إبراهيم
"لقيط؟ سيد لقيط؟" صوتُها الحادُ زارَهُ في حُلُمهِ ولكن في شكل صوتٍ آخر. . صوت أنعم ونبرةٍ أرق وأهدأ. . "إبراهيم. . إبراهيم؟" ناداه الصوتُ في حُلُمه. كالغيمة كان الصوتُ ناعِماً مملوءاً من صاحبه بالودّْ. "إنه وقتُ القِصَّة. . سيد لقيط؟" استيقظ غاضباً من صوتها الذي كاد يُمزقُ أذنيه. استيقظ ورأسه ثقيلٌ جداً، لُعابه باردٌ يسيل على خده. "أنا قادِم." صَرَخ لتحلَّ عنه. عِندما حاول النُّهوض آلمته كل عظمةٍ وعضلة في جسدِه، وألم الكدمات على ذراعيه وركبتيه كان أعظَمَ الآلام. . أنَّ ككلب ضعيف حتى وقَف على قدميه. الماء البارد على وجهه وذراعيه أنعشه وخفَّف من صُراخ كدماته، استنشق رائحته الطبيعية واستشعر إبراهيم الماء حتى جفَّ وتبخر على جسده.
وهو في طريقه للخارج سقط مُتعثراً في طاولته، لم يكُن جسده في حاجةٍ لأي آلام جديدة ولكن الظَّلام كان حالِكاً في الغُرفة، لا نُقطة ضوء حتى ليرى اللقيط الأرض والجُدران من حوله. "سيد لقيط؟ أنت مُتأخر." نبَّهتهُ مرة أُخرى. . مُتحاملا على آلامه وثقله فتح اللقيط الباب. "أنا قادِم."، أعاد ألوانه ولوحاته وفرشة رسمِهِ على الطَّاولة ثم خرج.
ابتسامتها لم تكُن مرجوة كسائر الابتسامات، أسنان جاسي كانت ناقصةٌ تارِكةً فمها كنفق أسودٍ لا نهاية له. ارتدت فُستاناً أصفراً مع ورودٍ بيضاء مرسومة على أكتافها وصدرها اليوم، إحدى الورود كانت مُمزقة، مُعظم ملابِسها القليلة كانت مُمزقةً ولكن هذا ليس أقبح ما فيها. حمَلَت في يديها دُميتها الوردية التي لا تُفارقها أبداً، دُمية بشعرٍ وردي سائح وابتسامة جميلة، وفُستانٍ وردي فضفاضٍ وفخمٍ، أميرةٌ كرتونية، خمَّن إبراهيم. ليتك تُشبهين دُميتك. أراد إبراهيم أن يُخبرها ولكن بكائها مُزعجٌ أكثر من أن يحتمله.
نزلُوا على السَّلالِم سوية، ثُمَّ ذهبت جاسي وجلست في حضن أُمها، إنها تُشبه أمها. . وكِلاهُن تنفر منهن الأعين. كيف حملت ميرا والد جاسي على أن يتقرب منها ليُنجبوا جاسي. . ؟ سُؤال راود إبراهيم أحياناً، فالأكيد أنه لم يتطوَّع.
ظَهَر العجوز. صاحِبُ غُرَف المُجمَّع الذي يسكنه إبراهيم. . العجوزُ كان ملفوفاً في رداءٍ أبيضٍ وطبقة من الصُّوف لتُخفف عنه البرد. لم يمنع هذا إبراهيم من الشعور بالشفقة عليه في البردِ القارص. العُمر سلب من العجوز صحته وقوته ولحمه فأصبح عظماً وجِلداً رقيقاً، وفريسةً سهلة للبرد، ولكنه رُغم ذلك لم يتكاسل عن إلقاء القصة التي أجبر كل مُستأجرٍ على سماعها في كُل ليلة. كان بنداً في عُقود الإيجار. .
قصة مُختلفة في كل ليلةٍ. أحياناً تكُون القصص عنه، وأحياناً تكُون خيالية، تاريخية في أحيانٍ أخرى وواقعية عن شخصٍ يعرفه أو موقف رآه، قصص عن الحروب وعن الحب وعن الصداقة وعن العهود وعن الأشعار وعن الصور وعن الحيوانات وعن الأساطير وعن السحرة وعن المُدن وعن الكُتُب وعن الكُتَّاب. أحياناً تكُونُ حزينةً، وأحياناً تكُون بنهاية سعيدة، وقصصٌ لا نهاية لها أصلاً. مادامت القصة تحمل عِبرةً فسيلقيها العجوز حقيقية كانت أم وهمية، وكُلُّ فردٍ في المُجمع أُلزم بسماعِ القصة وتفريغ الوقت لها، وكل السكان كانوا هُنا الليلة.
أنت تقرأ
أطرق بابي
Poetryأطرق بابي. . ماذا ان تطهر الحب من دنسكم ؟ من شهواتكم، من نفاقكم. . أيها البشر!