على الطريق

17 0 0
                                    

على الطريق

في إحدى الليالي العاصفة، كان يوسف يقود سيارته عبر الطريق المهجور الذي يبتعد عن المدينة. كانت السماء تتناثر فيها الغيوم الكثيفة، والريح تعصف بالأشجار والمنازل المهجورة على جانبي الطريق. كانت الأضواء الباهتة على الطريق تكاد تضيء قليلاً من الظلام الذي يلتهم كل شيء حوله. الجو كان ثقيلًا، مليئًا بالرهبة، وشعر يوسف بشيء غير مريح يثقل صدره، لكنه حاول أن يُحكم قبضته على نفسه. كان يعرف هذا الطريق عن ظهر قلب، على الرغم من أنه أصبح أكثر غرابة في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

أشعل يوسف سيجارته وأخذ يديرها بين أصابعه قبل أن يسحب نفسًا عميقًا ويخرج الدخان في الهواء. ترك السيجارة في فمه، ورفع قدميه على دواسة البنزين، يقود بسرعة دون أن يرفع عينيه عن الطريق. لكن فجأة، شعر بشيء غريب. الطريق أمامه كان مليئًا بالحفر والمطبات، وعيناه انزلتا لفترة قصيرة على الطريق بينما كانت يده تتأرجح على المقود. في تلك اللحظة، شعر بشيء يصطدم بمقدمة سيارته بعنف.

أوقف يوسف سيارته سريعًا على جانب الطريق، قلبه ينبض بسرعة، وتراوحت أفكاره بين القلق والذعر. نزل من السيارة، عائداً نحو المكان الذي اصطدم فيه. كانت الأمطار تتساقط بغزارة، تبعث برائحة الأرض المبللة في الجو. وعلى الرصيف، كان هناك رجل عجوز ملقى على الأرض، وجهه مغطى بالدماء، عيناه مفتوحتان في فراغ، وكأن الروح قد فارقته. تجمد يوسف في مكانه. في قلبه صراع مرير. هل يتصل بالإسعاف؟ لكن الحقيقة أن الرجل فارق الحياة منذ اللحظة الأولى. كانت الدماء تتساقط بغزارة من جرح رأسه، وتلطخ الأرض من حوله. النظر حوله لم يكشف عن أحد في تلك المنطقة المظلمة. لم يكن هناك سوى الصمت الذي يخيم على المكان، وكأن العالم قد نسي هذا الطريق.

نظرت عيناه إلى الطريق المهجور الذي بدا خاليًا من أي أثر للحياة. ضاقت نفسه وشعر بثقل كبير على قلبه، ومع ذلك، اختار أن يعود إلى سيارته. جلس خلف عجلة القيادة، وأدار المحرك وهو يحاول أن يُخفي في أعماق نفسه الشعور بالذنب. بدأ يضغط على دواسة الوقود، وكأن السرعة ستخفف من عبء ذلك المشهد الذي لا يتركه لحظة.

لكنه فجأة لمح شيئًا غريبًا. على جانب الطريق، كان هناك شخص آخر، رجل يسير ببطء، لكن ما جعله يقف في مكانه هو الملامح التي كانت متطابقة تمامًا مع الرجل الذي دهسه. بل كانت الدماء لا تزال تلطخ وجهه، وملابسه ممزقة كما لو أنه خرج للتو من الكابوس الذي كان هو نفسه جزءًا منه. تجمدت الدماء في عروقه، وكأن الزمن توقف، وارتجف قلبه من الصدمة. لكن ما كان أكثر رعبًا هو أن هذا الرجل كان ينظر إليه بنظراتٍ حادة، وتلك العيون الميتة التي كانت تحترق به.

ضغط يوسف على دواسة الوقود بكل قوته، لكنه كان يعرف أن الهروب من هذا الكابوس المستمر أصبح مستحيلًا. كانت دقات قلبه تتسارع أكثر، وكلما اقتربت سيارته من تلك النظرات، كلما شعرت قبضته على المقود تتراخى. كأن هناك شيء يزحف داخل قلبه، يلتهمه ببطء. حاول أن يهدئ نفسه، وأن يتجنب ما يراه، متمتمًا بينه وبين نفسه أن هذه مجرد هلاوس ناتجة عن تأنيب ضميره.

لكن لم يمض وقت طويل حتى حدث ما لم يكن يتوقعه. فجأة، كان الرجل يقف على جانب الطريق مرة أخرى، ولكن هذه المرة كان ثابتًا في مكانه، ينظر إليه بنظرة شديدة التركيز، وعيناه الغارقتان في الظلام، متسمرتان عليه وكأنهما يثقبان روحه. بالرغم من سرعة السيارة، كانت الصورة واضحة أمامه، كانت نظرات الرجل كأنها مرسومة على عينيه. في لحظة من الجنون، أدرك يوسف أنه لا يهرب من شيء مادي، بل من شيء أشد قسوة، من ماضٍ لا يمكنه الفرار منه.

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان، في المرآة الخلفية للسيارة، بينما كانت الأمطار تتساقط بغزارة على الزجاج، بدأت تظهر صورة الرجل من جديد، لكنه كان هذه المرة داخل السيارة، جالسًا خلفه، مبتسمًا ابتسامة غير طبيعية، ابتسامة مليئة بالشر والدماء. كانت تلك الابتسامة، التي لا توحي بأي نوع من التعاطف، بل كانت علامة على شيء أعمق من الألم، شيء يراه يوسف الآن يتسلل إلى كل جزء منه.

"فاكر إنك هتهرب من غير ما تاخد جزائك؟" همس الصوت في أذنه بنبرة قاسية، بينما كانت السيارته تتهادى في الظلام، وطريقه يصبح أكثر عزلة، كما لو أن العالم كله قد اختفى وراءه. كانت تلك الهمسات كالسكاكين التي تُمزق أعماقه، وكان يشعر بأن كل شيء ينهار من حوله.

بلا تحذير، فقد سيطر عليه الذعر بالكامل. شعر بشيء ثقيل على صدره، وعيناه تذهلان أمامه. دوامة من الخوف تجتاحه، وأصبحت الصورة في المرآة أكثر وضوحًا. كانت الابتسامة تتسع أكثر وأكثر، والدماء على وجهه تتساقط في المرايا بشكل أعمق، وكأنها لا تنتهي أبدًا.

أدار يوسف عجلة القيادة بعنف محاولًا الهروب، لكن الأمر كان قد فات. انحرفت السيارة فجأة خارج الطريق، وانقلبت عدة مرات في المنحدر، بينما كان جسده يتناثر في كل زاوية داخل السيارة. في اللحظة الأخيرة، عندما استقرت السيارة على ظهرها، كانت الدماء قد غطت وجهه، ولكن الأمر لم ينتهِ بعد.

في الظلام، بقي يوسف عالقًا بين عالمين، حيث كان عقله يُطفأ ببطء، والجروح العميقة تغرقه في بحر من العذاب. تلك الابتسامة كانت آخر شيء رآه قبل أن يغرق في السكون الأبدي.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: 2 days ago ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

قصص قصيرةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن