الجزء التاسع

29 0 0
                                    

#الإيمان_والحب
.
✍رويدة الدعمي
.
الفصل التاسع
.
بدأ والد ملاذ يلاحظ التغيير الكبير الذي طرأ على سلوك ابنته بعد تلك السفرة ، لقد هجرت التلفاز نهائياً وصارت تأوي إلى الفراش مبكرةً جداً وهي ملتزمة بكافة واجباتها الدينية التي علمها إياها منتظر ..
وفي إحدى الأمسيات قالت ملاذ لوالدها :
ـ أوليس من الواجب يا أبي أن نقوم بزيارة عائلة العم أبو منتظر ونرّد إليهم الجميل ؟ إن الذي فعلوه معنا لا يمكن أن يُعدُّ فضله ورغم ذلك فأنا لا أراك تتصل بالعم أبي منتظر أو تحاول أن تسأل عنه وعن أخباره ، أما هو فدائم الاتصال والسؤال عن أحوالنا !
نظرَ إليها والدها بعد أن أكملت حديثها قائلاً :
ـ ألا ترين إنك لا تتحدثين إلاّ عنهم يا ملاذ ؟ حتى إنكِ نسيتِ أن لكِ
أباً يجب أن تبادليه حنانكِ ومشاعركِ فمنذ يوم العملية إلى اليوم لم أسمع منكِ غير الحديث عن أفضال عائلة أبي منتظر وإحسانهم إلينا !
كان والد ملاذ يتحدث بعصبية واستياء جعل ملاذ تستغرب الأمر ، فلقد رأت والدها قد ضخّم الموضوع كثيراً وأعطاه أكبر من حجمه ! والحقيقة إن حامد صار يشعر إن ابنته لم تعد ابنته بل إنها صارت تنتمي لعائلة أبي منتظر !
هذا ما كان يراود الوالد بخصوص تصرفات ومشاعر ابنته التي تغيّرت كثيراً وفي كل تصرف كانت تقوم به كان يشعر بأنها تريد أن تقول له (( إنك لم تحسن تربيتي .. ومنتظر هو الذي ربّاني )) !!
في الحقيقة إن ملاذ لم تكن تقصد أي شيء مما كان يفكر بهِ والدها لكن الأخير قد ملأت وساوس الشيطان رأسه فصار يشعر بالغيرة والاستياء من تلك العائلة التي سرقت مشاعر ابنته !
لاذت ملاذ بالصمت ولم تتحدث بشيء بعد أن رفض والدها اقتراحها ذلك .
بعد أيام قلائل عزمت عائلة أبي منتظر على زيارة بيت أبي ملاذ وخاصةً إن أم منتظر كانت شديدة الشوق لرؤية ملاذ بعد أن سمعت من زوجها وولدها عن ما فعلته تلك الفتاة لإنقاذ حياة منتظر .
أتصل والد منتظر بصاحبه واتفق معه على موعد الزيارة .. وفي الوقت المحدد وصلت العائلة إلى منزل أبي ملاذ حيث استقبلهم الأخير استقبالاً لا بأس به.
كان منتظر يتوقع أن تقوم ملاذ بفتح الباب لهم كما حدث في أول مرة زار فيها منزلهم لكن لم يكن لملاذ أي اثر هذه المرة !
مرّت عشر دقائق تقريباً على حضور الضيوف ..
سألت أم منتظر :
ـ أين فتاتنا ملاذ ؟ أنا متشوقة لرؤيتها ..
أجاب أبو ملاذ :
ـ نعم .. حالاً سأناديها ، ملاذ .. ملاذ ..
دخلت الفتاة وألقت السلام ، وقد بدت مرتبكة بعض الشيء !
رد الجميع التحية وكانت أم منتظر في حالة دهشة .. فكم هو الفرق بين حجاب ملاذ في أول مرة رأتها فيها وبين حجابها وسترها الآن !
إنها ترتدي الحجاب الكامل ولم يظهر منها إلاّ قرص الوجه والكفين .. تبدو كملاكٍ بحيائها وسترها وأدبها .
أما منتظر فصار يقارن ـ والفرحة تغمره ـ بين طريقة كلامها وضحكتها في تلك الزيارة وبين ما تبدو عليه اليوم من رزانة وهدوء ووقار .
جلست ملاذ بقرب والدة منتظر وصارتا تتحدثان عن أمور الحياة ، حاول منتظر المشاركة في الحديث بعد أن إنتهز فرصة انشغال الرجلين بالحديث عن آخر الأخبار السياسية وأمور أخرى ، فوجّه كلامه إلى ملاذ قائلاً :
ـ وكيف حالكِ الآن مع الوضع الجديد ؟ وهل تعانين من مشكلةٍ ؟
ـ لا .. أبداً يا منتظر ، الحمدُ لله فكل شيء على مايرام ، والسعادة التي حدثتني عنها سابقاً صرتُ استشعر طعمهاً الآن .. لكن ..
ـ لكن ماذا ؟ تكلمي يا ملاذ ..
ـ مازلتُ أشعر إن هناك وقت فراغ يجب أن استغله ، فالحقيقة إنني ما تركتُ الصلاة منذ أن حدّثتني عنها ... وصرتُ أقضي ما فاتني منها في السنوات الماضية ، أما القرآن فيومياً أقرأ جزأين منهُ تقريباً ، والتلفاز هجرتهُ تماماً ...
لكني لا أستطيع أن أقضي كل وقتي بالصلاة وقراءة القرآن فهذا صعبٌ عليَّ !
ـ ليس عليك فقط ، بل إنهُ صعبٌ على الجميع يا ملاذ ... وحتى رسول الله (صلى الله عليه واله) عندما صار يُرهق نفسه بقيام الليل والنهار معاً في الصلاة وعبادة الله حتى تورمت قدماه عاتبه الله بالقول : ((طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى! )) ، فإن قضاء الوقت كله بالصلاة والتعبّد هو أمرٌ صعب يرهق الجسد والقلب معاً لذا قال الإمام علي (عليه السلام) : ( إن القلوب تملّ كما تملّ الأبدان فتخيروا لها طرائف الحكمة )
ـ وماذا قصد (عليه السلام) بـ ( طرائف الحكمة ) ؟
ـ الطريف هو الجديد ، ذلك إن لكل جديد لذّة ونكهة خاصة ويُعتبر الأسلوب الجديد محركاً على إدامة العمل بنشاط أكبر ، أما الأسلوب الرتيب والقديم ربما يجر إلى النفس السُأم والملل والنفور .
فعندما أرشدنا علي (عليه السلام) في أن نختار لقلوبنا طرائف الحكمة فقصد بذلك أن نختار لها كل جديد حتى لا تمل ولا تتعب .
ـ لقد حاولت يا منتظر أن أضع جدولاً يقسّم وقتي بين أعمال المنزل وبين العبادة .
ـ بل يجب أن يكون هناك وقت خاص للترويح عن النفس حتى لا تملّي العمل ولا العبادة ..
أي إن وقت الترويح هذا سيضيف إليك طاقة أكبر للقيام بعملك وعبادتك ، بينما إذا أستمر حالك هكذا ولفترة طويلة من الزمن لا يوجد غير العمل والعبادة فإن جسدك سيتعب وقلبك سيمُل ، وقد يسوء الأمر فيقل العمل وتقل العبادة بدل أن تزداد !
ـ وكيف يمكن الترويح عن النفس ؟
ـ نعم يا عزيزتي هذا سؤال مهم .. فطبعاً لا يمكن الترويح عن أنفسنا بأمور محرمة ، فمن شرائط الترويح أن يكون خالياً من المفاسد والمضار والباطل والحرمة ..
وكذلك يجب أن يخلو الترويح من الإسراف والاستغراق الذي يستهلك الوقت بأجمعه !
وبالنسبة لحالتك فإنك تستطيعين الترويح عن نفسك بجميع أنواع الترويح المشروعة ...
ـ ماذا تقصد بأنواع الترويح المشروعة ؟ لم أفهم !
ـ للترويح أربعة أنواع تقريباً ( الفكري والفني والجسدي والسياحي ) كما صنّفهُ علماء النفس ..
أما الفكري فيتم من خلال استغلال الوقت بتغذية الفكر بالمطالعة والقراءة واكتساب المعلومات ، وخاصة إنك يا ملاذ قد تركتِ المدرسة في سن مبكر ، يعني انك بحاجة للاطلاع والقراءة لتكوني فتاة مثقفة مُلمّة بأفكار عصرها وعارفة بأمور العلم والدين معاً ... بل وحتى الذين وصلوا إلى درجة مرموقة في العلم والمعرفة سواء المعرفة الأكاديمية أو الدينية فسيبقون بحاجة إلى اكتساب أكثر ومعرفة أكبر ، وكما قال الشاعر :
قل للذي يدّعي في العلم معرفةٍ عرفت شيئاً وغابت عنك أشياءُ !
والترويح الفكري لا يقتصر على قراءة الكتب بل هناك المجلات المنوعة والمفيدة والصحف اليومية وكذلك البرامج الثقافية التي نشاهدها عبر الفضائيات كالمسابقات الثقافية والدينية ، فالتديّن يا ملاذ لا يعني أن نهجر التلفاز نهائياً بل أنهُ سلاح ذو حدين نستطيع الاستفادة منهُ أشدّ الاستفادة لو استطعنا التحكم الصحيح فيما نشاهده عبر هذه الشاشة ، فهناك بالإضافة إلى البرامج أخبار وتقارير تجعلنا مواكبين لآخر الأحداث في هذا العالم وكذلك الاكتشافات والتطورات في تيار العلم الحديث ، وهناك أيضاً قنوات ملتزمة تحاول بث أكبر عدد من المحاضرات الدينية والتوعوية لخطباء
المنبر ـ جزاهم الله خيراً ـ نستطيع أن ننهل منهم كثيراً من الحكم
والمواعظ والقصص النافعة و الطريفة في الوقت نفسه .
أما الترويح الفني فمن خلال ممارستك لأنواع الفن كفن الطبخ أو فن الخياطة والتطريز وكذلك فن الرسم والكتابة وغيرها ..
أما الترويح الجسدي فيكون عن طريق ممارسة الرياضة كل صباح أو بعد فترة القيلولة ـ أي بعد الظهيرة ـ فهي تزيد من النشاط والحيوية وتساعدنا في كسب طاقة إضافية تساعدنا على أعمالنا .
وأخيراً الترويح السياحي بأن تطلبي من والدك اصطحابك بين فترة وأخرى لزيارة العتبات المقدسة أو الأماكن ذات الطبيعة الخلابة أو زيارة الأقارب والأرحام فكل هذه الأمور تساعد في كسر الروتين اليومي وتزيد من الطاقة والنشاط وتقتل أوقات الفراغ بما هو نافع ومفيد .
قالت والدة منتظر محاولة إسناد رأي ولدها :
ـ كم جميل يا ملاذ أن تطلبي من والدك إحضارك إلينا كلّما شعرت بالوحدة والفراغ ؟
أظهرت ملاذ سرورها لهذا الاقتراح وارتياحها الشديد لكنها وما أن قفزت إلى بالها عصبية والدها واستياؤه من الفكرة حتى اعتذرت بالقول :
ـ لا أظن إنهُ بإمكاني زيارتكم يا خالتي ، فوالدي مشغول جداً ولن يستطيع إحضاري إليكم كلما أردت !
قال لها منتظر :
ـ سأرسل إليك بعض الكتب مع والدتي إن جاءت لزيارتك في المرة القادمة لتقرأيها في أوقات فراغك وأرجو أن تكون نافعة ومفيدة لك .. كذلك سأرسل معها أشرطة مسجلة لأحدث المحاضرات إن شاء الله .
شكرتهُ ملاذ كثيراً وكانت فرحتها كبيرة لما سيقدمهُ منتظر من خدمة جليلة لها في حصولها على تلك الوسائل التي ستزيد من معارفها وعلومها وستساعدها كثيراً في إشغال وقت الفراغ بأمور نافعة تُدنيها أكثر من الخالق جل وعلا.
عادت العائلة إلى منزلها بعد تلك الأُمسية ، وكانت أم منتظر مرتاحة جداً لتلك الزيارة وتكلّمت مع نفسها بخصوص إمكانية خطبة تلك الفتاة لأبنها منتظر !

الإيمان والحبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن