الفصل السابع و الثلاثون

3.8K 249 2
                                    

استيقظت في منتصف الليل على هاتفي وظننته "طارق" مرة
أخرى، أمسكت هاتفي لأجد اسم أخي يظهر على شاشته، رددت
عليه بقلق:
ً - خيرا يا أخي، هل حدث شيء؟
أجابني بصوت مطمئن وقال بفرح:
ً - غدا بإذن الله عودي من المدرسة إلى بيتي مباشرة، فهناك شاب
يريد خطبتك، وسيأتي مع والدته، ولقد أخبرت خالك "محمد" ليعود
مبكرا ويقابلهم معنا.
شعرت بتوتر شديد وسألت أخي:
- ما اسمه؟
أجاب بفرحة:
- طبيب بشري اسمه "طارق حلمي" أخبرني أنه معجب بأخلاقك
وسيأتي غدا، يبدو أن الدكتور"أيمن" الذي يعالج "أميرة" هو من
ً رشحك له، فهو يعرفه جيدا.
قلت بصوت متقطع:
- أنا لست مستعدة الآن يا أخي، ولست في حالة نفسية تسمح
لي باتخاذ قرارات هامة، فما زلت مرتبكة منذ وفاة أمي ولم أجد السكينة بعد، وأخشى أن يؤثر هذا على رأيي وأوافق على أي شاب
يطلبني للزواج فأندم، وأرى من الأفضل أن نؤجل تلك الزيارة فهل
من الممكن أن تتصل به وتؤجلها؟
رد أخي بلهجة حازمة:
- لن أؤجل زيارته ولن أسمح لك بتضييع هذه الفرصة، سمعنا
ً كلامك كثيرا يا "دعاء" وكنت أخشى في الماضي على أمي وغضبها إن
شددت عليك، ولكن يبدو أنك تحتاجين من يوجهك ويساعدك على
اتخاذ قرارك فأنت خائفة ومترددة، وعموما لا تقلقي فلن أزوجك إلا
ممن يستحقك..
لم أجد ما أقوله لأخي، وأنهيت المكالمة معه بهمهمات وأصوات
مبهمة، لا أدري كيف فهمها!
أمضيت الليلة في حيرة، ماذا سأفعل غدا!
أرسلت رسالة لـ"طارق" وكتبت فيها:
- "هل من الممكن تأجيل الزيارة للأسبوع القادم، وأن تطلب أنت
من أخي "جمال" هذا بنفسك"
ّ وكنت قد عزمت على زيارته في المستشفى إن رد بالقبول لأحاول
إنهاء الأمر بعيدا عن أهلي، لكن
رده جاء سريعا برسالة لم يسأل فيها حتى عن السبب حيث قال:
- "لا... سنأتي في الموعد المحدد إن شاء الله".
ّ ضايقتني رسالته وتعج ّ بت من رد فعله، وتساءلت لماذا يتصرف
هكذا؟!
وقررت أن أرفضه بطريقة طبيعية حتى لا أحرج أخي، وأن انتهز الفرصة لألفت نظره لـ "نورهان"
في اليوم التالي عدت إلى بيت أخي وأنا ما زلت أتخبّط، وما
زالت الأفكار تتوارد على رأسي كالمطر الغزير وتزدحم وتناطح بعضها
البعض كالسحابات الغاضبة، كنت في حالة لا أحسد عليها.
ً جاء"طارق" مع والدته، والتي اتضح لي كم هو يشبهها كثيرا،
نفس لون العينين، ونفس زاوية الأنف والابتسامة الدائمة، حتى
طريقة الكلام.
جلست بقوامها الممتلئ، ووجهها الطيّب تحدثنا عن "طارق"،
ً وكيف كان في طفولته رائع ً ا، ومتفوقا، وكيف كان هو هدية الله لها
بعد وفاة والده وهي صغيرة السن وكيف صبرت وربّته ليكون كما
ً هو الآن، فوجئت أثناء الحوار أنه يحفظ القرآن كاملا، ولم أكن على
علم بهذا!
لاحظت فرحة أخي بمواصفاته التي كان يعلم أنني كنت أتمناها
في زوجي، قام أخي وزوجته مع والدة "طارق" وتركونا لنتبادل
ً أطراف الحديث قليلا، فبدأ هو كعادته وقال بمرح:
ّ - كنت أعلم أنك لن تردي على طلبي ولن تعطيني رقم هاتف
ً أخيك، فأنت خجولة جدا، لهذا قررت أن أصل إليه بطريقتي الخاصة
رددت وأنا لا زلت أقلّب أفكاري:
- من أعطاك رقم هاتف أخي؟
أجابني ليصدمني:
- "أحمد".
شعرت برجفة تجتاح جسدي كله، وقلت بتوتر:
هل أنتما صديقان؟
أومأ برأسه علامة الإيجاب وقال:
- كان معي في المدرسة حتى افترقنا في المرحلة الثانوية، شاب
ً رائع وخلوق، كنت أحبه كثيرا، أخبرني أنه لم يخطب بعد، ورشحت
له"نورهان"، ما رأيك؟
وقعت كلماته على رأسي كالمطرقة، وقلت وأنا أحاول إخفاء
ارتباكي:
- "نورهان" رائعة، ورقيقة، وجميلة، وبعد خروجي معها أمس
اكتشفت أنها إنسانة مميزة.
ً قاطعني قائلا:
- جميل أن تكونا صديقتين، فهذا سيسهل تواصلي مع "أحمد"،
ّ فأنا أحب أن أقو ً ي علاقتي به، حاولت أن أصمت قليلا لعلي أحسن
ترتيب الكلمات والأفكار في رأسي، حتى أنه كان يتكلم وأنا غائبة
عنه للحظات
قلت له بكل وضوح:
- لماذا تريد الزواج مني؟
سكت هنيهة، ثم قال وقد سرحت نظراته في الفراغ:
- لأنك فتاة أحلامي.
قلت بتهكّم:
- لست فتاة أحلام، أنا فتاة عادية.
ً أطرق للحظات مفكرا ثم رفع رأسه وقال بلهجة جادة:
دائما كنت أحلم بزوجة تقربني إلى الله، عفيفة شريفة، مستورة
بحجابها بعزة، أخرج من بيتي وأنا مطمئن أنها ستحفظ غيبتي، لا
تفتنها الدنيا بزينتها، ولا تركض خلفها فتؤذيني.
قاطعته بهدوء وقلت:
- لكنني لست مثالية كما تظن، أنا كأي فتاة أخرى، أحاول أن أكون
ّ كما يحب ربي، لكنني أقص ً ر كثيرا.
ّ رد بعد أن تنهد بعمق وقال:
ً - أنت بريئة جدا يا "دعاء"، الفتيات من عمرك وممن هم أصغر
ً منك تجعلن من أنفسهن سلعا رخيصة كما رأيت من معظم من
التقيت بهن في حياتي، فقد مررت بالكثير من المواقف المخجلة،
تركض خلفي، وكأنها تود أن تلقي بنفسها بين ذراعي،
ّ بعضهن ّ وأخريات تَحمن حولي وكأنني صيد ثمين.
ّ والكثيرات تصدر منهن أفعال مهينة لهن، وحتى على الإنترنت الحياء أصبح عملة نادرة، وأنت ومن هن ً شبيهات لك تجاهدن جهادا كبيرا بين كل تلك الفتن.
أعجبني فيك عزة نفسك وتعففك، فلم يهمك أن أغضب عندما
ِ تركت ِ ني في المصعد، ولم يهمك أن يغضب"أحمد" عندما جلست في
ّ المقعد الخلفي في سيارته، كما أن نظراتك وطريقة ملابسك تدل
على عفافك، الأولوية عندك إرضاء الله، وهذا ما جذبني إليك.
قلت بتردد:
- لست رائعة كما تراني، فذنوبي كثيرة... ولكن هل أنت أيضً ا تجاهد؟
رفع حاجباه وقال:
أحاول كثيرا.
خطر لي أن الوقت مناسب لأسأله هذا السؤال الذي كان يخطر
ً ببالي كثيرا، خرجت مني الكلمات بعفوية وقلت:
ً - لماذا أنت متساهل جدا؟
التفت إلى وكانت نظراته تلهب وجهي وسألني بحدة:
- كيف!
قلت ألومه:
- أنت تجلس مع"نورهان" وحدكما في غرفتك بالمستشفى وتغلق
الباب وتشرح لها، وترفع الكلفة عندما تتحاور مع أية فتاة وناديتني
عندما رأيتني أول مرة باسمي مباشرة وكأنك تعرفني.
ضحك بسخرية، وقال في تهكّم تشوبه مرارة:
ً - وهل كان لابد أن أقول أهلا ً أستاذة أو آنسة "دعاء" مثلا!
أنت تصغرينني ربما بست سنوات!
أكملت متجاهلة نبرة السخرية في صوته وقلت:
- أنت لا تغضّ بصرك.
ّحدجني بنظرات غاضبة وقال بثقة:
- أنا أحاول فعلا أن أغضّ بصري، ونظراتي ليست نظرات شهوانية
أنني
ا له، ولا تنس ْي
ً جائعة، أنا فقط أنظر لمن يتحدث معي احترام َ
طبيب، كيف سأعالج مريضتي دون أن أنظر إلى وجهها؟
ّ هذا جزء من تشخيص المرض، اسألي أي طبيب.
قاطعته بهدوء وقلت:
أنا لا أنتقدك كطبيب، هذه رخصة، أنا أقصد نظراتك لـ"نورهان"
ولي وأنا أكلمك، فأنا لست مريضة تعالجها، ولا هي أيضً ا، أليس كذلك!
ً شعرت أنه غاضب جدا وقال باقتضاب:
- نورهان هي التي تطاردني!
ران علينا صمت لدقيقة، حاولت فيها أن ألملم أفكاري المتناثرة
تذكّرت الآن بعض ما كان يخبرني به "أحمد"، فلا وجود لإنسان
ً كامل لا يخطىء، حتى "طارق" وهو يجلس أمامي لا يعلم شيئا
عن ذنوبي، ولا تقصيري، هو فقط يراني كاملة، ورغم أن به صفات
ً تمنيتها في زوجي المستقبلي، إلا أن له طباعا لا أقبلها، ربما من
السهل أن تتغير لكنني أيضً ا لم أشعر وأنا معه بالقبول، أو... بدقة
الحب التي أنتظرها، تذكّرت وجه "نورهان" وهي تصف حبها له،
وشعرت بتأنيب الضمير لأنني أجلس أمامه، فلم أنجح في إلغاء تلك
الزيارة للأسف.. فقلت له:
- دكتور"طارق"، أنت إنسان رائع ولكنني لا أوافق على الزواج منك.
تغيرت تعبيرات وجهه وقال بمرارة:
-هكذا، مباشرة دون تفكير!
أجبته بثقة:
ً - نعم. فأنا أدرك تماما ما أريده.
سألني بعصبية:
- وما الذي تريدينه!
أجبته بهدوء:
ما تريده أنت بكل بساطة في فتاة أحلامك أريده أنا في فارس
أحلامي، نصف آخر يأخذني إلى الجنة
قاطعني بغضب وقال:
- من قال أنني لن أعينك على هذا!، أنت تحكمين من جلسة
واحدة وبضع كلمات!، يبدو أنك فتاة مغرورة.
أغضبتني الكلمة وتركته يكمل:
ً - يبدو أنّ خبرتك محدودة ولا تدركين الواقع جيدا، لا وجود لفارس
ً الأحلام يا عزيزتي... كم أنت بعيدة جدا!
أجبته بصوت مخنوق وقلت:
ً - ربما أنا بعيدة فعلا ّ ، ربما ما أتمناه مستحيل.
ّ أشاح بوجهه عن ّ ي وهز رأسه بهدوء وقال:
ّ - لا يهم، ربما حديثي معك سيفيدني بطريقة ما، وربما في
افتراقنا خير..
ّ تصنعت الابتسامة وقد أدهشني موقفه، يبدو أن لديه كبرياء جعل
ا، أو ربما يتصرف هكذا حتى يُظهر لي أن الأمر
ً رفضي له شيئ ً ا عابر ّ
غير مهم، تعجبت من انسلاخه من حالة رفضي له دون أي حرج،
واتخاذه للأمر بسهولة رغم ضيقه وقلت بعد صمت للحظات:
ً - خيرا إن شاء الله.
ً ضحك وقال متهكما:
- أنا حتى لم أشعر عندما نظرت إليك بما أخبرني به "أحمد".
سألته بفضول:
وماذا قال لك؟
أخبرني وهو يبتسم:
- قال لي بعد أن أطمئن إليك بعقلي أن أتأكد من عواطفي، وأن
أنظر في عينيك لأعرف هل هناك قبول بيننا أو لا، وأنني سأشعر
ّ بدقة قلب قوية ووجع خفيف غير مؤلم لحد المرض يتوسط صدري
وكأنني على وشك السقوط من مكان مرتفع و.....، يبدو أنه يعيش
ّ حالة حب.
كانت تلك هي المرة الأولى التي أستمع فيها لوصف مشاعر"أحمد"
والتي أتتني على لسان "طارق" بطريقة لم أتوقعها، أدركت لماذا كان
يسألني أن أنظر إليه لدقيقة أو نصف دقيقة، عندما عاد ليخطبني
مرة أخرى وأنا مع خالي ببيت أمي، وكنت أتفادى النظر إليه، لا
أدري لماذا، أرادني أن أشعر أنا أيضً ا به، أن أبحث عن القبول والتقاء
الأرواح، لكنني وقتها لم أكن أفهمه!
كاد "طارق" يقوم، فاستوقفته بإشارة من يدي وقلت له:
ً - هناك أمر لا بد أن تعلمه جيدا.
قال بأدب:
ّ - تفضّ لي يا"دعاء"، فما زلت أحترمك وأقدرك، كلّي آذان صاغية.
قلت وأنا أحاول أن أتخير كلماتي:
- أحيانًا يكون بين يديك شخص مميز، مقبل عليك، يحبك بشدة،
يراقبك، حتى أنه يحفظ سكناتك وحركاتك
وما تحبّه وما تأكله، حتى ألوان ملابسك، وربما يهيأ إليك أنه
ّ يرخص نفسه، ولو حاولت أن تقيّمه قبل أن تحكم عليه بسطحية دون أن تفتش خلف أفعاله لعرفت أنه كنز، فربّما يكون هو نصفك
الآخر الذي تنتظره.
شعرت فجأة أنني أتحدث عن "أحمد"، ولاحظ "طارق" توقفي
عن الكلام، فهز رأسه وقال:
- "نورهان"
قلت برجاء:
ا، وتراقب كل شاردة وواردة
ً - نعم، إنها تذوب فيك عشقا وحبf
ّ تخصك، ورأيت فيها الكثير من الصفات الطيبة.
قال بابتسامة هادئة:
- أعرف أنها تحبني، وكنت أعلم أنها تنتظر.. لكنني كنت أتمنى أن
ألتقي بمن هي أفضل منها..
غمرني شعور بالاستياء والغضب منه لأنه يعلّقها وكأنها طائر
رقيق علق جناحه وهو يطير بالقرب من عش حبيبه الذي يعشقه
فاستعذب جواره وآنس برؤيته فأشاح بوجهه عنه وأهمله لأنه يعلم
يقينا أنه لن يطير. وقلت بجدية:
- بعد حجابها أنا أستبشر خيرا، وأظنها تسبقني بكثير، لا تستبعد
على أحد الهداية مهما بدا لك منه
كست وجهه علامات الدهشة وقال:
ً - تحجبت إذا...هذا رائع.
ً وصمت قليلا وكأنه يقيّم الأمر كله في رأسه، وتنقل بنظراته في
المكان وكأنّه يفكر في شيء.
ثم قام وهو يقول:
ً - لا شك أن لك دورا في حجابها، ولا أنكر أنها خطوة رائعة وأنها
لو كانت مثلك منذ البداية ما ترددت لحظة عن خطبتها،
أرجو منك أن تساعديها دون أن تعلم أنني طلبت منك هذا وإلا
لن أتزوجها، فأنا أخشى أن يكون حجابها شكلي فقط، وأخشى أن
تتراجع فجأة وتخلعه وهذا أكثر ما يتعسني أن أتزوج من إنسانة
فارغة لا يملأ صدرها ما يظهر على أفعالها من نضج وإيمان وفكر
يناسبني، وأما عن باقي نصائحك... فسأحاول أن أغض بصري وأقلل
من تساهلي يا... آنسة "دعاء".
قلت باقتضاب:
ً - أرجوك لا تخبر "نورهان" عن زيارتك ولا عن حديثنا هذا أبدا.
ً أومأ برأسه موافق ّ ا، وتركني وسرعان ما لوى شفتيه بابتسامة ودية
وانتهت الزيارة.
ّ شعرت براحة بعد انصرافه، كان رد فعله وإن دل على برود
ً مشاعره قليلا ّ إلا أنه دل على ذكائه وإدراكه أن الزواج لا يتم إلا
بتوافق الطرفين، فهو يدل أيضً ا على عدم تعلّقه الشديد بي وثقته
بنفسه- ربما لدرجة الغرور- ودبلوماسيته الشديدة.
ّحتى تقبّله لترشيحي ل"نورهان" كان بطريقة مميزة احترم فيها
رأيي، بل وسألني أن أساعدها!
ًإذ ً ا هو يدرك قيمتها جيدا، ليته يتزوجها ويحبّها كما تحبّه،
وبالطريقة التي تتفاعل بها مع أمورها، لأنها تمتلك دفئا من المشاعر
ً يفتقر هو إليه، ورصيدا من الأحاسيس، لا أظنه يمتلكه، فهو يتعامل
بطريقة أخرى تختلف عن شخصياتنا وربما تناسبه وترضيه ولكن
أتمنى إن تزوجها أن ترضيها هي الأخرى...
ً انتهت زيارة "طارق"، وجلست مع أخي الذي كان مبتهجا ويظن
أن الأمر هذه المرة سيتم، لم أخبره بما دار بيني وبين "طارق"، ولم
ّ أتمكن من إخفاء حالة الهم التي انتابتني،
مكثت تلك الليلة في بيت أخي ولم أتمكّن من العودة لبيت
أمي ونمت وفي حضني ابنتا أخي" مودة" و"رحمة"، وتشغلني تلك
الكلمات التي همست بها "فيروز" في أذني:
تحرري من تلك "القيود الناعمة"، أو اتركي أحدهم يحررك منها،
أحلامك حلوة وناعمة وأنت تغرقين في حلاوتها، أنت "أسيرة الأحلام"
يا "دعاء".

غزل البنات حيث تعيش القصص. اكتشف الآن