حالةُ وصول عالِقة

1.2K 93 86
                                    

"متى سنصِل؟" كنتُ أسأله كثيرًا وبي إيمان بأنه يملك اجابة كل شيء، رغم أنه لا يقولها ويذر أسئلتي طيّ رُقادها، أو تلتحِف استجاباته ما لا يكثُر عن جُمل بسيطة مُستوية..

لكنني مع ذلك بقيت أسأل؛ ربما لأنه بدا وكأنه يكبرني في السن -رغم أنه لم يخبرني من قبل عن عدد سنواته، والتي توقّعت أنها لا تتجاوز منتصف العشرينيات- ولأننا كنّا نسير معًا على طريق متجمّد منذ ساعات طِوال، حتى ألِفنا المعاناة مع بعضِنا، ونكاد نظنّ أنّ الشتاء بلا نهاية.

كانت أحذيتنا تغوص في الثلج وتنساب بعمقه فنشعر بذوبانه داخلها، لكننا لم نستطيع التوقّف، ولم نترُك إدًّا كالتفكير بالعودة ينخر أفكارنا التي عصِفت بها زفرات الرياح القارِصة، وكلّما نظرت له بين الفينة والأخرى لأستكشف ما يفكّر فيه، أدركُ عندها أنّ تلك غاية دون وصول، وأنّ ذهنه هو الطريق بلا نهاية.

اعتدتُ أن أراه يشعل سجائره في كلّ مرة ينال منهُ البرد، يقول أنها تدفئه. لكنه لم يفعل ذلك هذه المرّة، فاستيقَنتُ عِلمه بأنّ الهواء أضحى قويًا كفاية ليطفئها، فبقيَ في النهاية يفرك كفّيه وينفث فيهما رغم أنها محاولة بلا نتيجة؛ فالبرد قد وجد طريقَه لنا قبل أن نجد المثِيل لأنفُسنا.

"سنصِل حين نجد ما ينتظرنا" أجابني هذه المرة، ولم يبتسم، بيد أنني علمتُ أنه سعيد لتلك الفكرة، وقد يسعد كلانا إن تحققت، لكنني لم أعلم بعد ما أريد إيجاده أكثر من الابتعاد عمّا تركته.

نظرتُ أمامنا وبي أمل قد بدأ يخبو حين أنشأتُ بالتفكير في كم مرّة عليّ أن أعد خطواتي ليتلاشى شعوري بطول المسافة بين راحتنا الأخيرة، والقادِمة التي طال انتظاري لها. جسدي مُنهك يبتغي أن يسدِل عن ستائر يقظته.

وسّعت عيناي عندما لمحتُ البعيد ووجدت جبلًا يلوح بين الظلام، فتحدّثت سريعًا دون أن أشير لحيث مقصدي كي لا أفقد الدفء الذي ولّدته جيوب معطفي

"انظر هناك! لنسترِح عنده قليلًا".

عدنا ننظر له، فوجدتُ تأكيدًا أنها لم تكن مخيّلتي وحسب، لقد كان جبلًا شامخًا.. ورغم أنني لم أكن بذلك التعب فعلًا، فقد تعوّدت في الأيام الخمسة التي رافقته فيها أن أريح ظهري عند سفح كل جبل يقابِلنا، على أمل أنه سيكون سدًّا لمجرى الرياح لئلّا تصيبنا. وقد كنّا مخطئين في معظم الأحيان، لكننا واصلنا تكرار الفِعل مع ذلك.

وافقني حين بدأ يوسع خطواتهُ ليبدأ بالسير أمامي، وكان كلما فعل ذلك، شعرتُ ويكأنه يرمي بنفسه أولًا لأيّ خطر قد يحدق بنا، أما عن حذرنا فلم يتحقق؛ لأننّا لم نقابل في طريقنا أيّ من الأبريكيين*. لكننا بقينا متأهّبين لأيّ مما سيلحق بنا، فقد اعتدنا الاقتراب بحذرٍ من كلّ مكان نظن أنّ إنسيًّا غيرنا قد اتخذه موطن جلوس، وكأننا لم نخشَ شيئًا أكثر من الملاذ.

عندما تغفو الجبالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن