ليله من ليالى الشتاء

6.5K 34 28
                                    

ليله من ليالى الشتاء

كانت التسعينات زمنًا مختلفًا، زمن هدوءٍ وانعزالٍ عن الضوضاء التكنولوجية الحديثة. حين تخرجت من كلية الطب، كان تكليفي في قريةٍ نائية، حيث ينساب الليل بأجواءٍ ثقيلة، حاملاً معه صمتًا موحشًا ورهبةً غامضة. لم يكن الريف يشبه المدينة، ففيه يبدو الليل أطول وأكثر عمقًا، وكأن الظلام يبتلع كل شيء، يترك الطرقات خالية، لا صوت فيها سوى الرياح التي تُصدِر همساتٍ غامضة وكأنها تتحدث بلغة لا يسمعها غير من يتجرأ أن يتواجد هناك.

أقمت في مسكن صغير، بعيدًا عن المدينة، وتعودت على إيقاع الحياة هناك؛ أنام مع غروب الشمس وأستيقظ مع صياح الديك، متأقلمًا مع هذه الوحدة الباردة. وفي إحدى ليالي الشتاء العاصفة، حيث البرد يتسلل حتى في ظل البطانية الثقيلة، كان البرق يمزق السماء بين حينٍ وآخر، متبوعًا بصوت الرعد الذي يكاد يهز جدران المسكن. كنت على وشك النوم، حين سمعت طرقاتٍ خفيفة على الباب، ناعمة لكنها قادرة على اختراق سكون الليل.

تجاهلت الصوت في البداية، لكن الطرقات عادت مرة أخرى، أكثر إلحاحًا. نهضت مترددًا، متسائلاً من يجرؤ على الخروج في هذا الطقس القاسي. فتحت الباب لأجد طفلة صغيرة، ربما لم تتجاوز الثانية عشرة، واقفةً هناك. كانت ترتدي فستانًا أحمر، قديمًا متربًا، وتحمل في يدها دمية دب مهترئة، بينما تتدلى من عنقها سلسلة تتوسطها خرزة زرقاء لامعة. كان جسدها يرتعش بردًا، لكن الغريب أن ملابسها كانت جافة، رغم الأمطار التي تغمر كل شيء. بدا وجهها شاحبًا كأن الدم هجر عروقها، وعينيها واسعتين تطلان من عالمٍ آخر.

همست بصوتٍ منخفض، بالكاد سمعته فوق صوت الرياح: "أرجوك يا دكتور، ماما مريضة." شعرت بارتجافة خفيفة تعتري جسدي، لكنني لم أستطع تجاهلها. ارتديت معطفي، وتبعتها، كانت تسير أمامي بخطواتٍ هادئة ثابتة، بينما كان الظلام يبتلع الطريق أمامنا، لا يسمع فيه سوى صوت خطواتي وحدي، إذ لم تُحدث خطواتها أي أثر على الأرض المبللة، وكأنها تسبح في الفراغ.

عند وصولنا إلى المنزل، فتحت لي سيدة كبيرة عرّفتني بنفسها كجارة للمريضة وقادتني إلى الداخل. وجدت الأم ممددةً على الفراش، تتنفس بصعوبة وتعاني من نوبة سعالٍ حادة. بدأت بمعالجتها على الفور، حتى هدأت حالتها وبدأت تتنفس بسهولة أكبر. بعد انتهائي، رفعت نظري لأبحث عن الطفلة لأشكرها، لكنني لم أجد لها أثرًا. سألت الجارة عن مكان الطفلة، لكن المرأة نظرت إليّ باندهاش قائلة: "أي طفلة؟ لم يكن هنا أحد غيرنا." فسألتها إن كانت تلك الطفلة ابنة المريضة، فأجابت بدهشة ممزوجة بالحزن: "لا يا دكتور، ابنتها الوحيدة توفيت منذ عام، وكانت ترتدي فستانًا أحمر وتعلّق تلك السلسلة التي تصفها يوم رحلت."

في تلك اللحظة، شعرت وكأن برودة الشتاء تضاعفت، وتغلغلت حتى أعمق عظامي، وكأن شيئًا ثقيلًا يجثم على صدري. طلبت الإذن بالرحيل، وغادرت المنزل بخطوات متعثرة، شعرت كأن الظلام يطاردني، يلتف حولي ويمنعني من العودة لمسكني. عدت أخيرًا وأنا ألهث، جلست في غرفة الطعام، أحاول استجماع شجاعتي. لكن ما رأيته على الطاولة أمامي أفقدني ما تبقى من تماسك؛ كانت السلسلة ذات الخرزة الزرقاء ملقاة هناك، تلمع ببرودة مريبة وسط الظلام.

في تلك اللحظة، كاد قلبي يتوقف، شعرت برعشة مرعبة تجتاح جسدي بالكامل، كأنني أواجه كيانًا يتحداني في صمته. قضيت تلك الليلة ساهرًا، عيناي مفتوحتان، أخشى أن أرمش فيظهر لي طيف تلك الطفلة مجددًا. وفي الليالي التي تلتها، تجنبت الخروج ليلاً، وتجنب كل طريق قد يذكرني بتلك الليلة الموحشة.

حتى بعد سنوات، ما زالت ذاكرتي تعود إلى تلك اللحظة حينما سمعت طرقاتها الأولى على الباب، وأسأل نفسي هل كان ما رأيته حقيقةً أم مجرد طيفٍ جاء ليطلب العون؟

تمت

قصص قصيرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن