مرت عشر سنوات على هذه القصة، لكنها محفورة في ذاكرتي كأنها حدثت أمس. كان أول أيام عيد الفطر، وكالعادة، زارنا عمي مع أسرته، وكنت أشعر بفرحة كبيرة بحضورهم، خصوصاً أن عمي لديه ولدين، أحدهما أكبر مني بسنتين، والآخر أصغر مني بسنة. كنت في الثالثة عشرة من عمري وقتها، وأيام العيد كانت تعني السعادة، اللقاءات، والطعام الشهي.
جلسنا معًا حول المائدة، كعادة أول أيام العيد، نتناول الرنجة والفسيخ، وكانت الضحكات تملأ المكان. وبعد الطعام، جلست أمي تحضر الشاي، وانشغل الجميع بالأحاديث. وفي لحظة هدوء، انطلق صوت دق الباب بحدة، كأن من وراءه لا يملك الصبر.
ذهبت مسرعاً لأفتح الباب، ولما فتحته، فوجئت بطفلة صغيرة، تبدو في السابعة من عمرها، واقفة أمامي. كان شعرها أسود لامع يتدلى على كتفيها، وعيناها بلون عسلي دافئ، ووجهها كوجه الملائكة، بريء ومشرق. لكنها كانت ترتدي فستاناً أبيض بالكامل، ويدهشني أن ملابسها كانت مبللة بالكامل، تتساقط منها قطرات المياه على عتبة الباب، والدب الذي تحمله بين يديها كان غارقًا بالماء أيضًا. كانت ترتجف بردًا، وأتساءل، كيف وصلت إلى هنا؟
قبل أن أتمكن من استيعاب ما يحدث، كان أبي قد جاء ليقف خلفي، ووجهه متجهم من الاستغراب.
• "إنتِ مين يا حبيبتي؟ وليه هدومك مبلولة كده؟ بتترعشي ليه؟"
رفعت الطفلة رأسها ونظرت إلينا بعينيها المليئة بالخوف، وقالت بصوت مهزوز:
• "كنت راكبة العربية مع بابا وماما، بس العربية اتقلبت بينا في الترعة... والنبي يا عمو، إلحقهم!"
كانت كلماتها ثقيلة على مسامعي كأنها طلقة خرقت هدوء المكان. كان هناك شيء مريب في ملامحها، وكأنها غير موجودة تمامًا في هذه اللحظة، كأنها مجرد صورة مبهتة عن شيء فقد الحياة.
سألها أبي بصوت قلق:
• "حادثة فين يا حبيبتي؟"
• "قصاد البيت عند شجرة الجميز."بدون تردد، قال أبي لها: "ادخلي يا حبيبتي، أنا هنزل أشوف في إيه."
دخلت الطفلة، وأخذتها أمي بسرعة، وضعت منشفة على رأسها وحاولت تهدئتها، ثم تركتها في الحمام وذهبت لتحضر لها ملابس جافة، لكنها عندما عادت، وجدت المنشفة ملقاة على الأرض، ولم يكن هناك أي أثر للطفلة. كأنها ذابت بين الجدران.
بدأنا نبحث عنها في كل مكان بالمنزل. فتشنا الغرف والزوايا، نادينا عليها، ولم نجدها. الجو في البيت صار ثقيلًا، والقلق بدأ يلفنا جميعًا، كأن هناك همسًا غامضًا ينتشر في الهواء. كنا ندرك جميعًا أن ما يحدث لا يمكن تفسيره.
قال أبي، بعد لحظة صمت: "أنا هنزل أشوف في إيه برا."
رد عمي، وعيناه تلمعان بقلق: "استنى، أنا جاي معاك."
تبعتهما أنا وأبناء عمي، نزلنا جميعًا من السلم بسرعة، وأحسست كأن البرودة تحاصرني، وتزداد كلما اقتربنا من شجرة الجميز. وعندها رأينا مجموعة من الناس متجمعة حول الترعة، وصوتهم يملأ المكان بالتوتر والخوف.
اقتربنا منهم، وأصواتهم بدأت تتضح: "بسرعة، يا جماعة! لو لسه فيهم الروح نقدر ننقذهم!" و"ربنا يستر، شكلهم خلاص..."
رأينا سيارة مقلوبة في الترعة، والمياه تحيط بها، وبعض الشباب كانوا يغوصون في المياه الموحلة محاولين إنقاذ من في الداخل. المشهد كان مرعبًا، كأن الزمن توقف عند هذه اللحظة المشؤومة. وأخيرًا، استطاعوا إخراج رجل وامرأة من السيارة، كانا بالكاد يتنفسان.
وبينما يتساءل الناس إذا ما كان هناك شخص آخر داخل السيارة، تردد صوت أحدهم، "فيه بنت صغيرة... بسرعة!"
وقفت أنا وأبي وعمّي، ننظر بعيون مرعوبة إلى ما يحدث، ولم نكن نصدق ما نراه. وعندما أخرجوا جسد الطفلة من السيارة، كانت كلماتهما تضربني كالصاعقة: "لا حول ولا قوة إلا بالله... البنت توفت، مافيهاش نفس خالص."
رأيت الطفلة، وقلبي تسمر مكانه، شعرت بقشعريرة عارمة سرت في جسدي، وكأن تيارًا كهربائيًا اخترقني. كانت ترتدي نفس الفستان الأبيض وتحمل نفس الدمية المبللة، هي نفسها الطفلة التي فتحت لها الباب قبل دقائق. عيوننا التقت، كأننا نحاول البحث عن إجابة في بعضنا البعض، والذعر كان ظاهرًا على وجوهنا.
عدنا إلى المنزل في حالة من الصمت، كل واحد فينا كان محاصرًا في دوامة من الأفكار والأسئلة التي بلا إجابة. لم نعرف طعم النوم في تلك الليلة، ولمدة أيام بعدها. حتى أنفاسنا كانت ثقيلة، كأن البيت نفسه يحمل هذا السر المظلم.
بعدها، هدأنا أبي، وحاول أن يفسر ما حدث: "يمكن روح الطفلة كانت عايزة تنقذ أهلها... يمكن هي كانت جاية تطلب المساعدة."
مرت عشر سنوات على هذه الحادثة، وكل عيد فطر، في الصباح، أقف عند نافذة المنزل، أنظر باتجاه شجرة الجميز. أرى طيف الطفلة، بفستانها الأبيض، تلوح لي بدمية غارقة، وتلعب تحت الشجرة. تبدو كأنها لم تفارق هذا المكان، كأنها لازالت تنتظرني لأفتح لها الباب من جديد.
انتهت