الجزء 1

285 4 2
                                    

1    

كان أحمد مُغمَض العينين، بينما صوت المضيفة من داخل الطائرة يُعلن عن بدء الرحلة إلى مدينة أبو ظبي، وكانت تُعطي التعليمات التي تسبق الإقلاع، لم يَكُن يسمع شيئا، بل كان يرى أمامه شريط ذكريات، امتدَّ طوال شهر مضى، وهو لا يزال يسأل نفسه أهو حلم أم حقيقة.
أحمد طبيب عمره 34 عاما، ذو شعرٍ أسود خطه بعض الشيب المبكر، ودائما ما كان يتصف بين أقرانه بالوسامة، نشأ في أسرة متوسطة الحال، توفيَّ والده بعد أن تخرج بعام واحد، ووالدته سيدة بسيطة لم تنل حظًا وافرًا من التعليم، إلّا أنها حرصت على تربية أولادها على المُثل العليا، وشجعتهم على التفوق العلمي.
له شقيقتان تكبرانه، الأولى تخرجت فى كلية العلوم، وتزوجت وسافرت مع زوجها إلى السعودية، ولديها من الأطفال ثلاثة، ولد وبنتان، والثانية تخرجت في كلية التجارة، وتزوجت من صحفي مرموق، وأنجبت ولدين وبنتا، وفضَّلت أن تتفرغ لتربيتهما على أن تعمل.
بالإضافة إلى شقيق يصغُره بسنتين، تخرج في كلية الهندسة، ويعمل الآن مهندسًا مدنيًّا فى إحدى شركات المقاولات المصرية.
عمل بعد تخرجه بأحد مستشفيات وزارة الصحة، واستمر في مواصلة تعليمه، حتى حصل على درجة الماجستير في الأمراض الباطنية.
أيقن أنه لا وسيلة للحياة التي ينشدها والتي يرى أنها لابد أن تتناسب وكونه طبيبا إلّا السفر لإحدى الدول العربية، وكسائر زملائه قام بوضع السيرة الذاتية الخاصة به في مختلف مكاتب التوظيف الممتدة على طول البلاد وعرضها.
كان لا يَمُرّ أسبوع دون أن تأتيه مكالمة من مكتب توظيف يعرض عليه فرصة عمل، وكم من المقابلات ذهب إليها، ولكنها كانت جميعا تأتي بالفشل لأسباب مختلفة.
مرَّت الأيام، إلى أن جاء يوم، وجد في الجريدة إعلانًا عن فرصة عمل في دولة الإمارات والمقابلة بأحد الفنادق الكبرى، فلم يُصدق نفسه إذ أنَّ الإمارات من الدول التي يتمنى الأطباء العمل بها، وذلك لسمعتها في التعامل الطيب مع الأطباء ومع المغتربين بصفة عامة، بالإضافة إلى التطور المذهل الذي وصلت إليه.
لم يَنم في تلك الليلة، وذهب إلى المقابلة مُرتدياً أفضل ما لديه، حتى يبدو في أفضل صورة، والتقى بالفعل مع صاحب المستشفى الذي جاء بنفسه لاختيار مجموعة من الأطباء.
لم يُبدِ صاحب المستشفى أي تفاعل معه أثناء المقابلة، فقط ألقى عليه بعض الأسئلة المتنوعة في مختلف أمور الحياة، ثم وجّه إليه التحية، وتركه ينصرف، وهو لا يعلم ما هي نتيجة المقابلة.
مع مرور الأيام تأكد أحمد أنَّ المقابلة قد فشلت.
بعد مرور شهر، استيقظ على صوت والدته تُخبره أنَّ ساعي البريد قد أحضر له رسالة مسجلة، وعليه أن يتسلمها بنفسه.
فتح الرسالة، فوجد بداخلها عقد عمل موثقا، وبراتب لم يحلم به، ومُرفق جواب يُبين كيفية إنهاء الإجراءات اللازمة، حتى يتمكن من الوصول إلى الإمارات خلال أسبوعين، وبالفعل لم يَدخر أي جهد في إنهاء كافة الإجراءات في أسرع وقت.
عندما حان وقت السفر كانت اللحظة الصعبة، وهي لحظة وداع الأهل، فقد كانت هي المرة الأولى التي يفارقهم.
بذلت أمه محاولات مُضنية لأن تمنع دموعها، ولكن هيهات فقد انفجرت الدموع من عيونها كشلالٍ هادر، فارتمى بين ذراعيها باكياً متوسلاً لها أن تتماسك، بل إنه طلب منها أن تكون سعيدة وهى تراه يخطو أول خطوة في طريق تحقيق أحلامه، ووعدها بأنه بمجرد أن تستقر أموره سيقوم بعمل استقدام لها؛ لتذهب إليه وتُقيم معه بعض الوقت، وقد حاول شقيقه وشقيقته أن يلعبا دورًا فى تهدئة الأمور، ونجحا إلى حدٍ بعيد، ثم اصطحباه إلى المطار.
عند باب صالة السفر، إذا بهما يجهشان بالبكاء وهما يحتضناه وكانت دموعه لم تجف طوال الطريق منذ أن ترك أمه، ضمَّ شقيقته بذراعه الأيمن، وضمَّ شقيقه بذراعه الأيسر، وكأنما يقول إننا سنظل معا حتى ولو فرقتنا الأيام، ثم غادرهما مُسرعًا إلى داخل المطار.

لقاء في الغربة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن