الفصل الثاني

5.3K 183 12
                                    


"لن تبكي ،أقسم أنك لن تبكي ،لو بكيتي لأزهقتك بيدي ،ان كنت ذات كرامة ،لخرجت من بيته ، لو كان لديك كبرياء ،لتركته و عدت الى جحيمك الآخر ،فلا تدعي ما لا تملكيه ،ستردعين دموعك ،و تبتلعين شهقاتك علك تموتين بها ،و ستصمتين الى الأبد "
اخرست نواح نفسها بتلك العبارات تغرس اسنانها بكفها ،تمرر وجع روحها عبر ألمها الجسدي ،فترتخي عضلاتها ،و تبرق عينيها ،تنحي كل ما حدث في حاضرها ،بجانب احداث ماضيها ،في قاع أسود معتم ،له رائحة القبور و ظلمته،تستدعي كعادتها ما يبهجها و يسري عن قلبها إن شهر الخير و البركات على الأبواب، و عله يكون معراج دعواتها إلى أبواب القبول.  …….…………..
تهيأت لاستقبال الشهر الكريم ،كما تعلمت من امها ،و حين ينطق قلبها بلفظ الأم فهو لا يعرف الا والدة نور أم ،تلك النبيلة الفاضلة ،التي كستها بعد عريها ،و أطعمتها بعد ان ذاقت مرارة الجوع ،و آوتها في بيتها رغما عن ولدها ،الذي هدد بترك المنزل ان سكنته هي ،و لكن هيهات لرحمتها أن ترضخ و هيهات لطيب اصله و حسن خلقه و تربيته ،أن يرد أمر والدته ،بعد ان رأى دموعها و تمسكها بها .
كتبت كل ما يحتاج إليه البيت ،من خزين و عصائر و مكسرات رمضانية تعلم انه يعشقها ،دائما بعد صلاة التراويح ،تعد له طبق المكسرات المتنوعة ،بجانب طبق العسل الابيض ،تعشق تلك الطفولية التي يغمس بها حبة المكسرات في العسل ،ثم تبرق عينيه العسليتان ايضا و هو يلوكها بتلذذ.
ابتسمت بحنان ،ستشتاق اليه كثيرا ،حين يتزوج ،ستشتاق ان تطهو له ،تنظف ملابسه و غرفته ،حتى تلميع احذيته .
تلك هي متعة ايامها ،و ستسلبها منها أخرى لا تعلم عنه ولا عن طباعه شيء ،ميزتها الوحيدة ،ان قلبه مال لها دونها .
وضعت الورقة الطويلة مطوية بعناية على الكومود بجانب سريره ،بعد ان غيرت الشراشف و عطرت الغرفة كعادتها ،و قبلت كومة الملابس التي طوتها بعناية تضعها بخزينة ثيابه .
بقي شهر وعدة أيام لتحضر سيدة المنزل الجديدة ،لقد زارت البيت عدة مرات بعد زيارتها الأولى التي قررت فيها بعنجهية أنها لن تغير شيء ،فكل شيء رائع راق يماشي ذوقها،فقط عليهم شراء غرفة نوم جديدة ،لا تقل رقي عن باقي اساس المنزل ،وفي أثناء تلك الزيارات كانت تنزوي هي في غرفتها ،بعد تقديم ضيافتها،ولم تهتم الأخرى بالسؤال عنها، و لا عن سبب إختفائها…………………..
🍃🍃🍃🍃🍃🍃🍃🍃
اليوم الاول من الشهر المبارك ،مبتهجة ببداية هذا الشهر الكريم ،حضرت جيدا ما ستعده للإفطار ،دعواتها التي ستدعوها خطتها كلها في ورقة كبيرة الصقتها بخزينة ثيابها من الداخل وكان اول ما فيها ،ان يرحم امها ،و يحفظ لها حبيبها ،و يديم صحبتها له ،و لا تفترق عنه ،و ان يسعده مع زوجته ،نعم فقد عقد على يارا
اخبرها قبل رمضان بيومين ،ان أمس كان يوم عقده ،و بحزم أخبرها عليها ان ترحب بزوجته كسيدة للبيت حين مجيئها ،حتى يحدد يوم الزفاف .
أعدت المائدة بسعادة ،و قد ضمت كل ما يشتهيه ،الرقاق المحشو باللحم ،ورق العنب ،والسلطة الخضراء و  الملوخية  التي يعشقها ،و اخير الحساء ،و كوب من اللبن الرائب و عدة تمرات يبدأ بها إفطاره .
حملت نصيبها برضى الي غرفتها ،و مع اذان المغرب سمعت دخوله الي البيت ،و لكن لسوء حظها لم يكن بمفرده ،تلك النبرة الرفيعة الحادة ،أنبأتها أن زوجته معه، وأنها جاءت خصيصا لتعكر صفو ذلك اليوم المبارك .
"وهج "
ابتلعت ريقها بصعوبة ،كانت تريد على الأقل أن تبدل ذلك الجلباب البيتي الطويل بعباءة ،او فستان مناسب ،لكن لا مناص "
هرعت الى الخارج بجلبابها الطفولي
"نعم "
كانت تجلس بجانبه حول المائدة ،تتشابك كفيهما فوقها
"أعدي طبق ليارا فسوف تتناول إفطارها معي "
بخنوع و قد تسمرت نظراتها على تلك القبضة الخشنة تلتف حول اخرى ناعمة
"حاضر"
اسرعت الى المطبخ لدقائق؛ لتعود بحملها ،تتجمد خطواتها ،لتجده يطعمها بيده ، و ترد الأخرى عليه بالمثل ،عضت باطن شفتيها بشراسة ،تخمد لهيب صدرها ،تضع ما تحمل بخفة متجنبة النظر لأي منهما .
"هل تحتاجين شيئا آخر "
"لا"
"بعد ان تنظفي المائدة ،اعدي لي كوب من العصير البارد،مع الكثير من الثلج "
اختلطت اجابتهما ،لتهز رأسها بطاعة صامتة للأخيرة مغادرة .
ضم قبضته بعنف ، يغتصب ابتسامة منمقة يكسر بها حدة كلماته
"يارا ،وهج ليست خادمة هنا حبيبتي ،هي فقط تقوم بأعمال المنزل رغبة منها في ذلك ،بعد وفاة امي رحمها الله،حتى إنها رفضت و بشدة أن آت لها بمن تقدم لها العون ،ارجو منك مراعاة ذلك "
ترد بسمته المنمقة بأخرى قاسية
"و لكنها تبدو لي كخادمة ، بل و يليق بها الامر "
ان كان له عذر او اثنين في اقتصاره عنها ،و تنحيتها عن حياته ،فهي ليست لها عذر ،و على الرغم من مقته لها ،و بقاءها في منزله طاعة لتحظى امه بالراحة في قبرها ،إلا انه ابدا لم يعاملها كخادمة ،حتى صحون عشاءه يحملها هو الى المطبخ ،و قهوته يعدها لنفسه ،و لا يمانع في فعل المزيد لولا أنها تسبقه دائما بالفعل ،طواعية دون إجبار ،فترك الأمور على حالها ،لتفعل ما يحلو لها .
"لكنها ليست خادمة ،وهج في مقام أختي ،لذلك ارجوك راعي هذا الأمر ،خاصة أنها هادئة جدا ،طيعة ،لن تجادلك في شيء ،و هي دائما معتزلة بغرفتها ،لن تخدش خصوصيتك "
ترسم تفهم متكلف لا يخدع رضيع
"فقط لأجل عينيك "
يجاري تكلفها بقلق ينشب مخالبه بقلبه
"اعدك انها لن تضايقك بشيء "
🍃🍃🍃🍃🍃🍃🍃
انتصف الشهر يقترب موعد توثيق حكم إعدامها ، لقد تأكدت ان أيامها باتت معدودة في ذلك البيت ،تلك المتعجرفة لا تطيقها ،تتعمد التحقير منها ،و إهانتها ،في زيارتها المتعددة لنقل ما تشاء ،و اخذ قياس شيء ما ،و احضار ما لا تعلم .
لكن أمامه تلتجئ لنعومة الأفاعي حتى إنها عرضت عليها في احدى زياراتها  ،المساعدة بجلي الصحون فرفضت شاكرة بأدب ، و هي لن تشكو تعلم أنه سينصفها، لن يكذبها، هي لم تكذب و هي على حافة الهاوية، وهي على يقين أن صدقها سيمتص الرمق الاخير في علاقتهما، لكنها اختارت مرارة الصدق و لاذت بحصونه فهل ستكذب الأن!!!!
فقط هي تخشى مواجهته بما يكره، أن تكون عائق أمام سعادتة و استقراره...
رنين جرس الباب أصبح هاجسها ، اصبحت تخشى الخطوات على الدرج ،تضطرب معدتها ،اذا سمعت سعال الصاعد او الهابط ،خوفا ان تكون تلك الحقود او ابيها ..
باتت دموع عينيها سلوها ،و النحيب أنيسها ،التجأت الى الباب المفتوح دائما بوجهها ،الذي لم تطرقه ابدا ،فردها ،و لا ترجته فخاب مساعها ،صلاتها و دعائها كما علمتها امها ،تبتهل دائما ان يصرف شر تلك الأفعى عنهم ،هي لا تليق بدفء حبيبها ،و لا طيب خلقه ، لن تسعده ،و لن تمنحه ما يستحقه .
أجفلها صوت الرنين المتواصل التي يعلن عن نفاذ صبر صاحبته...
فهرعت بجزع مستجيبة
"اين كنت ،عديمة الفائدة كعادتك ، سأطلب من نور مفتاح إضافي ،سأخبره انك تتعمدين التأخر ،و جعلي انتظر على الباب "
صامتة تعلم ان هذا هو سلاحها الوحيد أمام تجبرها و افتراءها
"أنا سأعد الإفطار اليوم لزوجي ،تعالي لتساعديني "
اسرعت خلفها ،حتى لا تستجلب سخطها ،و بذاءة لسانها التي أصبحت تعلمها جيدا
تساعدها بصمت ،تنظف ما تترك خلفها من بقايا تنظيف الخضروات ،تجلي ما تستخدمه من اواني كثيرة لا لزوم لها ،تمسح المياه التي تتعمد أن تسقطها على ارضية المطبخ ،كانت تنحني تلتقط ما أسقطته قاصدة من قطع الخضروات ،حين تعمدت الاصطدام بها ،فاستقامت لترتطم بوجهها دون قصد .
رفعت يدها ،تشهق باعتذار و اسف .
حين عاجلتها الأخرى بغل بضربة بغطاء طنجرة كانت تحملها
"ايتها الغبية ،وضيعة الاصل ،انت تعمدت الارتطام بي ،انت قصدت ان تصدمي وجهي ، اقسم ان اذيقك الويل ،و ستكون نهايتك من حيث احضروك الشارع "
رفعت عينيها ترميها بنظرة ميتة لا روح فيها ،تضع يديها حيث صفعتها ،منسحبة الى غرفتها يواسيها كعادتها صمتها..
🍃🍃🍃🍃🍃🍃
منذ يومين لم تظهر ، لا يشعر بأنفاسها حوله ،نعم هي تتوارى عن ناظريه لكن يعلم انها تحوطه بعيدا عن مجال بصره ،حتى الطعام ،تعلم أن السلطة الخضراء جزء رئيسي من وجبته لكنها توقفت عن اعدادها ،صينية طعامه شبه فارغة ،ببواقي بسيطة ،لا تحتاج لجهد ، لكن اليوم تعدت الخطوط ،رغيف خبز ،وطبق جبن ،و ثمرتي طماطم ،هل اعلنت العصيان ،هل هذا نذير تمرد ،الا يكفيها تغاضيه عما تفعل مع زوجته ،أنه على الرغم من شكوى يارا المتكررة له عن سوء معاملتها و تطاولها . إلا أنه لم يوجه لها لوم ولا عتاب .
"وهج"
انتظر دقيقة كاملة ،لفظ استجابتها ،تعجلها و هي تخف اليه ،لتسأل عما يريد .
انتفخ صدره بغيظ ،هذا فاق الحد ،كيف واتتها الجرأة لتتجاهله ؟!!!!!
اتجه بغضب الى غرفتها يفتح الباب على مصرعيه ،لتقع عيناه عليها تصارع جلبابها البيتي لترتديه وهي توليه ظهرها
"ألم تسمعي ندائي؟؟!!!!!
همست بخوف
"انا فقط كنت أرتدي ثيابي ،و سأخرج اليك ،اسبقني انت و انا سألحق بك "
لم تلتفت اليه كانت ترتدي قميص قصير يصل الى ركبتيها ،لشدة حرارة الجو ،و لا تزال تحاول طمس ملامحه بجلبابها .
"وهج ،انا احدثك "
ترقرقت الدموع بين حروفها تقطر دما
"ارجوك اذهب و سألحق بك "
ارتجف قلبه من نبرتها
"وهج انظري الي "
تقطعت انفاسها تنتحب بشهقات تمزق صدرها
"ارجوك ...
فعل ما لم يكن يخطر على باله حتى في احلامه ،خطى الى غرفتها ،لو اخبره احد ان في يوما ما سيدخل الى غرفتها يسوقه جزعه و هلعه عليها ،لأقسم غير حانث أنه مجنون .
ارتجفت اصابعه وهو يرفع وجهها الذي تصر على ان يحتضن الأرض ،تواري قسماته عنه ،ليشهق برعب .
"ماذا حدث لك ؟من فعل بك هذا ؟هل اعتدى عليك احدهم ؟هل فتحت الباب في غيابي ؟
انتحبت ببؤس تنظر اليه بانكسار ،نظرة تغشاها العتب و الشكوى
ليهتف بعدم تصديق
"يارا هي من فعلت ..صحيح!!!!!!!
تفتش عينيه بخوف عن المزيد ،حتى شعر ان قلبه على وشك التوقف ،و هو ينظر الى ذراعها ،و لمحاولتها المريرة ارتداء ثيابها فلا تستطيع
"ما به ذراعك؟؟؟؟ماذا حدث لك؟؟؟!!! تحدثي ...اجيبي ماذا حدث؟؟!!
يتحسس جسدها بهستيريا ،يحرك ذراعها ، ينظر بفزع الى شلالات دموعها التي تفجرت دون رادع ،الى ارتجاف فمها و عينيها ..
لتنفلت صرخته مع عنان عينيه ،يجذبها بين ذراعيه مرددا
"ماذا فعلتُ بك ؟
تستكين الى حيث تنتمي ،يضمها بأكملها بين ذراعيه ،يبكي لأجلها ،يواسيها ،و هو لا يعلم انه قد اودعها الفردوس و منحها لذة النعيم فقط و رأسها يضج بهدير قلبه ،و شفتيها تنتفض على وجيب صدره .
اجلسها بتؤدة ،بعد أن انتزعها من نعيمها الدنيوي ،يخلع جلبابها المتعلق فقط برقبتها .
يتحسس ذراعها بلين ،يبحث عما يخفف ذعره ،او يبرر له تلك الهيئة الفاقدة للحياة به ،لكن لا شيء...
🔥🔥🔥🔥🔥🔥🔥🔥🔥🔥

وهج نور "كاملة"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن