#الإيمان_والحب
✍رويدة الدعمي
.
الفصل الخامس
.
.
مضت أيام وصار موعد العملية يقترب ... وخلال هذه الفترة لاحظ والد ملاذ تغيراً كبيراً طرأ على سلوك ابنته !
فلقد صارت قليلة الجلوس أمام جهاز التلفاز كما لاحظ تغيرات أخرى كالالتزام بطريقة لبس الحجاب والجلوس فترات طويلة وحدها وكأنها تفكر في مسألةٍ مستعصية !
في الحقيقة كانت ملاذ تفكر كثيراً بكلام منتظر الذي ما إن وجد فرصة حتى صار يحدثها بحقائق كثيرة يعرف تمام المعرفة إنها جاهلةً بها .
حدَّثها طويلاً عن الحجاب ووجوب الالتزام به شرعاً ، وبأنهُ هوية المرأة ورمز لعفّتها وشرفها فبعدما كانت لا تهتم سواء ظهرت خصلتين أو ثلاثة من شعرها نراها الآن كثيرة التفحص لحجابها لئلاً تكون شعرة قد خرجت من هذه الجهة أو تلك !
كانت ملاذ تتمنى أن تُخبر منتظر عن أمرٍ لم يتكلم عنهُ طوال هذه الأيام ... فلطالما تكلّم عن معنى الحب الحقيقي وعن معنى هذه الحياة وعن الأخلاق والحجاب ووجوب محاربة الشيطان والهوى لكنهُ إلى الآن لم يتكلم لها عن العلّة والحكمة من عبادة الله فلطالما شاهدته ملاذ وهو يصلّي ويُطيل في سجوده ويكثر من قرآئته للقران ، فكم كان يرف قلبها حينها نحو الصلاة وقراءة القران في حين أنها لم تجرب ولو لمرة واحدة أن تؤدي تلك الأعمال !
بل لم يحرضها أحد على أن تؤدي ما يؤديه منتظر الآن ..
كان الأخير يعرف إن ملاذ تجهل هذه الأمور المهمة لكنهُ كان ينتظر أن تصارحهُ هي بهذا الأمر حتى يتأكد من إنها بدأت تقترب من الله فعلاً وبأنها بدأت تنظر للحياة بنظرةٍ أخرى ، نظرةٍ ثاقبة تجعلها تُبصر الأمورعلى حقيقـتها .
وإذ لم يبقَ على موعد العملية سوى يومين فإن ملاذ قررت أن تُخبر منتظر بما يجول في خاطرها ، وفعلاً ففي موعد صلاة المغرب حيث كان منتظر يستعد للوضوء خرجت ملاذ من غرفتها بعد أن سمعت صوت ماء الحنفية يجري ، ووقفت تنتظر أن يُكمل منتظر وضوءه ، إلتفت وهو يردد بصوتٍ خافت (( اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك والجنة )) وما كاد أن ينتهي من ترديد هذا الدعاء المستحب حتى لاحظ وقوف ملاذ عند باب غرفتها فألقى التحية عليها فردّت بأحسن منها ثم قالت :
ـ في بالي أمرٌ يحيرني أريد أن أتناقش فيه معك يا منتظر .
ـ على الرحب والسعة ... لكن ألا يمكن الانتظار حتى انتهي من صلاتي ؟
أطرقت ملاذ قليلاً ثم قالت :
ـ إنهُ بخصوص الصلاة ... ولن أأخذ من وقتك الكثير .
ـ حسناً .. اسألي مابدا لكِ ...
قال منتظر هذه الجملة وهو يهم بالدخول إلى غرفة الجلوس ، وتبعتهُ ملاذ وجلست على الأريكة المقابلة للأريكة التي جلس عليها هو .. سألها قائلاً :
ـ ما هو الأمر الذي يشغلك بخصوص الصلاة ؟
ـ إنه لا يشمل الصلاة فحسب ، بل يشمل معنى العبادة على الإطلاق ..
ـ وما بها العبادة .. وأي مشكلة تواجهينها في هذه الكلمة ؟
ـ لماذا أراد الله منّا أن نَعبدهُ بالصلاة والصوم وقراءة القران وغيرها
.. ألا يكفي أن نحبه ونحب من يحبه ؟ ألا يكفي للفتاة أن تتحجب وللفتى أن يغضّ البصر ؟ ألا يكفي للأم أن تقوم بتربية أولادها تربيةً حسنة وللأب أن يأتي بالرزق الحلال لأولاده مجتنباً السرقة والغش والخداع ؟
لماذا يجب أن يلتزم الإنسان بهذه الأمور وفوق هذا أن يُصلّي ويصوم ويحج ويقرأ القران ويدفع الزكاة وغيرها ... ؟!!
ـ نعم يا ملاذ .. فهمتُ قصدك ، أنتِ تتساءلين عن الحكمة والسبب في إلزام الإنسان بالعبادات ووجوب القيام بها .. صح ؟
ـ نعم .. بالضبط .
ـ حسناً ... سوف أبدأ معكِ بدايةً سهلة إن شاء الله حيث سأعدّد لك أقسام العابدين ، فهم ثلاثة ...
القسم الأول / يعبدون الله رهبةً منهُ وخوفاً من عقابه !
والقسم الثاني / يعبدون الله طمعاً في ثوابه وهي جنّة الخلد .
والقسم الثالث / يعبدون الله ليس طمعاً ولا خوفاً وإنما حُبّاً به
واعترافاً بحقّه .
وكمثال على القسم الأخير هو مناجاة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لربّه بالقول : (( إلهي .. لم أعبدك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك )) .
والإمام علي (عليه السلام) يقصد هنا أنهُ حتى لو لم تكن جنة يُثيب الله بها ولا نار يعاقب الله فيها من لا يعبده ، حتى لو لم يكن هناك هذا الثواب وهذا العقاب بل وحتى لو لم يوجب الله العبادة على خلقه لكان (عليه السلام) قد عبدهُ لأنهُ أحبه وعرفه فوجدهُ أهلاً لأن يُعبد.. ولِم لا ؟ وهو المنُعم والواهب والخالق والرازق ....
وهذا بالنسبة لعلاقة الناس بربهم، أما بالنسبة لأمر الله لهم بعبادته فهوفي قوله تعالى : (( وما خلقتُ الجن والأنس إلاّ ليعبدون ))
وفي الحديث القدسي يقول تعالى : (( كنتُ كنزاً مخفياً فوددت أن أعرف فخلقتُ الخلق لكي أُعرَف )) .
إذاً مرة يشير الله إلى السبب من الخلق وهو (( ليعبدوه )) ومرة أخرى يشيرإلى نفس الأمر وهو (( ليعرفوه )) فما وجه الترابط بين معرفته سبحانه وبين عبادته ؟
قالت ملاذ وقد بدت متحمسة للإجابة :
ـ أظن إنهُ لا يمكن للإنسان أن يعرف الله إلاّ إذا عبده ...
قال منتظر مبتسماً :
ـ بل إنه لا يمكن للإنسان أن يعبد الله إلاّ إذا عرفه .
ـ ماذا تقصد .. أوضح لي الأمر رجاءاً .
ـ اعني إن العابدين هم الذين عرفوا الله فعبدوه ، فهناك من عرف إن الله وعد بالنار كعقوبة للمشركين به فخاف من تلك العقوبة وإتجه إلى العبادة وهذا نوع من المعرفة، وآخر عرف إن الله سيُثيب بالجنة لمن يطيعه فأخذ يعبدهُ ويطيعهُ متمنياً دخول تلك الجنة وراغباً في ذلك الثواب وهذا نوع آخر من المعرفة ، وهناك من عرف الله حقّ معرفته كالأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين فأخذوا يعبدون الله لأنهم عرفوه حقّ معرفته فوجدوا أنهم يجب أن يعبدوه حتى وإن لم يأمرهم بذلك .. وهذه هي أفضل العبادات وتسمى ( عبادة الأحرار ) .
ـ وهل هناك من عبد الله دون معرفته ؟
ـ لا طبعاً ..
ـ إذاً هل كل الذين يصلّون ويصومون ويحجون ويدفعون الزكاة .. كلهم قد عرفوا الله ؟!
ـ أيضاً لا .. لأن هناك من يقوم بهذه الأعمال ليس لله بل للناس !
ـ كيف هذا ؟
ـ إنهُ المرائي يا ملاذ ، فهو لم يعرف الله أبداً لذلك لم يحبه ولم يخف
عقابه ولا يرجو ثوابه !
ـ وماذا نعني بالمرائي ؟
ـ إنهُ الذي يُرائي بأعماله أمام الناس فنراه يقوم ويقعد في صلاته ليُري الآخرين إنهُ يصلّي حتى يُرضيهم عنهُ وليكسب موّدتهم واحترامهم وليعتبروه إنساناً متديّناً صائماً ومصلياً !!
وهذا حكمهُ حكم من أشرك بالله فراح يعبد الناس بحجّة عبادة الله وراح يتخذ من الصلاة وغيرها حجة وذريعة ليفوز من خلالها برضا من حوله لا أكثرولا أقل !
وقد ورد ذكر المرائي في القرآن الكريم بقوله تعالى : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى يُرائون الناس " !
وروي فيما معناه : يأتي أناس يوم القيامة أعمالهم كالجبال فيأمر الله بهم إلى النار فتتعجب الملائكة وتسألهم عن ذلك فيقولون : كنا نعمل لغير الله !
قالت ملاذ وقد صارت الأمور شُبه واضحة لها :
ـ إذاً يا منتظر .. ليس المهم أن نستكثر من الصلاة والصوم وباقي العبادات بل المهم ( النيّة ) في كل هذه الأعمال بأن تكون خالصةً لله تعالى لاغيره .
ـ أحسنتِ ، فما الفائدة إن كنتُ أصلي وأؤدي بقية الواجبات وأنا أصلاً لا أعرف الله ..!
فالنقطة المهمة في العبادة إنني عرفته فعبدته لأنه وكما جاء في الحديث القدسي .. (( خلقتُ الخلق لكي أُعرف )) ومعرفتي لله تتم بإخلاص النية لهُ سبحانه وليس لغيره .
يعني إنني أؤدي صلاتي سواء رآني إنسان أو لم يرني وسواء كان هناك أحد معي أثناء الصلاة أو لم يكن .. فإن الله يطلّع عليّ في كل وقت وفي كل مكان فلتكن صلاتي ونُسُكي لله رب العالمين .
وبعد هذا يا ملاذ يجب أن نتفكر في أمر مهم ، وهو إن الله كان يستطيع أن ينزل الآية (( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون )) ولا يُنزل غيرها ..
أيّ إنه كان بإمكانه أن يعطينا سبب الخلق وهو ( العبادة ) ويتركنا !
حينها ليعبد من يعبد وليكفر من يكفر ففي النهاية يعدُّ للعابدين الجنة
وللكافرين النار .. لكنهُ عز وجل لم يأمرنا بالعبادة واكتفى بذلك فقط ، بل أوضح لنا إن هناك ثواباً لمن يقوم بالعبادة والطاعة وعقاباً لمن
يتهاون بها وينكرها ..
أيّ إنهُ تكرّم وتفضّل علينا ولم يتركنا هكذا بل وعدنا بالجنان وهو
مستغنٍ عن أن يعدنا بأي شيء لأنهُ الخالق والقادر والغني عن أي أحد فعباداتنا لا تزيدهُ شيئاً وكفرنا لا ينقص من خزائنه شيئاً ..
ورغم ذلك لم يرد لنا الضلال ولم يأمرنا ويتركنا .. بل جعل لنا أمور تحبب إلينا عبادته وتنفيذ أوامره ، وأوضح لنا في المقابل ما يشملنا من عقاب لولم نرضخ لتلك الأوامر وهو أيضاً مستغنٍ عن توضيح ما سيلاقينا من عقوبة فهو قادر على معاقبتنا دون تعريفنا بذلك العقاب .. !
ـ إذاً لماذا أوضح لنا هذه الأمور ؟
ـ لأنهُ يا ملاذ ( الودود العطوف ) على عباده فهو أعطف على العبد من أمه ! وهو الكريم الرحيم الذي بلغت رحمته كل شيء ، ووسعت كلّ مخلوق .
وبعد هذا أفلا يستحق أن نشكره ؟ وبعد هذا ألا يكون مستحقاً لأن نعبدهُ ولو بتأدية الصلاة اليومية ؟ وانظري إلى عطف الله ورحمته وكرمه بحيث يقول في كتابه العزيز : (( لئن شكرتم لأزيدنكم ))، فهو يحبب إلينا شكر النعمة ويخبرنا بأننا لو شكرناه سيزيدنا وكأننا نحنُ المتفضلون عليه وليس هو المتفضل علينا !
قالت ملاذ وقد خفضت رأسها محاولةً إخفاء دموعها :
ـ إنهُ فعلاً أعطف علينا من آبائنا يا منتظر .. فهذا أبي لم يكلّف نفسهُ
مرةً واحدة أن يجلس معي ويعلّمني مالا أعرفهُ من أمور ديني ، فإذا به جلَّ عُلاه بعطفه وحنانه يرسل لي من يعلمني ويعرفني به سبحانه .
نعم يا منتظر لقد أرسلك الله لي ليس لتجعلني أستمر في الحياة من خلال تبرعك لي بأحدى أعضاء جسمك بل أهم من هذا إنهُ أرسلك لي لتُفهمني معنى هذه الحياة .. لتُفهمني لماذا أوجدنا الله على هذه الأرض .. هل لنأكل ونشرب وننام ..أم لهدفٍ أخر أرادهُ الله منّا عندما وهبنا هذه الحياة .
كم أنت عطوفٌ يا ربِّ .. فرغم إنني حُرِمتُ حنان الأم وعطفها لكنني لم أُحرم عطفك وحنانك ، ورغم إنني قضيتُ عشرين سنة من عمري في غفلةٍ عنك إلاّ إنك لم تشأ معاقبتي ولم تنسني رغم نسياني لك ..فأرسلت لي من يُخرجني من الظلمات التي كنتُ أعيشها إلى النور الذي أردتني أن أبصرهُ يا ربِّ ..
والآن يا منتظر هلاّ بدأت بصلاتك التي تأخرت بسببي وهلاّ سمحت لي أن أصلّي معك اليوم وستكون أول مرة أقف فيها بين يدي خالقي .. فأنا لا أعرف كيف أؤديها وكُليّ أمل أن تعلمني إياها .
ـ حسناً يا ملاذ .. اذهبي للوضوء الآن ...
صمت منتظر قليلاً ثم قال :
ـ لكنكِ لا تعرفين الوضوء أيضاً ؟
ـ لا .. لا يا منتظر لقد رأيتك أنت ووالدك أكثر من مرة تتوضأان أمامي وحفظت الوضوء وكذلك حفظتُ ما أقول فيه ، انتظرني قليلاً سأتوضأ وآتي حالاً !
أسرعت ملاذ لتتوضأ والدموع لا تفارق عينيها فهاهي بعد دقائق ستلتقي بسيدها ومولاها في أول لقاء من خلال تلك الوقفة الجليلة .
عادت بعد انتهائها من الوضوء فوجدت إن منتظر قد أخرج سجادة والدهُ المخصصة للصلاة وفرشها خلف سجادته وهو يقول لها :
ـ إن المرأة عليها أن تصلي خلف الرجل وليس بجانبه أو أمامه .. هذا ما علمّنا إياه الشارع المقدس ..
صار منتظر يشرح لها أهم الأمور المتعلقة بالصلاة قبل أن يشرعا بتأديتها ، ثم وقف مستقبلاً القبلة وصار يردد بصوتٍ مسموع وكانت هي تردد معهُ ، ومع كل كلمة تصعد إلى الخالق كانت هناك دمعة تنزل من عينها معبّرة عن فرحة اللقاء ..
شعرت وهي تقف بين يدي الله بأنه الآن فقط صار راضياً عنها والآن فقط سيبادلها الله سبحانه وتعالى ذلك الحب الإلهي الذي يحصل بين العبد وربه ، تمنّت حينها لو إنها تستطيع أن تصرخ بكل ما أتاها الله من قوة لتقول له: ( أحبك يا ربِّ ) .