الفصل الثامن
لم تصدِّق ما تراه أمامها ، كانت تظن بأنّها قادمة إليه لتقديم دعمها و مواساتها ، لتأدية واجبها كتوءمته ، كانت تستعد نفسياً و جسدياً لوهبه نفسها روحاً و جسداً و تحقيق المحتوم.
و لكنّها أبداً لم تتصور أنّها ستجده بوضعٍ مخلٍّ مع كارمن ، كارمن!! تلك الأنثى التي تثير خوفها ، إنّه يقيم علاقةً معها ، يقتات منها ، لهذا السبب لا يريدها ، لا يرغب بها ، ليس لأنّه عزيزُ النفس ، بل لأنّه خائن حقير و لأنّه يملك عشيقة !!!
شهقت بحرقةٍ تركض وسط الغابة و إسايا خلفها يناديها ، يحاول اللحاق بها .
و جايدن أسرع إلى ثيابه ، ارتداهم بسرعة وركض خلفها هو الآخر ، تاركاً كارمن مع ابتسامةٍ ماكرةٍ و خبيثةٍ تزين محياها .
-آه ، لقد حققت مرادها دون حتّى أن تخطط له ، و الآن لنرى كيف سيستعيدها ؟؟ -
قهقهت بعمقٍ منغمسةً تحت المياه تسبح إلى الشلّال .هربت إلى الشاطئ ، وصلت إليه جاثيةً على ركبتيها قابضةً على حفنةٍ من الرمال الرطبة و الدافئة بقبضتيها تشهق و تبكي بحرقة ، رفعت رأسها نحو السماء الساطعة تصرخ بقهر ، تحتاج لأن تتذكر ، تتذكر أيّ شيء ، تريد الرحيل من هنا و عدم العودة أبداً ، نسيان أمر جايدن و هذه الجزيرة بأكملها ، تعود إلى حياتها التي لا تذكر منها شيئاً ، أيّ شيء ، لا يهم ، المهم ليس هنا ، و بعيداً من هنا .
وصل إليها إسايا ، يلهث أنفاسه بصعوبة ، لقد أرهقته و هو يتبعها و يحاول إيقافها .
جثا بقربها لا يعلم ماذا عليه أن يفعل أو يقول بهكذا موقف !!
« أنا أكرهه ، أكرهه إسايا ، فهو ما ينفكّ عن إجباري على كرهه ، فهو لا يحاول حتّى استمالتي إليه، بارد و قاسٍ و مخيف و مغرور ، إذا كان لا يريدني فليحررني ، فليطلق سراحي ، أكرهه . »
لم يتحمّل رؤيةَ المزيد من دموعها المقهورة ، فجذبها إلى صدره يحاول مواساتها ، يتمنّى لو أنّها ليست توءمة جايدن ، لو أنّها توءمته لكان عشقها بكل جوارحه و حافظ عليها كجوهرةٍ نادرة الوجود ، لكن يبدو أن القدر له مشيئةٌ مخالفة ... و هذا ما لا يستطيع التدخل فيه أبداً .
تبع جايدن نداء الرابط الذي يجمعهما ، صدى دمائها التي تجري بعروقه ، دماءٍ طعمها لا يشبه أيّ شيئ تذوّقه من قبل ، معجزة بحد ذاتها ، منحته طاقة لم يعهدها من قبل إذ عندما استيقظ هذا الصباح تفاجأ بالنشاط الذي اجتاحه عابقة رائحتها الخلاّبة بحواسه ، تقوده إليها و تحثّه الى نيلها فوجد نفسه يهرب من المنزل بأكمله قبل أن يقوم بعملٍ يندم عليه لاحقاً .
لطالما اعتمد بحياته العلاقات العابرة كي يتوقى الوقوع بدراما الغيرة ونزعة التملك وأي مشاعر تخص طبيعة العلاقات العاطفية المعقدة التي لا يهوى الوقوع تحت وطأتها، لهذا السبب كان يعزم دائماً على أن تبقى علاقاته جميعها باردةً و خاليةً من أيِّ نوعٍ من المشاعر ، خاويةً لا تُشبع روحه و لا قلبه ، أثرها و نشوتها يختفيان بذات اللحظة التي تختفي فيها الأنثى من أمامه .
أمّا الآن كل شيءٍ اختلف بعد أن دخلت إيڤا حياته، من المستحيل أن يعاملها بتلك الطريقة،
أن يهين كرامتها ويخون ثقتها ،
ينالها بتلك القباحة ،
تتملكه الحاجة الملّحة لشرح نفسه لها ، التأكيد لها بأنّ ما رأته ليس هو ما فهمته ، بأنّه منذ لحظة علم بأنّها توءمته لم يقرب أيِّ أنثى أخرى .
وصل إلى الشاطئ يراها جاثيةً أرضاً بين ذراعي إسايا ، تصله شهقاتها و تمتماتها المريرة ، إنَّها تكرهه ، تكره قسوته و ظلمته و جفافه ، تكره صمته و برودته و تجنّبه لها في كلّ الأوقات .
استشعر إسايا وجوده قبل أن يراه فحرّر إيڤا من بين ذراعيه يحاول تفادي ثورته يفاجئه هدوئه وجموده .
رفعت إيڤا وجهها إليه لحظةَ رأته هاتفةً به بغصّة تشوب حروفها : « ارحل ، ارحل ، لا أرغب برؤيتك أبداً ، أنا أكرهك و اشمئزُّ منك و من أنثاك تلك التي تشبهك بكل المقاييس ، أنتما تليقان ببعضكما قلباً و قالباً . »
ألقى جايدن نظرةً إلى إسايا يطالبه بالمغادرة فقفز الأخير من مكانه ملبّياً أمره دون نقاش ، و إيڤا مسحت دموعها عن وجنتيها بانفعال كارهةً لحظةَ ضعفها هذه ، تشعر بالدماء تغلي بعروقها ، تشعر بالرغبة الجامحة لتمزيقه بين أسنانها و رؤية دمائه تهدر .
وقفت من مكانها هي الأخرى و هرولت على محاذاة الشاطئ مبتعدةً عنه .
راقب قفاها يبتعد ، غاضبة و مقهورة و هو السبب ،
يا ليته يعلم كيف يتعامل معها ؟؟ كيف يتعامل مع ثوراتها ونوبات غضبها ؟؟
كيف يمتنع عن إغضابها و التسبب لها بالألم .
تبعها يناديها : « إيڤا!! توقفي ، دعينا نتحدّث . »
استدارت إليه تتراقص غضباً ، وقف يشاهدها تعود ، تمشي بخطا غير ثابتة فوق الرمال الكثيفة ، وصلت إليه رافعةً عنقها تقابل عينيه ، نظراتها تجلده بسياطِ الغضب ، صرّت على أسنانها هادرةً به بسخط :
« ليس هناك ما نتحدّث به ، أنت شخص عديم الإحساس و المشاعر ، شرّير، و أنا لا أريدك ، أرفضك كتوءمي ، و الأهم من هذا كلّه سأرحل عن هذه الجزيرة ، سأذهب لأفتش عن عائلتي ، و أنسى أمرك نهائياً لأنّك لا تستحق غير النسيان . »
آثر الصمت فاسحاً لها المجال بإخراج كل غضبها عليه ، و عندما انتهت و استدارت هامّةً بالمغادرة من جديد ، قبض على رسغها مانعاً ابتعادها :
« حسناً، أليس من الأدب أن تسمعي ما عندي كما سمعتُ ما عندك ؟ »
« دع ذراعي » هتفت به بنزقٍ تحاول تحريرها من قبضته
«لقد أسأتِ فهم ما رأيتِه عند الشلّال . »
ضيّقت حدقتيها لا تصدق ما يحاول فعله، و هل يظنّها غبية إلى هذه الدرجة .
دفعته بكتفها بعنفٍ هادرةً به باستهجان : « أيّها الكاذب الحقير ، و هل تظنني غبيةً حتّى أصدق زعمك و أُكذّب ما رأيتُه بأمِّ عيني ؟ »
لكمته على صدره تصرخ به بقهر يتآكلها، مشاعرها تحترق بصدرها، لم تكن تتوقع بأنّ الغيرة تؤلم بهذه القسوة والوحشية : « لقد كنتما عاريين ، عاريين و ملتصقين ببعضكما البعض ، وماذا كان يجب أن أرى غير ذلك كي لا أسيء الفهم ؟؟ »
طريقة وصفها للموقف الذي ضُبطُّ به بدا ميؤوساً منه ، حتّى هو لن يصدق إلّا ما ستراه عيناه بموقفٍ مشابه ، كيف سيقنعها بالحقيقة ؟ بأنّه لم يكن يتقرّب من كارمن اللعينة ، بل كان يهددها بالقتل .
قلّب عينيه يشتم حظّه العاثر الذي يبدو انه يسخر منه وبجدارة ، تهددها بالقتل و أنتما عاريان تماماً ، آه ، صدّقتك ، خاطب المنطق بداخله .
« توقّفي عن الصراخ . » هتف بها ضائقاً ذرعاً من نفسه ، ما هذه المصيبة التي وجد نفسه فيها ؟ و هل عليه بعد طول هذا العمر أن يتوسّل رضوان صغيرةٍ لربما لا يوازي عمرها معدل عشرة بالمئة من عمره ؟ يا للهول !!!
و على أثر تلك الحقيقة الصادمة التي أفقدته صوابه ،
حملها فوق كتفه يعود بها إلى المستعمرة ، لربما يجد طريقةً للتعامل معها بعد أن يصحى من صدمته تلك .
جذبت شعره بعنفٍ تصرخ ملء حنجرتها به ، شتمته ، و عنّفته ، صرخت و صرخت دون جدوى ، إذ استمرّ يتوغّل بها عبر الغابة نحو المستعمرة ساخطاً على حظّه الذي أحضر له توءمته بعد مرور كل تلك العقود ، يشعر بأنّه عجوز جداً على تعلّم طرق التعامل مع مراهقةٍ مُرْهِقةٍ صغيرة ما تزال بحاجة للحنان و الرعاية و الطيش و اللهو ، ما تزال بحاجةٍ لصدرٍ رحب يتفّهم هفواتها و يصبر على ثوراتها .
هل سيتمكن من أن يكون لها ما تحتاجه؟
هل سيتمكن من ملء الفجوات التي تعاني من فقدها ؟؟
هل سيتمكن من تأمين كل احتياجاتها دون أن تشعر بالنقص ؟؟
« جايدن ، سأقتلك ، أقسم لك سأقتلك . »
صاحت به تجذب خصال شعره بوحشية ، غاضبة جداً ، غاضبة حد أنّها ترى محيطها يشتعل بنيرانٍ عاتية .
دخل بها المستعمرة و هي ملقاةٌ فوق كتفه ، رأسها عند كتفيه من الخلف و مؤخرتها عند صدره لافتاً أنظار الجميع إليهما ، و هو أسرع بخطاه يحاول أن يرحمهم من صوت صراخها المدوّي .
دفع الباب بقدمه و دخل مباشرةً إلى غرفة المؤن ، حيث سجنها أوَّل مرّة أتى بها إلى المنزل ، وضعها أرضاً يحاول تحرير شعره من قبضتها و هي تمسكت به بكلِّ عزمٍ تنعتُه بأسماءٍ تفاجأ بها منها .
« ستبقين هنا إلى أن تهدئي ، عندي جنازتان عليّ أن أرتّب لهما ، عندما أنتهي منهما سأعود إليك كي نتحدّث . » أخبرها عند الباب و هي همدت ، صمتت فجأة تتذكر الفاجعة التي عاد بها ليلة البارحة ، ضمّت ركبتيها إلى صدرها تبكي و تشهق بصمت .
« سأعود حالما أنتهي كي نتحدّث. » رمقها بجدّية مردفاً :
« و بتحضّر ! »
« أنت حقير ! » استوقفته هامسةً بحرقة : « ذهبت للقاء عشيقتك بالغابة وأنت لم تدفن رفاقك بعد ، أما كان بإمكانك الانتظار فقط ريثما تبرد جثّتيهما ؟ »
طعنته باتهامها ذاك ، مع أنّه يعلم بأنّ الحقيقة مغايرة لما رأته وتتهمه به ، إلّا أنّ مجرد ظنّها به ذاك آلمه .
تنّهد بإرهاقٍ و أغلق الباب خلفه دون تعليق ، يفكّر بجان و ألبرت ، خسارتهما كسرته ، صديقَي طفولته لن يعوّض مكانهما أحد .
أنت تقرأ
أطياف الجحيم ، الجزء الرابع من سلسلة دماء الشمس
Vampirosأطياف الجحيم ، الجزء الرابع من سلسلة دماء الشمس