استيقظتُ صباح اليوم وأنا بكاملِ نشاطي وبدئتُ أرتديّ ملابس العمل ، وأخيراً سأبدأ العمل وهذا بعد إقناع طويل لأبن عمي ليدعني اعمل بشركته وحجته أني لا أحتاج للعمل وهو يوفر لي كل ما أحتاج ، ولكنه وافق على مضض أن أعمل بشركته تحت مراقبته ، وها أنا سأبدأ يومي الأول بالعمل بالاعتماد على نفسي لأثبت للعالم بأني لا أحتاج لأحد وسأكون نفسي فقط ، لقد انتظرتُ هذا اليوم بفارغ الصبر حتى اتخرج من الجامعة وابدأ حياتي المستقلة بشهادتي وقد أتممت عمر الثانية والعشرين لأصل إلى هنا ، ولكن جزء من الفضل يعود لعمي الذي تحمل مسؤوليتي بعد وفاة والديّ وأنا بعمر الثامنة ، ولكني لم أنسى يوماً أني كنت مجرد ضيف أضافي وفرد غير مرئي بعائلة عمي ، وهذا ما جعلني أُسرع للخروج من بيت عمي لحياتي الخاصة لأكون نفسي ولا أحتاج لأحد .
بعد انتهائي من ارتداءِ ملابسي جدلتُ شعري أمام المرآة لألمح الحزن الذي يسكن عينيّ الرماديتان ، ولكني نفضتُ الحزن عنهما وذكرتُ نفسي أنهُ يومي الأول بالعمل وعليّ أن أبدأهُ بقوة ولا مزيد من الحزن بعد الآن .
التقطتُ حقيبتي لأضعها على كتفي ، ومشيتُ لحذائي لأرتديه على عجل فلا أريدُ أن أتأخر بيومي الأول من العمل .
فتحتُ باب غرفتي وخرجتُ لأرى ابن عمي على بعدِ خطواتٍ مني (عماد) وهو رجل العائلة الوحيد خاصة بعد وفاة عمي قبل سنة لتنتقل مسؤوليتي من عمي لأبن عمي (عماد) ، والذي تعتمد عليه العائلة بكل شيء فهو سند العائلة الوحيد ومازال .
لم ينتبه (عماد) لي فقد كان يتكلم بالهاتف ويعطيه كل الانتباه ، ومن ملامح وجهه المتجهمة عرفتُ مع من كان يتكلم أنها خطيبته (سالي) ابنت رئيس البلدية ، تلّك الفتاةُ المدللّة التي لم تحبني يوماً وكأنني لا استحقُ أن أكون فردا من عائلتها ، لطالما عاملتني بعلوّ شأن لتفهمني إنني غير مهمة بالنسبةِ لها ، والحقيقة أنها كلها لا تهمني لا هي ولا عائلتها .
بدء يصلُ لي من كلام (عماد) مع خطيبته ويبدو أنهُ يحاول أنهاء المكالمة معها
"لن أستطيع يا سالي ليس اليوم لديّ عمل وعليّ الذهاب إليه وانتِ تأخريني ، وداعاً الآن"
وبعد أن فصل (عماد) الخط مع خطيبته المزعجة مشى بخطى مسرعة ليتجاوز (نادية) وهو يقول بحزم
"تحركيّ هيا لا تبقي واقفة كالبلهاء سنتأخر"
ومشىّ إلى السلم واختفى عن نظرها تماما ، لم تُفاجئ (نادية) من حدته وجفائه فقد اعتادت عليه ، ولكن عندما يتكلم مع خطيبته يصبح مزاجه سيئاً جداً ولن استغرب هذا من تلك المدللة المستفزة ، بل الذي يفاجُئني كيف (عماد) مازال يتحملها ؟ هل لأنها ابنت رئيس البلدية ؟
مشيتُ بخطى سريعة ونزلتُ السلم لأقابل أفراد العائلة على مائدة الافطار ، كانَ الجميعُ قد اجتمع هناك فمن عادات هذا البيت ان تلتم كل الأسرة على المائدة بوقت الطعام .
رأيتُ زوجة عمي (فيروز) توبخ الخادمة المسكينة بتقصيرها بالعمل والخادمة كانت تتلقى التوبيخ بصمت ، هذه زوجة عمي ولن تتغير ابدا امرأة متسلطة قوية تسيطر على جميع من بالمنزل وغير مسموح عندها بالتقصير والإهمال ، حتى بعد وفاة زوجها مازالت تحافظُ على قوتها وسيطرتها ، خاصة بجلساتها النسائية التي تديرها مع صديقاتها لتريهم بفخر عائلتها المثالية .
تقدمتُ بضع خطوات وجلستُ على المقعد بجانب (مياده) ، لكنها لم تتنازل لتلقيّ عليّ نظرة فقد كانت مشغولة بهاتفها وعلى ما يبدوُ تتكلمُ مع صديقاتها ، تلّك المغرورة الفاتنة كما يطلق عليها كل من يعرفها ، فهي تمتلكُ صفات تجعلها مغرورة خاصة مع عينيّها العسلية الجريئة وشعرها المتشّابك الطويل كثير الانحناءات ، لهذا هي دائماً مصدر اهتمام الجميع وإعجابهم وغير هذا متفوقة بحياتها الأكاديمية وهو ما جّعلها تدرسُ في معهد اللغات الأوربية للمتفوقين ومازالت مستمرة ، أنّها تكبُرني بعام واحد ولكن الخبرة التي تمتلكها بالحياة تشعرني بأنها أكبرُ مني بكثير .
التفتُ برأسي لتلتقي عينيّ بعينين سوداويين حادتين بهما لمحة حزن خفية تخفيّهما بحدتها ، لطالما كانت (سائدة) لغز محير بالنسبة لي وهدوء ما قبل العاصفة ، فهي احياناً تكون حادة معي وهذا جزء من شخصيتها واحياناً أخرى تكون حزينة شاردة بعالم آخر ، فهل هذا يتعلقُ بزواجها المعلق والذي لم يُجد لهو حل حتى الآن ؟ أم أنّ هُناك أشياء أخرى لا أعرفها عن (سائدة) .
جلسَ (عماد) مكانهُ على رأس المائدة وعلى يمينه جلست والدتُه ليبدأ الجميع بتناولِ الطعام في صمت وكلٌ منهم شارد في أفكاره الخاصة .
نهضت (مياده) على عجل وهي تقول بسرعة ملوحة للجميع بكفها كما عادتُها
"انا ذاهبة لقد تأخرتُ على صديقاتي وداعاً"
خرجت من باب المنزل قبل أن تسمع رد أحد ، وهذا ما جعل (فيروز) تغضب وتقول بامتعاض
"مجنونة"
حاولت (نادية) استغلال الفرصة لتهرب وتلحق ب(مياده) ، ولكنها فشلت فما أن ابتعدت قليلا عن المائدة حتى قال (عماد) بغضب
"إلى أين أنتِ ذاهبة تظنين نفسكِ قادرة على الذهاب للشركة لوحدك ، سنذهبُ معاً إلى هناك"
كانت ستقول شيئاً لولا قاطعتها زوجة عمها وهي تقول بنفور
"أنها ليست صغيرة حتى تخاف عليها بُني يمكنها تدبُر أمرها"
قال (عماد) بصوت حاسم
"أرجوكِ أمي يكفي أني قبلتُ بعملها وايضاً تريدين مني ان أتركها تذهب لوحدها للشركة ، هذا ليسَ ما اتفقنا عليه"
لم يُعجب (فيروز) هذا الكلام فنهضت عن مقعدها وغادرت للمطبخ ، أما (سائدة) فقد نهضت بهدوء عن مقعدها وغادرت دون أن تنطق بأي كلمة لتخلف من بعدها هدوء مقيت ، لم تعرف (نادية) ماذا تقول بعد كلام (عماد) فبقيت صامتة تماما تنتظر .
نهض (عماد) عن المائدة وسار بالقرب من (نادية) ، وقال وهو يخرج من باب المنزل
"هيّا بنا فقد تأخرنا بما فيه الكفاية"
بقيت (نادية) واقفة قليلا وهي تُشعر بالإحباط وتفكر أنّ يومها الأول قد انهار ، وها هو (عماد) قد بدأ يتحكمُ بها ويذكرها بالذي اتفقا به .
سارت (نادية) بهدوء لباب المنزل وهي تدعوّ انّ يكون باقي يومها بالعمل جيداً وأنّ لا تحدث مزيد من المشاكل .
أنت تقرأ
أبحثُ عن الحب
قصص عامة"طفلة تبحثُ عن الحب بين قلوب صماء وبشر لا تشعر ، جائعة بالبحث عن الحب مثل البحث عن قطعة حلوى بين أدوية لاذعة ، وتبقى تؤمن بوجود هذا الحب الذي سيفهمها ويسمعها ، لتلتقي أخيراً بالحب والذي سيعوضها عن كل ما فات ، لتتعلق به بقوة مثل تعلق الطفل بوالديه ال...