما، وهذه رؤية شرعية
سألني بتهكم وقال:
-أهذا هو الحب!
قلت وأنا أتوجع:
-لا.. تلك هي البداية فقط.
ستشعر بدقة قلب قوية ووجع خفيف غير مؤلم لحد المرض
يتوسط صدرك وكأنك على وشك السقوط من مكان مرتفع، وجع
خفيف لكنك ستحبه.
ً ضحك كثيرا وقال بسخرية:
أنا غير مقتنع بكلامك، هذا نسميه في الطب شيئا آخر، وربما
أفسره ببساطه أنه أثر الهرمونات.
أجبته وقد خرجت من فمي الكلمات بتلقائية:
- هي لحظة التقاء روح بروح أخرى تتعارفان وتأتلفان بعد أن
ً تختار بعقلك، فنحن لا نسير على طريق إلا بعد أن نتحسسه جيدا،
ً وأنت اخترت "دعاء" أولا لأنك تعلم أنها عفيفة، فابحث الآن عن
ّ القبول واستشعر دقة الحب.
قال بثقة:
- فعلا هي عفيفة، وما كنت أشاء أن أرى خصلة من خصال الخير
ّ من أدب وطهر وعفة وشرف إلا وجدتها فيها.
ً قلت مؤكدا على كلامه:
- وأنا أشهد بذلك.
ً أضاف "طارق" قائلا:
- القبول والحب واختيار العقل والانسجام والتكافؤ.. كلمات
عميقة ولكن للأسف كل شيء يتغير بعد الزواج.
أجبته بعد صمت لوهلة وقد تدفقت الكلمات وهربت من صدري:
- رأيت الحب في عيني أبي وقد اشتعل رأسه شيبًا هو يجلس على طاولة
الطعام وقد سقط حاجباه وارتعشت كفه وهو يدس اللقمة في فم أمي..
ّ ورأيت الحب في وجه أمي وهي تمسح على جبين أبي وهو مريض
ّ وتشد ّ على جسده الواهن الغطاء لتدفئه وكل نظرة من عينيها التي
امتلأت بالدموع تشفق عليه وتقبّله.
ً حتى وقوفها خلف النافذة في ليالي الشتاء قلقا عليه عندما كان يتأخر
في العودة من عمله وهي ترتجف لا أدري خوف ً ا أم بردا... كان عين الحب..
واللحظات التي كان يشاركها أبي فيها وهي في المطبخ ليساعدها
في إعداد الطعام..
ومحاولاتها لكي تتقن صنع فنجان القهوة له.
ً وجلوسهما معا أمام التلفاز، وصلاتها خلفه، وسجودهما لله معا...
منتهى الحب.
ّ ورأيت الحب في عيني زوج أختي وهو يمسك بيديها ويشاركها
الوجع ويعتصر قلبه وهي تصرخ وتبكي عندما كانت تلد ابنتها الكبرى.
ً ورأيته في ابتسامة بائعة الخضراوات وهي تشتري أمامي زوجا
من الجوارب الصوفية لزوجها من أحد الباعة بجنيهات قليلة.
ورأيته بين كل زوجين جلسا بجوار بعضهما أمام البحر وقد فصلت
بينهما مسافة يمر منها صغارهما وهما يركضان حولهما لكن قلبيهما
ملتصقان في صدر واحد.
وابتلعهما الصمت لكن كلاهما انتهى من حل طلاسم شخصية
حبيبه وفهمه فباتت تتحدث هي إليه بالصمت ويرد عليها بسكوته،
ويتبادلان نظرة وابتسامة تحمل كل المعاني بلا حروف وبلا أصوات
وإيماءة خفيفة منهما تكفي لكي تشي بأن بينهما قصة حب!
الحب، أن تسمع زوجتك في صمتها وهي تسمعك، وتراها عندما
ِ تغيب عنك بقلبك وهي تراك، وترحمها وإن لم تشتك إليك وهي
ترحمك، وتشعر بآلامها وتبكيك أوجاعها وهي تشعر بك،
الحب لا يحتاج إلى وسامة ولا رشاقة ولا مال ليستمر، الحب أن
تحب زوجتك بكل ما هي عليه، وكل ماكانت عليه وكل ما ستكون
عليه، ويكون كلاكما أمام الآخر روحه التي تتحرك وكأنها تعيش فيه ويعيش فيها، وقلبها يدق في صدره وقلبه يدق في صدرها.
قاطعني "طارق" قائلا:
- ما كل هذا يا "أحمد"!، يبدو أنك مغرم يا بطل، ترى من سعيدة
الحظ؟
أجبته وأنا أشعر وكأنني ألفظ أنفاسي الأخيرة وقلت:
ّ - أسألك الدعاء بأن ييسر الله لي الخير...
رد بمرح:
ا..
- بالتأكيد.. وسأدعوك لحضور الخطبة قريبً
عضضت على شفتي وقلت بألم:
ً - دعها توافق أولا.
رد بثقة:
- أنا واثق أنها ستوافق، وما كنت لأقدم على خطبتها إلا وأنا على
يقين أنها لي...
انتهت المكالمة وأغلقت الهاتف وأنا أتألّم، فقد كانت مكالمته
نكئا لجراحي الغائرة.
ّ ومر ً ت أكثر الليالي بؤسا في حياتي، طارت الفراشة، بعد أن أزاحت
ّ رحيق الحب من قلبي بجناحها الرقراق
ّ وتركتني وحيدا أتجرع مرارة أن أموت وأنا ما زلت على قيد الحياة.

غزل البنات حيث تعيش القصص. اكتشف الآن