الجزء الرابع

40 0 0
                                    

#الإيمان_والحب
✍رويدة الدعمي
.
الفصل الرابع
.
في ظهيرة ذلك اليوم كان الأربعة في مستشفى المدينة لإجراء الفحوصات ، وبعد إجرائها لملاذ ومنتظر معاً قام الطبيب بإعطائهم مدّة أسبوع كامل وبعدهُ فقط يمكن إجراء العملية ..
رأى منتظر إن هذه فرصة أرسلها الله لهُ ليوّضح كثيراً من الأمور لملاذ قبل أن تجري العملية لكليهما .
بعد تركهم المستشفى اتجهوا نحو أحد مطاعم تلك المدينة لتناول وجبة الغداء، وما إن انتهى الجميع من تناول الطعام حتى طلب والد ملاذ من أبي منتظر أن يشاطرهُ لعب البليارد ورغم إن الأخير كان لا يهوى أن يقضي وقته بتلك الأمور الصبيانية إلاّ إنهُ رأى من المحرج أن يرفض دعوة صديقه ، فأتجه نحو صالة البليارد في ذلك المطعم الضخم منصاعاً لرأي صاحبه ... بقى كل من منتظر وملاذ جالسين وكانت ملاذ تحاول أن تبدو طبيعية لكن حركتها وهي تضرب بالشوكة على الإناء الذي أمامها جعل منتظر يشعر باضطرابها فحاول كسر ذلك الصمت المقلق بقوله :
ـ هل مازلت على رأيك يا ملاذ ؟
ـ ماذا تقصد ... لم أفهم !
ـ لقد فكرتُ في كلامك الذي قلتهِ لي صباح هذا اليوم بخصوص ..
( صمت منتظر قليلاً ثم تابع كلامه ) بخصوص مشاعركِ تجاهي فوجدتها مشاعر لا صحة لها وغير حقيقية ..
ـ لماذا تحكم على مشاعري الصادقة تجاهك بهذهِ الطريقة يا منتظر ؟
ـ صدّقيني يا عزيزتي أنا لا أنظر إلى مشاعركِ بمنظار سلبي لكن .. هلاّ قلتِ لي متى بدأت مشاعركِ تلك اتجاهي ؟
ـ منذ أول لحظة رأيتك فيها .. أي في المرة الأولى التي جئت بها مع والدك إلى منزلنا .. لقد عشت يا منتظر وحيدة لا أعرف ما معنى الحنان ولا الحب .. أمي ماتت منذ ولادتي ! وأبي لا أراه طوال يومي إلاّ على مائدة العشاء!
لا أعرف أحداً في هذه الحياة غير أُناس مزيفين يأخذون أدواراً كاذبة في تلك الشاشة التي باتت سلوتي الوحيدة ..
كنت أكره الدراسة منذ المراحل الأولى لها وما ان فاتحت والدي بفكرة ترك المدرسة حتى وافق بدون أن ينصحني بكلمة واحدة !
نعم لقد تركت الدراسة ولي من العمر إثنا عشر سنة ومنذ ذلك الحين وإلى هذه الأيام وأنا أعيش بين أربعة جدران .. أتحدث مع نفسي وأحب أناساً مزيّفين لم ألتقهم أبداً ! وعندما رأيتك شعرت بأنني وجدت من سأبثهُ همي وحزني ومن سيُبدل أيامي إلى جنةٍ حقيقية .. آه يا منتظر صدّقني ...
قاطعها منتظر قائلاً :
ـ اسمعي يا ملاذ .. هناك أمور كثيرة يجب أن نتناقش فيها غير لغة الحب هذه التي تتحدثين بها ... فأن الحب ليس كما تتصورين أبداً والسعادة كذلك، فالأفلام والمسلسلات التي عشتِ مع قصصها وأحداثها جعلتك تنظرين إلى الحب بأنهُ ليس إلاّ ذلك الشعور الذي يربط الفتاة بفتى أحلامها، والسعادة ليست إلاّ تلك التي تجمع الفتاة بفارس أحلامها !!
كان كلام منتظر غير مفهوم بالنسبة لملاذ بل إنها صارت ترى كل كلمة منهُ محاولة لجرحها وإهانتها ..
قالت لهُ محاولة إخفاء مشاعرها المجروحة :
ـ أعرف إنك إنسان مؤمن ومتديّن لكن هل المؤمنون لا يعرفون الحب ؟
أجاب منتظر مبتسماً :
ـ وهل الإيمان إلاّ الحب ؟!
ـ ماذا تعني ؟
ـ أنهُ ليس قولي بل قول الإمام الصادق (عليه السلام ) عندما سألهُ أحدهم عن موقف الإيمان من الحب فقال (عليه السلام) : ( وهل الإيمان إلاّ الحب) والحديث على وجازتهِ يدلّنا على منزلة عظيمة للحب في رأي الإمام الصادق (عليه السلام) فكأنه يريد القول بأن الإيمان هو الحب كله وأن الحب هو الإيمان كله .. ولكن علينا أن نعرف هذا الحب القدسي الذي يُفسّرالإمام به الإيمان ..
شعرت ملاذ بأن منتظر يحاول التهرب من سؤالها فعاودت السؤال ولكن بصيغة أخرى :
ـ ألم تعرف الحب طوال حياتك يا منتظر ؟
ـ بل أنا منذ صغري عرفتُ هذه الكلمة وصرتُ أعيش معها لحظةً بلحظة.
ـ وكيف .. ومن هي تلك التي بادلتها ذلك الحب ؟
ـ انظري .. ألم أقل لكِ بأنكِ تنظرين إلى الحب بأنهُ فقط ذلك الشعور الذي يربطني بالجنس الآخر !! أنتِ على خطأ يا ملاذ ... عندما أقول بأني عرفت الحب وعشته بكل أبعاده لا يعني إنهُ يجب أن تكون هناك فتاة تبادلني ذلك الحب .. أرجوكِ كوني أكثر تصوّراً لما أريد قوله .. الحب شعور جميل ، حرام علينا أن نحصرهُ بتلك الأطر المادية فقط !
هنا أحمر وجه ملاذ عندما وجدت ان منتظر صار يتكلم بجرءة وإهتمام بالغ ..
أكمل منتظر بنبرة أكثر حدّة تعلن عن الرفض :
ـ إن ما علمّهُ إياك التلفازعن الحب هي معلومات خاطئة لأن هؤلاء ( الفنّانين ) والذين هم ليسوا بفنانين أصلاً إنما يريدون أن يبثوا سمومهم وقاذورات أفكارهم إلى الفتيات البريئات مثلكِ ولأنكِ بتلك الأفكار الغربية صرتِ مثلهم تظنين أن الحب والعشق كلمات لا يمكن استعمالها إلاّ بين الفتى والفتاة وهذا تشويه للصورة الحقيقية لهذه الكلمة الطاهرة ... والإسلام الذي ننتمي إليه يا ملاذ هو دينُ المحبة الصادقة ، لا يعجبهُ هذا اللون المشوّه من الحب وبالأحرى هذا التدنيس لطهارة الحب ... حب الشهوة الوضيعة والغايات
المتدنية .
الحب سامٍ لأنه علاقة بين أرواح فيجب أن يكون شريف الخاتمة ، والشريعة الإسلامية مثالية في جميع أحكامها فيجب أن تكون مثالية في حبها أيضاً .
ـ إذاً كيف يمكن تعريف الحب حسب رأيك يا منتظر ؟
ـ الحب هو ذلك الشعـور الأول والصلة الأولى التي تتكون بين العبـد وربّـه ـ أي بين المخلوق وخالقه ـ لذلك قلتُ لكِ بأني شعرت بالحب منذ صغري لأنني احسستُ بقوة عظيمة تربطني بربي فصرتُ أحبهُ بل اعشقهُ حتى صرتُ مغرماً بهِ .
ـ وهل يعني أنهُ لا يوجد في قلبك غير حب الرب يا منتظر ؟
ـ لم أقل ذلك ... لكن لو كان حبنا الأول لله سيكون كل حب بعد ذلك حُبّاً سليماً طاهراً عفيفاً .. وقد تسأليني : كيف ؟
فأقـول لكِ : عندمـا أحببت الله صـرتُ أبحـث عن كل من يعشـق الله كمــا أعشقه وبالتالي فلم أحب في حياتي إلاّ مؤمناً محبّاً لله عارفاً بحقّهِ .
نعم يا ملاذ .. المؤمن يكون قلبه رقيقاً وعاشقاً محبا..ً فأنا الآن
أمامكِ ، أتمنى أن أحب جميع هؤلاء الناس ... أساعدهم وأتحدث معهم وأسمع منهم وأن تكون بيني وبينهم علاقة محبة وود على شرط أن يكونوا مُحبين لله ومُطيعين لهُ في أمور دينهم ودُنياهم .
وأرجع إلى مشاعركِ اتجاهي فأنتِ تقولين إنكِ منذ اللحظة الأولى التي رأيتني فيها شعرتِ بذلك الشعور الذي أسميتهِ ( حباً ) وأنا أقول أنه ليس كذلك بل إنهُ ( نزوة عابرة ) جاءت نتيجة الحصار الذي كنتِ تعيشينه في داخلك والضيق والوحدة ، فأنت بنفسكِ قلتِ بأنكِ ما كنت تعرفين غير أُناس لم تلتقِهم أبداً إلاّ عبر شاشة التلفاز وفجأة تجدين شاباً أمامك على أرض الواقع وقد يكون أول شاب تلتقين به فعلاً وليس في الأحلام فتحولت كل إحساساتك وتصوراتك من أرض الخيال إلى أرض الواقع فظننتِ إنك تحبين ذلك الشاب الذي هو أنا ... !!
وهنا أسألك هذا السؤال : ما الذي عرفتِه عني منذ أول وهلة ، هل أنا متواضع أم متكبر ؟ مجنون أم عاقل ؟ مثقف أم جاهل؟ ها..تكلمي يا ملاذ؟
( تصمت ملاذ بدون أي جواب ) ويكمل منتظر :
ـ أنتِ لم تميّزي في تلك اللحظة غير ملامحي الظاهرية ، بل حتى لم تعرفي حينها لماذا كـُنت مصمماً على مساعدتك ولأي غرض .. ألا يمكن أن يكون لغرض دنيوي أو شخصي مثلاً ؟! فكيف شعرتِ بذلك الإحساس بدون أن تعرفي أي شيءعني سوى شكلي الظاهري ؟! فهذه يا عزيزتي كما قلتُ لكِ ( نزوة ) تَدخّلَ فيها الحصار النفسي
الذي كنتِ تعيشينه وكذلك فالتدخل الأكبر كان من قبل الشيطان الذي كان ينتظر الفرصة بعدما هيأ لكِ من أجواء الإغواء ما فيه الكفاية طوال هذه السنين ـ من خلال تلك الشاشة ـ فأنتقل ومنذ أول فرصة إلى تطبيق هذه الأوهام عليك بدون أن تشعري ، عندما أوهمكِ بأنك وجدتِ الحبيب الواقعي وفارس الأحلام كما يحدث في المسلسلات والأفلام !
ـ إذاً يا منتظر تريد أن تقول لي بأن هذه المشاعر مجرد نزوة عابرة ستنتهي يوماً ما ، إذاً متى يكون الحب صادقاً وحقيقياً لا تتدخل فيه النزوات أوالشياطين ؟!
ـ سؤال مهم وجميل في نفس الوقت ، اسمعي يا ملاذ : إن الإنسان مجبول منذ فطرته على استحسان ( الكمال ) فكلما كان الشيء كاملاً أحببتهِ أكثر وكلما كان العمل كاملاً لاقى الاستحسان والقبول ، وليس الحب شيئاً جزافاً يُكال بالمكاييل ، ولا ينشأ مصادفةً من غير سبب بل كما قلت أنهُ الشعور الرائع الذي ينتج من انجذابنا للأشياء الكاملة فإذا نظرنا للحب من هذه الناحية الواقعية سنجد إن أول وأكثر من يستحق حبنا هو ( الله ) لأنهُ غاية الكمال والمتنزّه عن أي نقص ولأنه الكامل المطلق الذي يجب أن يُحب ، ثم من يستحق
حبنا من بعد الله سبحانه وتعالى هم أولياؤه الصالحون لأنهم عشقوه وأحبّوه فاتصفوا بصفاته الكاملة وصاروا وجه الله في الأرض .. فتجدين إن فلاناً صار عاشقاً ولهاً برسول الله (صلى الله عليه واله) ، وثانياً أحبّ كمال وجمال يوسف (عليه السلام) فصار يتغنى بذلك الجمال الإلهي ، وثالثاً جذبتهُ شخصية الإمام علي (عليه السلام) وشجاعته وعدالته فراح يترنم بهذه الصفات ويمدحها ، ورابعاً عشق الزهراء (سلام الله عليها) لأنها من العفّة والطهارة مما لا نجدهُ في امرأة أخرى ، وآخر تعلّق قلبه بطاووس أهل الجنة
ويوسف آل محمد ( الإمام المهدي ) روحي فداه .. فصار ذائباً في حبهِ ومتيماً به .
ويؤكد كلامي هذا هو قول الرسول (صلى الله عليه واله) : (( أحبّوا الله لما يغذوكم من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبّوا أهل بيتي لحبي )) وقد أخرج هذا الحديث جمعٌ من أئمة الحديث ورواته من الفريقين ولو تمعّنا في هذا الحديث الشريف لرأينا إن الرسول (صلى الله عليه واله) يجعل حبهُ إمتداداً لحب الله ويجعل حب أهل بيته امتداداً لحبه الذي هونابع من حب الله ...
إذاً يبقى المصدر الأول هو ( حب الله ) وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) : (( القلب حرم الله ، فلا تُسكن حرم الله غير الله )) والتعبير عن القلب هنا بأنه (( حَرَم )) هو تعبير دقيق جداً ، فإن الحرم منطقة آمنة ومُغلقة لا يدخلها غريب فكذلك القلب حرم الله الآمن لا يدخلهُ حب آخر غير حب الله إلاّ أن يكون ذلك الحب في امتداد حب الله كما ذكرتُ لكِ قبل قليل ..
لذلك حتى حبّنا لمن حولنا من الآباء والأمهات والأخوة والأقارب يجب أن يكون مصدره هو (( حب الله )) أي أن نحبهم في الله أما إن كانوا يسيرون في الاتجاه المعاكس أي في طريق الشيطان ـ والعياذ بالله ـ فعلينا أن نكون حذرين في حبّنا وودّنا لهم ماداموا من المبغضين عند الله تعالى فيجب حينها أن نقلّص من حجم الحب والود لهم إلى أن يعودوا إلى درب الله ..
فليس للمؤمن أن يرسل عواطفه كما يشاء ، وأينما يشاء ، ولا أن يمدّ علاقاته وميوله كما يريد ، وإنما يجب عليه أن يجعل حبهُ لله هو الحاكم في هذه العلاقات والميول بشكل دقيق إن كان صادقاً في حبه لله ..
ـ لكن ألا ترى يا منتظر إن اخلاص الحب لله شيء صعب ! خاصةً إذا نظرنا إلى
فطرة الإنسان وطبيعته فإنهُ وكما قلت أنت في بداية الحديث بأنه مجبول على حب الجمال والكمال ، كما إن الله فطر الإنسان على حب أشياء كثيرة ، فكيف يجمع الإنسان بين هذه الفطرة وبين لزوم إخلاص حبّه لله ؟!
ابتسم منتظر ثم أجاب :
ـ إن إخلاص الحب لله يا ملاذ ليس بمعنى التنكّر للفطرة ، لا .. أبداً !وإنما هو بمعنى توجيه الحب والكره من خلال ما يحب الله تعالى وما يكرهه .. فنحب الذين أحبهم الله وأحبوه ونبتعد عن الذين عصوا الله وأغضبوه .
وأخيراً اسمعي هذا النص الرائع الذي قرأته في كتاب ( بحار الأنوار ) الجزء السبعون وحفظته على ظهر قلب لما فيه من تعبير جميل ووصف لصورة العلاقة المتبادلة بين الله تعالى وعبده المخلص وإليك هذا النص : (( كان فيما أوحى الله تعالى إلى داوود ( عليه السلام ) : يا داوود أبلغ أهل الأرض إني حبيب من أحبني وجليس من جالسني ، ومؤنس لمن آنس بذكري ، وصاحب
لمن صاحبني ... من طلبني بالحق وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني !فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ، وهلّموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي ... وآنسوني أؤنسكم وأُسارعُ إلى محبتكم )) .
أغرورقت عينا ملاذ بالدموع وهي تستمع إلى ذلك الخطاب الإلهي وتلك الكلمات الربّانية ..
وتمنّت لو إن منتظر يستمر في حديثه هذا فلقد شعرت إن هذه الكلمات الأخيرة التي رددّها منتظر هي نداء من الله لها لئن تدخل حظيرة قدسه وجلاله وتتذوق حلاوة الحب الإلهي بعد سنوات من الغفلة والضلال !
لقد شعرت ولأول مرة بأن قلبها تعلّق بالخالق بعد أن ابتعد عنهُ كل هذه السنين .
قام منتظر من مكانه يبحث عن الرجلين .. أما ملاذ فلقد استغلت ذهاب منتظر وبقائها لوحدها فصارت تردد من أعماق قلبها إسم الحبيب الجديد .. الله ...الله ... الله

الإيمان والحبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن