الفصل الثامن و الثلاثون

3.8K 250 1
                                    

عاد خالي الذي فاته اللقاء بـ"طارق"، ومرت أيام و"جمال" ينتظر
مكالمة من "طارق" ظانًا أنه سيعود، عدت إلى عملي وعادت بعض
المشاكل مع "سعاد" وعصابتها، هربت من نظراتهن إلى غرفتي بالمدرسة
وشغلت نفسي بالقراءة، أخرجت جريدة وجلست أتصفحها وفوجئت بخبر
جميل، كان الخبر عن "حاتم" زوج "فيروز"، الذي صرح أن الرواية التي
نُشرت باسمه من تأليف زوجته، وأن هذا خطأ غير مقصود من دار النشر،
وأن لها مؤلفات أخرى، وأن الدار ستطرح المجموعة كاملة باسمها قريبًا.
وقرأت بعدها على صفحات الإنترنت الكثير من النقد طاله منه
الكثير من الأذى، وبعض السخرية، والكثير من السباب، وأخبار من
هنا وهناك تروي قصة أنه سرق المؤلفات من زوجته وأنها اكتشفت
قرأت تصريحات دار النشر التي رأت في الأمر
ّم
ُ
هذا وفضحته، ث
دعاية مميزة لاسمها وفرقعة إعلامية لم تحلم بها، بقي أمر مرض
ً السيدة "فيروز" بعيدا عن الإعلام، ولم يظهر لها إلا تصريح واحد:
" كتبت رواياتي لأنني أحبه"
وأرفقت صورة لها مع زوجها وفي عينيه بصيص فرحة ونشوة
ً حب، وبينهما الجميلة "ياسمين"، هدأت نفسي أخيرا وسعدت لهذا
ً ها فعلا ويستحق حبها العميق
التطور وأيقنت أن زوج "فيروز" يحبّ
والمخلص له.
ما زالت رسائل "نورهان" على هاتفي لا تتوقف، وكنت ألاحظ أن
ً سعادتها تزيد يوما بعد يوم وباتت تسابقني في قراءة القرآن وترسل
لتسألني عن ما قرأته وما حفظته، شعرت بغيرة لأن حماسها يزيد عني!
أتت لزيارتي مرتين، اكتشفت أنها سخيّة اليد وأنّ لها وأبيها الكثير
ً من أبواب الخير التي عرفتها قدرا وأنا أسير معها، وأذني تدلني على
علامات وعيني تشهد على ما تفعله.
أكثر ما ترك بصمة في نفسي زياراتها للمريضات الفقيرات في
إحدى المستشفيات الحكومية واعتناؤها بهن والسعي لهن كما لو
ّكن من أقاربها!
ً عرفت أيضً ا أن هذا لم يكن أمر ً ا جديدا عليها، فهي هكذا منذ
سنوات، كانت أجمل بحجابها الأنيق، بل حجابها نفسه- كما أخبرتني
بنفسها- زاد قلبها رقة، وجعلها تشعر بحلاوة وهي تفعل الخير، كانت
غائبة عنها من قبل، ولم تذقها إلا الآن!
ّ بدا لي أنها لم تعرف عن زيارة "طارق" لبيت أخي، والتي مر
عليها أسبوع واحد.
في آخر زيارة لها فاجأتني بتغيّر عميق، ملابسها الأنيقة صارت
ً أكثر اتساع ً ا وحجابها أصبح أكثر سترا
ّ بدت لي كالأميرة المتوجة، حتى كلماتها أصبحت لا تخلو من
ّ اسم الله فبين كلمة وأخرى كان لسانها يحن للنطق بتسبيحة وحمد
ّ لله، وكيف لا؟! وقد صار الله عز وجلّ حبها الأكبر.
أعجبتني بهيئتها الجديدة، ما زالت حقيبتها فخمة وما زال حذاؤها أنيقا
خرجنا معا وأنا أسير بجوارها فرحة بها كنت أغبطها فقد رأيت
وجهها الجميل وقد أصبحت عليه مسحة من نور الهداية، جلسنا
كعادتنا أمام البحر، وكان لا بد من بعض البوح.. ما زالت تحب طارق.
وقررت أن تشركني لحظة توبة صادقة ستتركه فيها وتنهي علاقتها
به.."لله"
وتغسل عن قلبها بعض الدرن، أخبرتني أنها لن تذهب إليه في
المستشفى مرة أخرى
وأنها لن تركض خلفه كما كانت تفعل، وأمسكت هاتفها وأخرجت
منه شريحة خطها وعضّ تها بأسنانها أمامي وألقتها في البحر وقالت:
- ليس منا من يأمن على نفسه الفتنة مهما بلغت تقواه؛ ولذا فإن
ّصد الشبهات والابتعاد عنها منجاة.
أبكتني نظراتها الحائرة ورأيت دمعة تتسلل من عينيها لتنحدر
على خدها التقطتها بيدي وقلت لها:
- أسأل الله أن يثبتك يا "نورهان"
ابتسمت وعيناها ممتلئتان بالدموع وقالت::
ً - شكرا لله الذي أضاء لي الطريق بلقائي بك.
شعرت أنني لا أستحق تلك الكلمات فقلت وأنا أسترجع ذنوبي
وأستحقر نفسي:
ً - بل شكرا لله الذي أخذ بناصيتك إليه، وأما أنا فذنوبي كثيرة
وتقصيري يحزنني.
قالت وهي تمسح وجهها:
عندما كنت عندك بالبيت ورأيتك بلا حجاب، وتأكدت أنك فتاة رقيقة وجميلة ورغم هذا تغطين كل شيء لله تأثّرت كثيرا، صرت أغار فأنا أيضا أرجو أن يحبني اللهّ ّكما أنك أحسنت إلي كما لم يحسن منك،
إلي أحد من قبل فأنا أفتقد الصحبة الصالحة، وكنت أخشى الاقتراب من بعض المحجبات لأنني أعلم أنني على خطأ، كما أن قسوة بعضهن
ّ جعلتني أخشاهن جميعا، لكنني التقيت بك، لا بد أن هناك الكثيرات
ّ حولي مثلك، وأنا التي عم ً مت الحكم عليكن جميع ِ ا، جعلت ّ ني أحب حسن
الخلق فيك يا "دعاء"، لقد تخليت عن الفتاة التي كنت قد صرت إليها،
ً فأنت مسحت بيديك غبار ّ ا عن قلبي فرق ً أخيرا.
وسبقتني "نورهان" بخطوة، وتعانقنا لنفترق على وعد بلقاء آخر
قريب وعدت لبيتي وأنا أشعر بسعادة يشوبها بعض الوجع.
ّ فأنا سعيدة لتوبتها وأتوج ّ ع لأنني أعلم أنها تتوج ّ ع فهي فعلا تحب
"طارق".. دعوت الله لها بالثبات وسألته أن يربط على قلبها لتشفى
الجراح، وأن يهيء لها من أسباب السعادة والرضا والسلام النفسي ما
يعوضها ويأخذ بناصيتها إليه.
* * *
مرت أيام وفي ليلة صافية وبينما أستعد للنوم جاءتني مكالمة
تليفونية من إحدى الممرضات بالمستشفى
أعطاهم الدكتور "طارق" رقمي ليبلغوني أن "فيروز" عادت
ً للعلاج هناك وتطلب رؤيتي لأمر هام، توجهت فورا في اليوم التالي
إلى المستشفى بعد انتهاء يومي في المدرسة، رآني الدكتور"طارق"
ً فاقترب فورا وقال:
مرحبا أستاذة "دعاء"
رددت متجاهلة نبرة صوته الساخرة وكنت سعيدة أنه توقف عن
مناداتي دون ألقاب وقلت:
- أهلا دكتور "طارق".
سألني كما لو كان جنديا:
- هل تعرفين أي شيء عن نورهان؟
أجبته ببهجة:
ً - طبعا فقد كانت معي أمس.
رفع حاجبيه وسألني متعجبا:
- هاتفها خارج نطاق الخدمة!
ابتسمت وقلت بفرح:
- لقد غيّرت رقم هاتفها.
قال بصوت متوتّر وقد أبصرت على وجهه علامات القلق وعدم
الرضا:
- حتى حساباتها على الفايسبوك والياهوو والواتس آب وغيرها
أغلقت بعضها ولا تجيب على الموجود منها!
قلت بثقة:
ً - طبعا فقد تغيّ ً رت تماما وأظنها وضعت ضوابطا جديدة لمعاملاتها
على أرض الواقع وعلى الإنترنت أيضً ا
ألم ترها بهيئتها وشخصيتها الجديدة؟
ّهز رأسه بدهشة وقال:
لا  لم أرها منذ أسبوع!
التفت متوجهة إلى غرفة "فيروز" بعد أن قلت له:
- لقد سبقتنا خلال أسبوع على الطريق، إنها تشتاق إلى الجنة.
ً سار خلفي كطفل صغير قائلا:
- تغيّرت هكذا فجأة!... ولكن كيف؟
التفت إليه مرة أخرى وقلت بهدوء:
ّ - كان فيها من خصال الخير ما يكفيها لتنهض بقوة.. كلنا نحتاج
إلى التغيير حتى أنت.. انظر لنفسك!
ّ بين يديك نعمة كبيرة وهي حفظك للقرآن، لكنك تحفظه لأن
"طارق" صاحب الذاكرة القوية يستطيع أن يحفظ بسرعة، ولكن أين
أنت من معاني القرآن في قلبك؟
عد واقرأ القرآن مرة أخرى ومن جديد ولكن بقلبك لتخشع
جوارحك وتترجم معانيه فيك فيراك الناس قرآنا يتنفس بينهم، بدا
ً باردا فجأة وسكن قليلا.
وكأنني صببت على رأسه ماءً
تركته شاردا واتجهت مباشرة إلى غرفة "فيروز" وطرقت الباب
ودخلت بهدوء لأجدها ممدة على فراشها وبجوارها أمها التي كانت
تبكي..

غزل البنات حيث تعيش القصص. اكتشف الآن