السادس من نونبر، 23:57

42 5 1
                                    


غبت لأيام عن المدرسة، اظن أنني غبت عن نفسي أيضا، أياما لم اكتب فيها شيئا، لقد عدت للمنزل كي أحضر مراسيم دفن أمي التي ماتت منذ أيام قليلة، لم يكن لعقلي مكان شاغر للكتابة، كنت كما قال دوستويفسكي في رسالة لأخيه بعد صدور حكم الاعدام عليه، حين قال: "إنني أشعر أنني أولد بصيغة اخرى"، أوقات مفصلية كهذه تغير من شخص الانسان الكثير، إنها مطرقة تطرق معدنه الساخن، لتشكله على هواها، صحيح أنني لا ألمس هذا التغيير، ولربما أدعي انه لم يحدث قط، لكنني أؤمن أن أمرا كهذا لن يمر على روح المرء مرور الكرام. إننا ننضج بالصدمات.
حسنا كفانا حديثا عن نفسي، لقد كتبت لأبرر غيابي، لا لأتحفك بما أعيشه من أحداث مملة في حياتي الشخصية ، اظن ان لكل منا ما يكفيه من المشاكل كي يرمي ما بين يديه الآن، و يبصق على كتاباتي، و لا ضير أن يطلق بعض السباب و اللعنات، محتجا على المستوى الذي انحدر إليه الأدب في عصرنا هذا... أظن انك  على حق، و لكنت سأتفق معك لولا انك اغفلت شيئا واحدا: انني لا اكتب ادبا، لا تنتظر مني أن انتقي ارقى العبارات، لا تنتظر أن افكر في ما سأقول، لأنني  لن افعل، لكنني ادعوك و بقوة ان تظل محافظا على تركيزك و هدوءك، فلدينا قضية نسعى إلى حلها، و لا داعي ان اذكرك بتلك الرؤوس المقطوعة، و بانهم يعلمون انني اراقبهم كي تظل منتبها.
العاشرة صباحا، كان يوما ماطرا، دقت الساعة، هدوء مخيف يخيم على عقلي رغم ضجيج الآخرين، السماء رمادية مضطربة كتفكيري هذا، أحمل متاعي وأخرج وسط حشد من الناس تتدافع عند المخرج، لا أعبأ بمن يصدمني، أتمايل كسكير خرج لتوه من الحانة، حقيبة على كتف واحدة، يداي المتدليتان تتأرجحان بتلقائية، ورجلاي تسيران في ذات الطريق الذي الفتاه، انهما يسألان عقلي أي سبيل يسلكا، لا رد هناك، أظل واقفا بمكاني، ما سبب هذه الثمالة، إنني أفكر، شيئا ما ينغص علي الحياة، قبل غيابي هذا، كنت اكتب بدافع الإثارة، علي قول ذلك و ان كان خادشا: كنت أستمتع بما أعيشه من حماس و رعب . لكن بعد وفاة أمي، أدرك أنها أرواح تزهق في ذلك البيت، ماذا لو كانت أرواحا بشرية، لعله كان لتلك الرأس حياة، لعل صاحبها ترك ماضيا، ترك حبا ينتظره، طفلا واقفا امام باب المنزل، ماذا لو كان كل يوم كنت أبحث فيه عن نشوة الغموض وأنا أراقب ذلك البيت، كان عند بعضهم كابوسا، ينتظر أن ينتهي، آملا في غد مشرق ولا جدوى...
وبينما أتخبط في عاصفة الأفكار تلك، تدخل مرمى بصري المصبوب على الأرض يد، أعلم لمن هذه، أدرك أن صاحبها واقف أمامي، وبحركة منه أصدر الإبهام والوسطى صوت فرقعة، حينها رفع رأسي، لأرى ذات الوجه الشاحب، الابن الأصغر، سأدعوه العسيف، وستعلم لاحقا لماذا... لم يكن كما الفته، هذا وجه تدب فيه الحياة، هذا جسد من وجد ملاذا، هذا نفس من عزم على بلوغ الخلاص، من وجد سبيلا لذلك، إنها ذات النظرة التي يرمق بها الثوار بعضهم وسط صخب العامة، وكأولئك الثوار زحزح رأس مبتسما، مطمئنا اياي، أنا الذي استقرت روحي و أمنت، إن لهذا الرجل هالة اذا احتوتك صرت كدمى العرائس في يد صانعها... و بذات اليد أشار بانسيابية لحقيبتي، تفقدتها، بسرعة لأجد بها جملة أوراق وضعت لتوها، أوراق لا يخصني، التفت لأسأله، لكنني لم أستطع لأن ما من أحد أمامي، كل ما أراه هو ذات الحشد الذي يحاول أن يبلغ بوابة المدرسة، أشخاص كنت لأكون مثلهم لولا أنني رأيت ما لا يجب أن  يرى. لقد اختفى كما ظهر، بصمت لكن بقوة.
اسرعت نحو مسكني، أضع كوب شاي يجهز، يجب علي أن آكل من حين لآخر، أظنها من الحقوق البسيطة لنفسي علي، لأنه يصعب أن تحل لغزا بعد أن تموت جوعا. التهمت ما أعددته، رميت ما على المكتب أرضا ووضعت الأوراق أمامي، تفحصتا قليلا قبل قراءتها لا شيء يثير الريبة، إذا تجاهلنا تلك الرائحة، لن اصفها لأنني لا أملك الوقت لذلك، لنقل انها غريبة، تشبه لحد كبير خطاب موجه لشخص ما، لمن يا ترى... دعني أفكر، ليته لم يكن لي قط، ليتني لم اقرأه قط، لكنني فعلت، أزحته جانبا وشرعت في كتابة ما تقرأه الآن، سأرفق بكتاباتي هذه ما جاءني في هذا الخطاب. سأسترسل في حديثي باعتبار أنك قرأت الخطاب كله..

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Aug 31, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

غياهبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن