"يسيرُ الجندي، ويعبر أشجار الدلب
تسقط بندقيّته، فلا يسمع صوت الأموات
وحين يلمس الغصن.. يموت الطائر، وتنحني الشجرة".كنت أردد الأغنية بصوت خافت، برجاء أن يخفّ ثقل الأجواء حولنا، وقد أنشأنا نمضي في طريقنا متوقّفين بين الفينة والأُخرى يتأكد فيها أنني بمقدرة على المواصلة، دون أن يصيغ قلقه بالكلمات كعادته.
نظرتُ لقامته من حيث أتبعه.. كان له كتفان أعرض منّي، وليس بذات نُحل جسدي الشديد. لكن الملابس الثقيلة التي تغطّيه لا تسمِح لي برؤية طيفِه الذي لمحتُ جزءًا منه عبر قميصه في اليوم الذي قضيناه في النزُل؛ ففي وقتها كان يرتدي قميصًا مبتور الأكمام رغم برودة الجو ولم يغيّره أبدًا، لكنه جلس جوار المدفئة طوال الوقت عوضًا عن ذلك؛ ففهمت أنها ربما القطعة الوحيدة التي يقضي بها نهاره.
استنتجتُ أنه أكثر مِنعةً منّى في العموم، مما لم يدع لي مجالًا لمقارنة ما أملكه أمامه، والذي بدا معدومًا. وأيقنتُ أنّ لي أسبابًا تتنامي بمرور الأيام لأمقت ماديّتي -هذه التي لا أراها، ولا تبدو مرئيةً-
"هل ستحمِلني على ظهرك إن طلبتُ ذلك؟" قلت له، ولم يكن لديّ نيّة انتظار موافقته. فقط محاولة لايجادِ سبب لعدم التفكير في أنّ الليل قد اقترب؛ حين رأيتُ خط الأفق ينمّ عن انقضاء ثلاث أرباع قرط الشمس أسفله، وتشتّتت الغيوم اعلانًا لقُرب خروجنا من منطقة العواصف التي جئنا منها.
ضغطت قدماي على العُشب الذي بدأ بالظهور في السهل، فسمعت تكسّره كعظامِ ميّتٍ؛ الأمر الذي جعلني أزيد من تقارُب خطواتي وأُحث سيري؛ لأتوقّف عن التفكير في تلك الحقيقة.
"أينالُك الضعف مجددًا؟" سألني بالمقابل. فأوشكت على الاجابة بشيء مخالف لفحوى مقصده
'بلى، إنه ينالُ منّي طوال الوقت، بل يكاد ألّا يبرح'.
لكنني قلت "كلا، كنتُ فقط أتساءل عن الثقل الذي تقدِر على تحمّله"."نستطيع تحمّل أكثر مما نظُن".
لم أفهم إن كان يسخر منّي أم يحاول أن يبدو فكِهًا. وليس الأمر بشأن ثُقلي، بقدر أنه دومًا ما يحيد مسار كلّ حديث عن نفسه، ليبدأ بالتحدّث بتلك الصيغة التي تشعرني أنني وحدي في المكان. كأنني أتحدّث له، وأستجيب لنفسي. أسأله عنه، فيعيد سؤالي كاجابة.
"هل يسعدك إن ناديتك باسمكَ؟" عدت أسأل بي فضول حول ما يعنيه ذلك له، فقد كان أوّل ما شاركني به هو اسمه روسلان، قائلًا أنه ما يحبّ أن يدعوه الجميع به.
لكنني فوجئت عندما أوصدنا باب النزل خلفنا ببدء مسيرنا يومها، حين التفّ نحوي، وأخبرني أن إسمه الأخير هو أليكسيڤيتش، لكن لا يفضّل أن يتم مناداته به. فلم أدرِ لمَ أخبرني بذلك، وقد ظننت في البداية أنه سيأخذ احتياطاته أو يحاول أن يحافظ على سريّته.
كان يشدّ على كفّيه وقتها وكأنه لم يرغب بالبوح؛ فارتأيت أن أناديه بالأول الذي أخبرني به. وحدسي قاد لإنه ربما قد تناسى حقيقة امتلاكه له عندما ناديته به آنفًا، فأيقنت أنه ليس معتادًا على أن يُنادى به كما قال، أو ربما لم يعرف أُناسًا كُثر في حياته وحسب.
أمال برأسه اجابةً عن سؤالي، ولم تكن اشارةً واضحةً حتى قال "أوّل شخص أحببتهُ اعتاد مناداتي به".
فلم أكبح فضولي حين مددت عُنقي نحوه باستفسار آخر "من كان؟".
"والدتي" أجاب. وكان هذا كل ما قاله.
لم يخفَ استخدامه لذاك اللفظ عوضًا عن 'أمّي'، وكيف اكفهرّ لبرهة قبل أن أسمعه يتنهّد.. وكأنه يخبر نفسه أن لا بأس بقول ذلك، رغم أنني لم أجد مشكلةً فيه إلّا لو كان يحاول نسيانها. فسكتتُ، ولم أشأ الاستطراد بشيء آخر.
كنت أظنّ أنّه يزداد ضيقًا مع كل سؤال، وعندما يعود للاستجابة لآخر، يُهيّأ لي أن ضيقه الأول لم يذهب، فيزداد فوقه.
رغم ذلك، لم أستطع التوقّف عن مكالَمته. وهالني الشعور بامكانيّة أن تراودني الوحدة إن عمّ الصمت كثيرًا، والأسوأ هو الشعور بها رغم وجوده معي.لم أُجِد قراءة الأشخاص يومًا، بل لو تمكنتُ من ذلك لحميت نفسي من أشياء كثيرة سابقًا، أوّلها أنا. لكنني وكلّما أفرطتُ في مراقبته، كانت حيرتي تزداد حول ما يكتمه. وقد بدا عظيمًا، يكاد أن ينصب من عينيه إن أضاف حرفًا فوق أقصر اجابة، أو إن سمعني أقول شيئًا عن عدم شعوري بالأمان. سوى أنني لم أتطرّق للأخيرة إلّا حين يكون المجهول طاغيًا على طريقنا أو أسمع صوت ابن آوى؛ فينظر لي عندها بنُكران، وكأنه شابه مخاوفي وكلّ ما كنت أهرب منهُ معه.
تابعت بعدها التأمّل حولي بصمت، ولم أكن أرمق مشهدًا بالتحديد. أبحث عن أيّ ما يجعلني أتمسّك بمواصلة السير، وحتى وإن كنت سأمرّ به لأستمرّ، كنت بحاجةٍ لغاية، وهذا ما أفقده طوال الوقت.
ولمّا تمكّنت من ملاحظة أوّل مؤشر نال انتباهي، ضيّقت عيناي لأمعن النظر، فوجدته منزلًا صغيرًا بمنتصف السهل حيث نقطع. ثم ما فتئَت أعداد أشباهه تتزايد، وبدأت الحشائش الميّته تُستبدَل بالحجارة أسفل أقدمانا، واشتممتُ رائحة خبز وعاصِرة فواكه، وكان الظلام قد أسدل جناحيْه ليبدأ لهيب الفوانيس بالظهور.
"سنبقى؟" خرجت منّي أقرب لرجاء، والتعب قد نال نصيبه منّي بالفعل. فأومأ، ثم ألفيتهُ يقترب مني ليقول "يمكنك البقاء"
قبل أن يحث خطاه ليتجاوزني، ونواصِل صامتيْن.فكان مجددًا يدنو، ثم ينتزع نفسه.
كما تموت بندقية لا يُسمع صوت رصاصِها.
أنت تقرأ
عندما تغفو الجبال
Historia Cortaالأشياء لم تعُد تبدو على ماهيتها، ولا ألمَي. أراني أحاول قتل اليد التي تكتم صراخي، ويتكرر الذنب لينهشني، فأُصبح تجسيدًا كافرًا لي. أغرق في قيودي، حتى أظُنّ أن جسدي سينصهِر فلن أملك منه خليّة.