#الإيمان_والحب
.
✍رويدة الدعمي
.
الفصل الخامس عشر
.
جلس منتظر يُقلّب صفحات ذلك الكتاب الذي أهدتهُ إياه أمه في عيد ميلاده وقد مضى على تلك الحادثة سنة ونصف تقريباً ، فكّر مع نفسه قائلاً : لا أعرف إن كانت أمي مازالت تريدني أن أتزوج أم إنها غيّرت رأيها بعد كل هذه الفترة ؟!
قطع كلامه مع نفسهِ صوتٌ نتج عن طرق باب غرفته ، إنتبه كمن ينهض من النوم مرعوباً !
صاح : من ؟ من الطارق ؟
أجابه صوت والدهُ : أنا يا منتظر ، عندي خبر سعيد !
قال منتظر بلهفة بعد أن فتح الباب : خير إن شاء الله ؟
ـ كل الخير يا ولدي .. لقد قرر عمك فارس العودة إلى أرض الوطن بعد كل هذه السنين !
تهللت أسارير منتظر وهو يسمع هذا الخبر ، صاح وهو لا يصدق ما يسمع :
ـ ماذا عمي فارس ! هل تمزح يا أبي ...
ـ لا صدّقني يا بُني إنها الحقيقة ، لقد انتهيت من مهاتفته توّاً وقد
أكّد لي هذا الخبر .
كان فارس من أعز الأصدقاء لكريم وحامد .. إذ كانوا يشكلون ( الثلاثي الوفي ) بعلاقتهم الحميمة تلك .
أتصل أبو منتظر بصاحبه ليخبره بمجيء ثالثهم والذي فصلته الغربة عنهما ، رفع الهاتف ابو ملاذ وتبادل السلام مع أبي منتظر محاولين تناسي أحداث الخطبة وما تبعها من كسر قلوب وجرح مشاعر ... قال أبو منتظر بصوته الشجي الحنين :
ـ هل تعرف يا أبا ملاذ إن فارس سيرجع عن قريب ؟
ـ من ؟ فارس ! يا الله ! يا الله ! إنه لخبرٌ سعيد .
ـ نعم يا حامد سيرجع فارس وسيرجع لمّ الشمل كما كنا من قبل إن شاء الله .
وهنا حاول أبو ملاذ أن يُنهي المكالمة بأي طريقة كانت بعد أن تخيل ان العلاقة سترجع بينه وبين عائلة أبو منتظر !!
أقفل الهاتف وحاول أن لا يفكر إلاّ برؤية ذلك الصديق الحبيب فارس .
لقد كان فارس محبوباً لدى الجميع كباراً وصغاراً ، حيث كان يتمتع بشخصية قوية ولطيفة في الوقت ذاته ، سافر إلى الخارج ليكمل دراسة الماجستير والدكتوراه في العلوم الإسلامية وكان يمتلك قدرة كبيرة على الخطابة ونظم الشعر وكتابة المقالات الأدبية ، لذلك ما إن أكمل دراسته وأخذ شهادة الدكتوراه حتى صار أستاذاً للعلوم الإسلامية في إحدى الجامعات العربية في بلاد الغرب ورئيس تحرير لمجلة تعنى بالشباب ومشاكلهم .
جاء ذلك اليوم الذي أخبرهم فارس بموعده وهو يوم عودته لأرض الوطن مرةً أخرى .. لكنه لم يقل لهم أين يمكن أن يستقبلوه ! وفي أي وقت بالضبط !
لذلك كان كل من أبي منتظر وأبي ملاذ قد هيّأا منزليهما لاستقبال ذلك الضيف العزيز وهما في حالة من الإنتظار والترقب .
وفي تمام الساعة العاشرة صباحاً كان فارس يقف على أرض الوطن بعد فراق دام أكثر من ثمان سنوات وما ان لمست قدماه تلك الأرض حتى سجد لله شاكراً وأخذ يشمّ ويُقبّل ترابها وهو يردّد والدموع قد غسلت وجهه :
ـ ما أجمل العودة إليك يا وطني ! وما أطيب نسيم هوائك ...
اتجه إلى منزل أحد أقاربه في تلك البلدة ومن هناك أتصل بأبي منتظر ...
ودار بينهما هذا الحديث :
ـ السلامُ عليك يا أبا منتظر ..
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
ـ ألم تعرفني !؟
ـ عذراً .. لم أسمع صوتك من قبل !
ـ هل يمكن ذلك ؟ لكني اتصلت بك قبل ثلاثة أيام ... هل نسيت صوتي يا كريم !
ـ هل من المعقول إنك ... إنك ... فارس !
ـ ولِم لا يا كريم ؟
ـ ولكن صوتك تغيرّ عن كل مرة تكلمني فيها !
ـ السبب بسيط .. فكل مرة أُحدّثك والمسافات بيننا آلاف الكيلومترات
فيصلك صوتي ضعيفاً ومتقطعاً ، أما اليوم فأنا أُحدثك من داخل الوطن الحبيب !
ـ ماذا ؟ هل وصلت ! ولكن متى ؟ لماذا لم تأتِ إلى المنزل مباشرةً يا رجل !
ـ بصراحة لقد خفت أن أتجه إلى منزلك فيزعل أبو ملاذ أو أتجه إلى منزله فتزعل أنت ! وحلاً لهذه المشكلة فأنا الآن في بيت خالتي أم سالم .. وأطلب منكما أن تأتيا حالاً لأني بأشد الشوق لرؤيتكما .
ـ ثوانٍ ونكون عندك أيها الحبيب ، سأتصل بحامد حالاً ..
ـ لا ... لا يا صديقي ، سأتصل أنا به وأخبرهُ بما أخبرتك ، فلا تتأخر عليّ يا صاحبي ولا تنسى أن تجلب معك جميع أفراد عائلتك فإني بأشد الشوق إليهم .
وبعد ربع ساعة تقريباً كان أبو منتظر مع ولدهِ منتظر عند باب منزل أم سالم ...
طرق ابو منتظر الباب بيدين ترتجفان ، فتح الباب شاب في مقتبل العمر ، سلمّ عليه الاثنان وأدخلهما إلى داخل المنزل ، وفي غرفة الجلوس كان فارس قد جلس وإلتف حوله كل من خالته وأبناؤها ، وما أن دخل أبو منتظر حتى وقف فارس وقد تغيرت ملامحه .. فتح ذراعيه لاستقبال صاحبه وقد خنقتهُ العبرة .. رمى أبو منتظر بنفسهِ على صاحبه وهو يبكي كالأم الثكلى !
كان كل منهما قد وضع رأسه على كتف صاحبهِ وأخذا ينحبان دون أن يتكلما بكلمةٍ واحدة !
كانت لغة الدموع أقوى من لغة الكلمات .. بكى جميع من في الغرفة لحرارة الموقف ثم إلتفتَ فارس إلى الشاب القادم مع صاحبه ..
قال وهو يمسح دموعه ويمد يده نحو ذلك الشاب :
-هل أنت منتظر ؟!
رمى منتظر هو الآخر بنفسهِ نحو فارس وهو يردد بصوتٍ شجي حزين :
ـ نعم يا عماه .. أنا هو !
ـ لقد كبرت يا ولد ! تركتك طفلاً !
ابتسم منتظر وهو يمسح دموعه قائلاً :
ـ ليس إلى هذه الدرجة يا عم ! كنتُ حينها ابن السادسة عشر !
ضحك فارس ثم قال :
-ستبقى في نظري ذلك الطفل الذي ينتظر قدومي لأحمل إليه
البسكويت و الشوكولاته !
ضحك الجميع وجلسوا يتبادلون كلمات الشوق التي تُميّز ساعة اللقاء ، وبعد دقائق وصل أبو ملاذ الذي لم يستطع أن يُمسك نفسه عن البكاء هو الآخر ما إن وقعت عيناه على صاحبه الذي غيرته أيام الغربة كثيراً ، فصار نحيل الجسم قد ملأ الشيب رأسه ولحيته ..
وأخيراً التأمَ شمل الأصدقاء الثلاثة كما كان سابقاً ، وبعد حديث طويل سأل فارس صديقهُ كريم :
ـ لماذا لا أرى باقي أفراد الأسرة معك يا أبا منتظر ؟
ـ إنهم يهيئون المنزل لاستقبالك اليوم على العشاء !
ـ كان بودّي ذلك صدّقني ، لكنّي لا أستطيع اليوم والأيام القادمة كثيرة سأقسمها بينك وبين أبي ملاذ ! ولكن صحيح يا حامد ... كيف حال الصغيرة ملاذ ؟ ولماذا لم تجلبها معك ؟ كم اشتقتُ إلى رؤيتها !
ابتسم حامد وقال :
ـ إنها لم تعد صغيرة يا صاحبي .. ولقد أرادت المجيء معي لرؤيتك لكني أخبرتها إنك ستزورنا عن قريب ..
ـ نعم ... نعم إن شاء الله ، سأقضي هذا الأسبوع عند خالتي الغالية أم
سالم فهي تُذكرّني كثيراً بأمي رحمها الله .. والأسبوع الثاني سأقضيه معك والثالث مع أبي منتظر بإذنه تعالى .