#الإيمان_والحب
.
✍رويدة الدعمي
.
الحلقة الأخيرة
.
منذ الصباح كان فارس يستعد للاتجاه نحو منزل أبي ملاذ فهو لم ينسَ أنه وعد ملاذ بالمكوث عندهم يوماً إضافياً قبل سفرهِ .
خرج من غرفته التي خصصها كريم لهُ متجهاً نحو غرفة الجلوس حيث الجميع هناك لتوديعه ، وقبل أن يدخل غرفة الجلوس سمع صوت أم منتظر تناديه وهي تقف عند باب المطبخ :
-أخي فارس ..إلتفت فرآها واقفة وتُشير إليه قائلة :
-أرجوك .. قبل أن تدخل إلى الغرفة ، عندي كلام معك !
إتجه فارس نحوها وقد لاحظ علامات الحزن عليها .. قالت بصوتٍ شجي :
-أيها الأخ العزيز .. صدّقني يصعب علينا فراقك فلقد كنت واحداً منّا ولا تزال ، ولقد احبك الأولاد كثيراً وسيحزن الجميع لرحيلك .
أطرق فارس خجلاً من هذا الثناء وهو يردد كلمات الشكر والإمتنان ، ثم أكملت أم منتظر قائلة :
ـ وقبل أن ترحل .. هل لك أن تُسدي لأختك أم منتظر خدمة سوف لن تنساها طول حياتها !
ـ آه .. تفضلي يا أختاه ، أنا خادمكم يا أم منتظر .
ـ أستغفر الله يا أخي .. كلنا خدم وعبيد لله .
ـ ماذا هناك يا أم منتظر ؟ هل يوجد شيء لا سمح الله ؟
ـ إنهُ بخصوص منتظر ، لقد تركته وكان في عمر السادسة عشر تقريباً وعدتَ من السفر وهو في عمر الخامسة والعشرين وهو إلى الآن لم يتزوج كما ترى ..
ابتسم فارس وقال :
-عرفتُ ما يدور في خُلدك يا أُخيّة ! تُريديني أن أتحدث مع حامد بخصوص ابنتهُ ملاذ ومسألة خطوبتها لمنتظر.. صح !
ـ لكن ... كيف عرفت ؟ !
ضحك فارس قائلاً :
-أما عن كيفية معرفتي بالأمر فهو سر لا أستطيع البوح به ! وأما عن حديثي مع حامد بخصوص موضوع منتظر فصدّقيني أنا ذاهب اليوم إليهم من أجل هذا الموضوع !
قالت أم منتظر وقد لمح فارس الدموع في عينيها :
ـ لقد قرأت في كتاب وسائل الشيعة حديثاً عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) عن الذي يسعى في تزويج أخيه المسلم يقول فيه : (( ثلاثة يستظلون بظل عرش الله يوم لا ظلّ إلاّ ظله ، رجل زوّج أخاه المسلم ، أو أخدمه ، أو كتم لهُ سراً )) فعسى أن تكون أحد هؤلاء الثلاثة يا أخي فارس ، ستكون أنت أملنا من بعد الله سبحانه وتعالى .. وأظن أن أبا ملاذ وبحكم الصداقة التي تجمعكما معاً وبحكم قُدرتك الكبيرة على الإقناع فأنهُ سيتفهم الأمر ويوافق .
ـ إنها أمنيتي يا أم منتظر ، أن أرى ملاذ ومنتظر وقد جمعهما منزلٌ واحد .
ـ يسمع الله منك يا أخي ! لقد صبر منتظر كثيراً وعسى الله أن يجعل في تدخلك خيراً ونهايةً مباركة لهذا الصبر !
ـ وأنا أظن ذلك إن شاء الله ، لذلك أنا متفائل جداً وسأتوكل على الله في محاولة إقناعه .
ـ إن اقتنع أبو ملاذ فعلاً وحصلت الخطبة ثم الزواج فستكون يا أخي من الذين قال عنهم الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته ( عليهم السلام ) : (( من عمل في تزويج حلال حتى يجمع الله بينهما زوّجهُ الله من حور العين وكان له بكل خطوة خطاها وكلمة تكلمّ بها عبادة سنة )) .
ابتسم فارس ثم قال :
ـ أدعو من الله أن يوفقني لأكون عند حسن ظنكم بي .
بعدما وعد فارس أم منتظر بالتدخّل السريع لايجاد حل لقضية ولدها دخل غرفة الجلوس وصار يُسلّم عليهم مبتدئاً بالصغار الذين كانوا مستاءين جدّاً لفراقهِ وقد ودّعوه بالدموع والقُبلات الحارة حتى وصل إلى منتظر الذي قال محاولاً إخفاء دموعه :
ـ أنا لن أودّعك الآن يا عم لأنني سأرافقك بعد غد إلى المطار كما اتفقنا !
ثم قال أبو منتظر :
ـ وأنا كذلك ! سنلتقي هناك يا فارس بعد أن تتصل بنا يوم غد لتُخبرنا بموعد إقلاع الطائرة ...
ـ ولكن هذا يعني إنكما يجب أن ترافقاني إلى العاصمة .. حيث المطار !
أجاب منتظر بسرعة :
ـ وماذا يعني ذلك ؟! السيارة موجودة .
ثم ضرب على صدره وقال : والسائق موجود !
ابتسم الجميع وقد اختلطت ابتسامتهم تلك بدموع الفراق .. بعد ذلك رافقوا فارس إلى الباب وقد قام منتظر بإيصاله بسيارته إلى بيت حامد حيث سيقضي آخر يوم قبل سفره هناك .
* * *
قضى فارس تلك الليلة مع صاحبه أبي ملاذ بالتحدث في أمور مختلفة لكنهُ لم يتطرق إلى الأمر الذي جاء من أجله !
وفي اليوم التالي حيث لم يذهب فيه أبو ملاذ إلى عمله لأجل قضاء ذلك اليوم مع ضيفه ، كان فارس عازماً على إقناع صاحبه بما يروم التحدث فيه .
قال لهُ وهما يتناولان الشاي :
ـ سأستغل تواجد ملاذ في غرفتها لأسألك يا حامد عن أمرٍ يشغلني كثيراً ..
ـ وما هو يا صاحبي ؟
ـ ما سبب رفضك لمنتظر عندما تقدّم لخطبة ملاذ ؟
ـ أوه ... هل غسلوا دماغك أنت أيضاً ؟
ـ ماذا ؟ غسلوا دماغي ! ثم من هو الذي ( غسلوا دماغه ) قبلي !؟
ـ ملاذ .. ابنتي !
ـ إتّقِ الله يا رجل ، هل لأنهم أنقذوها من الضلالة وجعلوها تُبصر النور .. فيكونون كما وصفتهم !
ـ ماذا تقصد يا فارس .. هل إنني جعلت ابنتي تعيش في ضلالة كل تلك السنوات ؟
ـ للأسف يا حامد ... نعم ! ولا داعي أن أوّضح أكثر فأنت تفهم ما أعني جيداً !
أطرق حامد برأسه إلى الأرض دون رد ، وأكمل فارس كلامه بصوت لا يخلو من نبرة الألم والعتاب :
ـ ثم متى قصّر معك كريم في شيء حتى تحاربهُ هكذا ؟ لقد وهب لك حياة ولدهُ بلا ثمن ثم تردّ إليه الجميل بهذا الجحود وعدم العرفان ! قل لي يا حامد.. ماذا لو كان كريم قد فقد ولدهُ في تلك العملية بعدما حصل لهُ من مضاعفات كادت تودي بحياته ! فما الذي كان سيقبضهُ منك حينها ؟!
لقد جازف صاحبنا كثيراً يا حامد حين وافق على تعريض ولده لخطر الموت من أجل إسعادك وإنقاذ ابنتك ..
إن أمرك عجيب يا رجل ! ربّك لا تريد شكرهُ ومن يُقدم لك المساعدة ليس فقط لا تشكره بل تحاول إهانته وإبعاده عن دربك ! ما بك يا حامد هل ركب الشيطان رأسك إلى هذه الدرجة ؟!
لقد احترمتُ فارق العمر الذي بيننا وكنتُ دائماً أصغي إليكما وأُذعن
لأمركما أنت وكريم لأنكما تكبرانني بكثير ، لكن الآن يا أخي فلقد طفح الكيل !
قال حامد محاولاً تهدئته :
ـ ما بك يا فارس ، لماذا تضخّم الأمور ؟
أجاب فارس محاولاً السيطرة على أعصابه :
ـ أنا لا أضخم الأمور أبداً ..
قل لي يا أبا ملاذ ما هي عيوب منتظر التي دعتك إلى رفضه ؟
ـ في ذلك الوقت أي عندما تقدم لخطبة ملاذ كان لا يملك شيئاً ، فخفتُ على مستقبل ابنتي معه .
ـ يعني رفضتهُ بسبب فَقرهِ ؟!
ـ تقريباً ...
ـ هل هذا سبب عُقلائي يا صاحبي .. قل لي عندما قبلت بك أم ملاذ (( رحمها الله )) ماذا كان عندك ؟
ثم ألم تسمع قوله تعالى : ((وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )) ، وبعدها تأتي أنت لترفض ذلك الشاب فقط لأنهُ فقير !
ـ ليس هذا السبب الوحيد يا فارس .. فلقد شعرت حينها بأنني محتاج إلى تواجد ملاذ معي فالوقت مازال مبكراً لزواجها وتركها إياي ! وخاصة إنني قد تعودت على تواجدها معي منذ وفاة والدتها رحمها الله ولم أفارقها يوماً أبداً ، لذلك كنت خائفاً من معاناة الوحدة لوهي تزوجت وتركت المنزل .
ـ هذا ليس سبب معقولاً أيضاً ! فالذي أعرفه إن ابنتك كان عمرها في حدود العشرين أو أكثر عندما تقدّم منتظر لخطبتها ، يعني إنه كان قد مرّ على دخولها سن التكليف أحد عشر سنة ! فكيف تقول مازال الوقت مبكراً لتزويجها ... !؟
ثم اسمع هذا الحديث الشريف وأعطني رأيك فيه .. جاء في الكتب الموثوقة ومنها كتاب بحار الأنوار إنهُ نزل جبرائيل على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال : (( يا محمد إن ربك يُقرئك السلام ويقول : إن الأبكار من النساء بمنزلة الثمر على الشجر فإذا أينع فلا دواء لهُ إلاّ اجتنائه وإلا أفسدته الشمس وغيرته الريح ، وإن الأبكار إذا أدركن ما تُدرك النساء فلا دواء لهن إلا البعول ـ أي الأزواج ـ وإلاّ لم يُؤمن عليهن الفتنة )) .
ها يا صاحبي .. ! ما رأيك ؟ هذه توصية من الله سبحانه وتعالى إلى رسولهِ الكريم ليُخبر بها أبناء أمته بأن الفتاة إذا صارت بمنزلة النساء فيجب تزويجها وإلاّ فقد تنحرف إلى طريق الشيطان وهذا ما أسماه الله بالـ ( فتنة ) ...
ـ لكنّ ابنتي من الصالحات كما ترى يا فارس ! ولا أظنها سوف تنحرف إلى طريقٍ آخر أبداً !
ابتسم فارس وقال :
ـ سبحان الله الآن صرت تعترف بأنها فتاة صالحة ! أولاً يا حامد هي ما كانت كذلك قبل أن تلتقي بمنتظر ! وأنت تُدرك تماماً إنهُ كان صاحب الفضل بعد الله طبعاً في هداية ابنتك وإصلاحها بعدما أفسدتها حياة الفن والطرب التي كنت أنت من هيأها لها !
ثم هل تعرف بأن ابنتك كان من السهولة أن تنحرف لولا إيمان ذلك الشاب وخوفه من الله فلو إن شخصاً غيره كان مكانهُ لاستغل جهل ملاذ وعاطفتها الشديدة نحوه ولأرتكب حراماً معها والعياذُ بالله !
قال حامد متسائلاً :
ـ ماذا ؟ عاطفتها الشديدة نحوه ! ماذا تقصد ..
ـ لا توهمني بأنك لا تعرف ! فأنت أكثر شخص يعرف إن ملاذ قد تعلقت بمنتظر منذ أول مرة رأتهُ فيها حين عرفت بأنهُ ينوي مساعدتها ، كانت مستعدة أن تفعل كل شيء لأجل إرضائه حتى لو كان ذلك الشيء حراماً أو يُسيء إلى سمعتها ، فهي كانت في وضع لا تُميّز فيه بين الخطأ و الصواب أو الحلال والحرام أبداً .
( صمت حامد وكأنهُ إعترف بخطئهِ وبصحة ما يقوله فارس ) ثم أكمل الأخير قائلاً :
ـ هل تعرف يا حامد ما هي عقوبة من يحاول تأخير زواج ابنته !؟ أنا اقول لك: عقوبته جهنم وبئس المصير !!
ثم أكمل فارس بألم :
-إتّق الله يا رجل ولا يوسوس لك الشيطان ، فأن هذا المخلوق ـ إبليس اللعين ـ ليس من مصلحته أبداً أن يجمع الله بين اثنين في الحلال ! فهو يُريد أن تجري الأمور نحو الحرام دائماً !! كما إنه يعرف بأن الشباب إذا بقوا بدون زواج ستكون السيطرة عليهم أسهل ! وبذلك ستعم الفتن وكذلك الفساد وهذا بالضبط ما أشار إليه الرسول (صلى الله عليه وآله)في قوله : (( إذا جاءكم من ترضون دينه وخُلقه فزوّجوه ، وإلاّ تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٍ )) ، فهنا يضع الرسول شرطين للرجل الكفؤ وهو أن يكون (خلوقاً ومتديناً ) ولم يقل غنياً أو جميلاً أو ...
ثم من يضمن لك أن الغني سيبقى كذلك طول عمره ؟! والفقير سيبقى فقيراً إلى نهاية حياته !
ومن سيضمن لك بأنها ستنال السعادة مع المال والمكانة المرموقة فقد يكون الزوج غني المال فقير الأخلاق !
أما إن كان غني الأخلاق و الدين فستعيش المرأة معه في سعادة تامة لما يُغدق عليها من أخلاقه وعلمهُ ، فقد تستطيع المرأة وخاصة الصالحة أن تتحمل فقر زوجها وقلّة ذات اليد ولكنها لا تستطيع أن تتحمل سوء أخلاقه واستعبادهُ لها !
أما إذا قلت بأنها غالية عندك وتريد من زوجها أن يقدّر ثمنها فأعلم إن المرأة إذا كانت صالحة لا تُقدّر بثمن ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنهُ قال : (( .. فأما صالحتهن فليس خطرها ـ أي قيمتها ـ الذهب والفضة ، هي خيرٌ من الذهب والفضة )).
وأخيراً أقول لك يا صاحبي ما قاله احد المفكرين بأن المرأة الفاضلة كتاب لا يقرأهُ إلا المؤمنون ..
وابنتك وبما إنك اعترفت بنفسك بأنها (فاضلة) فسوف لا تستطيع أن تعيش إلا مع إنسان مؤمن يُقدّر إيمانها وعفّتها .. ولو إنك أعطيتها لغير هذا الشاب فستكون قد ظلمتها وحكمت عليها بالسجن المؤبّد طيلة حياتها !!
قال أبو ملاذ في محاولة لتبرير موقفهِ :
ـ ولكن ألم يُشجع الإسلام على إن الفتاة يجب أن يكون لها مهر ... ؟
ومنتظر لم يكن يملك حينها شيئاً !
ـ أولاً يا أبا ملاذ إن الإسلام مثلما وضع ( المهر ) كرمز لحفظ كرامة المرأة وتبيان قدرها فهو في الوقت نفسه شجّع على قلّة المهور وذلك في حديث للرسول (صلى الله عليه وآله)
: (( خير نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلّهن مهراً .. )) .
وثانياً إن منتظر لم يكن إلى هذه الدرجة من الفقر ، فلو إنك كنت وافقت لسهّل الله الكثير من الأمور خاصةً إذا كانت طلباتك عقلائية لا تقصم الظهر !
وثالثاً ها هو منتظر الآن يملك ما شاء الله فهو يستلم أعلى مرتب يمكن أن يتقاضاه أي موظف في هذه الأيام ، كما إن لديه سيارة وأرضاً سيبدأ في البناء عليها عن قريب .. فماذا تُريد أكثر من هذا ؟!
وحتى ولو لم يكن منتظر قد ملك هذه الأمور فكان الأولى بك أن تستحِ من الله أولاً ومن نفسك ثانياً وأن تضع عقوبة الله أمام عينيك وأنت تحاول أن تُبقي ابنتك هكذا بلا زواج مع إنهُ نصف الدين ..
قام فارس وهو يقول :
ـ فكّر بالأمر جيداً يا حامد وإن بقيت على عنادك هذا ، فأنك ستحكم على علاقتنا بالموت ، وعلى نفسك بالخلود في نار جهنم حيث لا ينفع الندم أبداً لأنك ظلمت ابنتك ونفسك معاً .
في تلك الليلة اتصل فارس بأبي منتظر وأخبرهُ بأنهُ حجز على الطائرة التي ستقلع في الساعة التاسعة صباحاً ، قال لهُ أبو منتظر : سنكون أنا ومنتظر عندك في الساعة السابعة والنصف فالطريق إلى العاصمة يستغرق أكثر من ساعة تقريباً ..
وفي الوقت المحدد سمع صوت سيارة منتظر تقف أمام الدار فقام بتوديع ملاذ ، ثم حضن صاحبهُ وقد همس في أُذنه بالقول : فكّر جيداً بما تحدثنا به ليلة أمس .. أريد وأنا في بلاد الغُربة أن أسمع أخباراً تُفرح القلب .
خرج فوجد الإثنين ينتظرانه في السيارة ، صعد وألقى التحية ثم انطلق الثلاثة في الطريق إلى العاصمة حيث المطار .. وهناك لم يحتمل منتظر ألم لحظة الفراق هذه ..
حضن فارس ودموعهُ قد سبقت الكلمات ودّعه وأتّجه نحو السيارة .. جلس فيها ينتظر مجيء والده فهو لا يُريد رؤية فارس وهو يصعد إلى تلك الطائرة تاركاً الوطن والأحباب .
* * *
مضى على سفر فارس شهر تقريباً ، كانت ملاذ في هذه الفترة تُلاحظ تغيرات كثيرة على والدها ! لقد قرر أخيراً أن يُصليّ !
بل وإنهُ صار يُكثر من الصلاة في محاولة لقضاء ما فاته طوال خمسين سنة مضت ..
شعرت ملاذ بأن هذه التغيرات ماهي إلاّ بتأثير كلمات فارس به .. فلقد طلبت منهُ أن يكلمه بخصوص الصلاة ولكن كيف اقتنع والدها بعد كل هذا العناد ؟
كانت فرحة ملاذ لا توصف وهي ترى إن والدها صارت حالته تتغير يوماً بعد يوم نحو الأحسن .. صار يُحسن من معاملتها وكثيراً ما يحاول ممازحتها وفي بعض الأحيان يطلب منها أن تختار أي مكان ليأخذها إليه !
وفي إحدى تلك الليالي قال لها بعد إكمال وجبة العشاء :
ـ ما رأيك يا ملاذ لو نقوم غداً بزيارة بيت عمك أبي منتظر ؟
ـ ماذا ؟!
ـ ها .. لم تقولي رأيك ؟
ـ حسناً حسناً يا أبي .. الأمر في النهاية لك !
ـ حسناً إذاً .. سأتصل الآن بكريم وأخبره بالأمر لكن .. لا ، سنجعلها مفاجأة !
لم تعرف ملاذ ماذا تقول فالمفاجآت صارت كثيرة هذه الأيام !
وفعلاً في مساء اليوم التالي رافقت والدها إلى دار العم كريم ، وهناك كانت مفاجأة فعلاً لجميع أفراد العائلة .. !
كان أبو ملاذ يبدو شخصاً آخر ، مما حدى بمنتظر ووالده أن يتبادلا بين فترة وأخرى نظرات التعجّب والاستغراب !
ولكن أم منتظر كانت شُبه متأكدة من أن فارس قد فعلها وكلّم صاحبه بالموضوع ، مما جعله يبدو شخصاً آخر تماماً !! قالت هامسة وهي تميل برأسها نحو ملاذ :
ـ ألا ترين بأن والدك قد تغير تماماً ؟!!
أجابت ملاذ وهي تحاول أن تخفض صوتها :
ـ ليست أخلاقه فقط يا خالتي ، لقد صار ملتزماً بكل شيء وأهمها الصلاة ! .. أظن إن عمي فارس قد كلّمهُ محاولاً هدايته .
ـ لا تظنّي ذلك ، بل تأكدي من إن فارس قد كلمهُ فعلاً .
وفي تلك الأثناء قامت أم منتظر إلى المطبخ ولحقتها ملاذ ، أما منتظر وأخوته فقد كانوا يجلسون أمام التلفاز منشدّين لمعرفة نتيجة الفريق الوطني الذي خاض مباراة مهمة بكرة القدم مع أحد المنتخبات الأجنبية .
استغل حامد انشغال الجميع فتحدّث مع صاحبه قائلاً :
ـ يقولون يا أبا منتظر ( إخطب لابنتك ولا تخطب لابنك ) ولذلك فها أنا اليوم أتيتك لأخطب ولدك منتظر لأبنتي ملاذ !
فتح كريم عينيه أكثر في محاولة للتأكد من إن الذي أمامه هو صاحبه حامد فعلاً !
قال وهو غير مصدّق لما يسمع :
ـ أبو ملاذ .. أرجو إعادة ما تفضلّت به قبل قليل ! فأظنني لم أسمع جيداً !
قال حامد مبتسماً :
ـ أرجو أن لا تجعلها واحدةً بواحدة وتُرجعني خائباً كما فعلتها بك سابقاً !
ـ لكن يا صاحبي .. هل أنت متأكد مما تقول ؟
ـ أبو منتظر .. هل توافق على زواج ابنك من ابنتي أم لا ؟
قال أبو ملاذ هذه الجملة وقد بدا جادّاً في كلامه ، فبادره أبو منتظر بالقول :
ـ وكيف لا أوافق يا صاحبي !؟ وأنت تعرف إن هذه أُمنيتي منذ زمن .
ـ حسناً .. وهي الآن أُمنيتي أيضاً ، فمتى سيكون إعلان الأمر إن شاء الله ؟
ـ على راحتك يا صاحبي ، أتريد أن نُعلن عنهُ اليوم .. أنا مستعد !
ـ وأنا كذلك ، بعد العشاء سنعملها مفاجأة للجميع !
وبعد أن إنتهى الجميع من تناول العشاء قالت أم منتظر لابنتها الصغيرة :
- قومي وساعدي ملاذ في رفع الأواني من المائدة لأقوم أنا بصب الشاي ..
قال زوجها مقاطعاً إياها :
-لا يا أم منتظر .. اتركي الشاي اليوم وليكن عصيراً فالليلة ليلة فرح !
تعجبت المرأة من كلام زوجها الذي أكمل قائلاً :
-لا تستغربوا جميعكم ! ما بكم تنظرون إليّ هكذا ، سنُعلن الليلة خطوبة منتظر وملاذ !
ابتسم أبو ملاذ وهو يحاول أن يجعل الأمر طبيعياً جداً ثم قال مازحاً ـ ماذا يا أم منتظر .. ألا يوجد لديكم عصير ؟
ـ بلى ، يوجد ... لكن !
ـ لكن ماذا .. تأكدي من إن كلام زوجك مضبوط مئة بالمئة .
شعرت أم منتظر بأنها ستطير من الفرح بعدما تأكدت من صحة الخبر ، أسرعت بإتجاه المطبخ وهي تقول بلهفة : سيكون كل شيء جاهزاً حالاً !
أما منتظر وملاذ فلم يكونا مصدّقين لما يدور حولهما !!
بقى منتظر مُتسمّراً أمام جهاز التلفاز دون حراك !
قال له والده بصوت يملئه الفرح والسعادة :
ـ ألا تقوم لتشكر عمك يا منتظر ؟
قام منتظر وقبّل يد حامد ليعود ويجلس في مكانه !
أما ملاذ فلقد تصرفت وكأنها لم تسمع شيئاً ، استمرت في رفع الصحون الفارغة من المائدة وقد شعرت بأن يديها ترتجفان وقلبها يخفق بشدّة ، أما قدماها فلم تشعر بهما في تلك الساعة !
اتجهت نحو المطبخ فاستقبلتها أم منتظر وقد أخذت منها الصحون ووضعتها على الطاولة ثم حضنتها وهي تبكي وتقول :
- مبروك يا ملاذ .. وأخيراً يا حبيبتي سيتحقق الأمل .
قالت ملاذ والدهشة مازالت باديةً عليها :
ـ أخاف يا خالتي أن يكون هذا مجرد حلم فأستيقظ منهُ لأجد كل شيء ما يزال كما كان !
ـ لا .. لا يا ملاذ لقد أمر الله في أن يجمعكما معاً وتحت سقفٍ واحد ، ألم تسمعي والدك ؟ لقد كان جاداً في حديثه ، لقد تغير أبوك كثيراً يا ملاذ .
وعندها شعرت ملاذ بأنها في حقيقة ، نعم فإن والدها لم يتغير الآن ، بل إنه كذلك منذ أكثر من شهر !
وحتى رأيه في منتظر قد تغير وها هو أخيراً يوافق على زواجها منه .
كانت صدمة فعلاً ، لكنها جميلة !
عادت ملاذ وعانقت أم منتظر لكنها هذه المرة أطلقت العنان لدموعها التي أغرقت وجهها ، وهي تردد : أحمدك ألف حمد يا ربي ، فكل ما نحنُ فيه هو من فضلك وعطائك ، الشكر لك يا رباه .
* * *
بعد أسبوع تقريباً من هذه الحادثة اتصل منتظر بفارس ليخبرهُ بالأمر ..
رفع فارس الهاتف وما أن سمع صوت منتظر حتى عرفهُ رغم كونه كان صوتاً ضعيفاً بعض الشيء لبُعد المسافات ، قال منتظر بعد تبادل السلام والتحيات :
ـ يجب أن تكون عندنا في بداية الشهر القادم يا عم !
ـ ماذا ... عندكم ! ولكن لماذا ؟
ـ لأنك يجب أن تحضر حفل عقد قِراني ..
ـ عقد قِرانك ! ولكن على من ؟
ـ على ملاذ ...
ـ هل أنت جاد فيما تقوله يا منتظر ؟ إن كنت تمزح معي فسوف أعاقبك يا فتى !
ـ أنا جاد يا عم ... صدّقني !
وبعد خمسة عشر يوم تقريباً من تلك المكالمة كان فارس لديهم وقد فرح به الجميع وفرحوا أكثر عندما عرفوا بأن الله قد أنعم عليه بتحقيق رغبته فأن زوجته الآن حامل في الشهر الثاني وهذا ما جعلهُ لا يستطيع إحضارها معه خوفاً عليها من تعب الطريق وبُعد السفر .
ها هو فارس قد تهيأ ليعقد قران منتظر على ملاذ ، كانت فرحة الجميع لا توصف ، وبعد أن أعطت ملاذ الموافقة على الزواج من منتظر وبعد أن قرأ الجميع سورة الفاتحة تيمناً وتبركاً
، حاول فارس أن يمزح كعادته موجهاً كلامه إلى منتظر :
ـ إسمع يا فتى .. أنا الذي اخترتُ إسمك و إسم عروسك عندما جئتما إلى هذه الحياة .. فصار حرياً بي أن اختار بنفسي اسماً لولدكما القادم بإذن الله .
قال منتظر وقد بدا جادّاً :
ـ لا يا عم ... اعذرني ! ثم إنك تنتظر مولوداً في الطريق ، حينها سمّه كما شئت ! أما أنا فلقد اخترتُ اسماً لولدي منذ الآن ولا أريد أن يتدخل أحد في تغييرهُ !
قال فارس :
- هل هذا جزائي يا رجل .. ! ها ؟ ثم ماذا تنوي تسميته ؟ لنرى !
قال منتظر :
- سأسميه (( فارس )) ولن أرجع عن قراري هذا أبداً !
ضحك الجميع ، فقام فارس من مكانه وقد خنقته العبرة واتجه نحو منتظر الذي عانقهُ بقوّة وهو يقول :
ـ لن أنسى وقفتك معي يا عم أبداً .
قال فارس وقد اغرورقت عيناه بدموع الفرح :
ـ إن الفضل كلّه يرجع للإيمان والحب الإلهي الذي تحملانه في قلبيكما الطاهرين أنت وعروسك ، هنيئاً لكما ورزقكما الله ذرّيةً صالحةً تكون عوناً وسنداً لكما في الدنيا والآخرة ، ثم تلا قوله تعالى : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب )).
.
#النهاية