الغفوة الأخيرة

278 54 84
                                    

"إن كان السقوط من الجبال لا يُنهينا، فكم مرّة علينا تكراره فيها حتى نشعر بمثل تلك الحريّة؟" سألتُ أمي، ونحن واقِفين عند القنّة.

الرياح تكاد أن تقتلعني من حيث أقف، لولا تمسّكها بي بيدها الدافئة، فيما نشاهد الطيور تختفي بين أشجار الدلب، وتعود لتصعد لأعشاشِها.

"يمكنك أن تشعر بها إن فعلت شيئًا واحدًا، يا أليكسي" قالت وهي تدنو قليلًا لتلمس خدّي.
"عندما تتخلّى عن كل ما تتمسّك به؛ في اللحظة التي تعرف فيها أنه سبب تقيُّدِك".

بدأتُ بعدها أنظر للعالم بلا محطّة نهاية. يجذبني مجرّد التحديق والشعور بأنّ شيئًا ما ينتظرني. رأيت السفح أسفلنا محفوفًا بالأشجار، وظهرت فزّاعة بعيدة بوسط حقل مررنا به في طريقنا.

"ما الذي تفكّر فيه؟" سمعتُ صوتها الخفيض وهي تسألني. وضعت فوق بطنها المنتفخة يدها المضمّدة، وكذلك كان جانب وجنتها اليسرى مشروخًا، حتى ظننتُ أن دموعها ستتسلل من كلّ مكان من وجهها. ولكن عيناها بقيتا بائستان رغم ابتسامتها الواسعة.

نظرت لها، وارتسمت ابتسامةٌ مشابهة على شفتاي قبل أن أجيبها بشرود "يبدو الجبل كعُنق رجل طويل، والأرضُ على جنبيْه، كأحمالٍ على كتفيه".

كان ليتبع ذلك سؤالٌ عن أيّة صورة تلوح بذهني لأقول ما قلته.. من كل شخص، عداها. ورغم أنني دومًا ما كنت أقول ما ليس موجودًا، فهي وحدها من أجاب عن أسئلتي قبل أن أُنهيها، وقالت هامسةً "لا بدّ أنه مثقَل بشدّة".

"مثلنا" تمتمَت مردفةً.

كانت تلك كطريقةٍ لتخبرني بها أنني لست وحدي. حين لم أكن سوى طفل في العاشرة، ولي أمٌّ تشاركني ندبات كثيرة، أعظمها في أرواحنا. ولا أعلم ماذا سيحِلّ بي حين أتوقف عن تذكّر الرجل الذي تركناه حيث انسلخنا عن حقيقتنا.. من كان سيّد المعاناة التي انتزعناها كأسباب هروبِنا.

عمّ هدوء سكن فيه الوجود لبرهة، حتى قاطعه المطر، ليتبعه ما شابه سقوط شلال من السماء.

بدأت السماء تبكي كما تركاها حيث جئنا، بات المكان رماديًا في عيناي، وانحنَت الأشجار، ورأيت دموع الفزّاعات تبلُّل ملابسها؛ فارتعدتُ مقتربًا منها، متشبّثًا بنظري للهاوية.

"من الأفضل أن تضعَ كل أحزانكَ في قصيدة واحدة. لقد سمعتُ واحدةً تقولُ أنك تحمِل طقسك معك".

قالت، ثم دنت بوجهها نحوي، لأجد الدموع تغدق خدّيها، وهي تقبض بأطراف أصابعها النحيلة على منكبي، وتحدّق بي وكأنني أملها الوحيد. وكأنها على وشك قول أكثر مما أنبرت به في النهاية

عندما تغفو الجبالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن