Untitled Part 12

6 1 0
                                    


                                                                                               مُهيبة

الظَّلام يُمد كُل سيء. والِدُها لم يمل هذا التحذير أبداً حتَّى حُفِر في ذاكِرَتِها.

القصفُ لم يتوقَّف منذُ أيام، والعائلاتُ لم تخرُج إلى الشَّوارِع منذُ أيام. الأرض كانت حِصنُهم الوحيد من الصَّواريخ، وفي ذاتِ الوقتُ مانِعُهم من الشَّمس، من الهواء ومن الحياة. الحياةُ لم تعُد هي الغاية منذُ بدأ القصف، النجاةُ هي الغاية الآن، والهُروبُ من الموتِ ولو لحياةٍ سيئةٍ.

مُهيبة استلقَت بينَهُم في هذا القبر الكبير، وطِفلُها أتعبها ركلاً. أُم مازِن بشَّرَتها بابن وأخيراً. تألَّمت مُهيبة وسطَ المُتألِّمين من النَّاس الذين أجبرهُم القصفُ ليسكُنوا تحت الأرض في خندقٍ كبيرٍ وفَّره الرِّجال. قرَّرُوا أن يدعُوه بِدُون حِراسةٍ لكيلا يعلم أحدٌ بشأنِه. النِّساء كانت ترتجِف فيه والأطفال تصرُخ مع كُلِّ قذيفة ليرتد صوتُهم عليهم ويزيدهم رُعباً. السَّقفُ كان عالياً والجُدران مُتباعِدةً، قديمةٌ مُقشَّرة.

كلٌّ يصلى لإلهه الذي يُؤمن به، ومُهيبة صلَّت ألَّا يُصاب ابنُها بمكرُوهٍ. الهواء كان قليلاً ومُهيبة عانت وهي تحمِلُ مسؤُولية روحين. والِدتها كانت معها تُمسكُ بيدها وتُصلِّي هي الأُخرى. لا يملِكنَ من الحيلة الآن سِوى الدُّعاء والصلاة. الطَّعامُ الذي يصِلُهم قليلٌ والماء كان قليلاً أيضا. لحسن حظِّهم فتفاهُمهم وحُبُّهم ساعدهُم على تدبير أُمورهم، ولو كانوا قوماً آخرين لأكلوا لُحوم بعضِهم. الماء، الشاي، الخُبز وبعضُ الجبن. هذا كُلُّ ما استطَاعُوا تذَّوقه، ولكن الكميات لم تُشبِعهم يوماً من هذه الأسابيع والليالي العِجاف.

من في يومٍ مَّا استمتَعت أعيُن مُهيبة بتلوينِهم لشوارِع البِلاد اسودَّتِ اليوم وُجوهُهم، ذبُلت أعينُهم، تمزَّقت ملابِسُهم البراقة ومُحيت ابتساماتِهم. لم يعُد للضَّحِك بينهم مكانٌ، وحناجِرهم لم تعُد تفقه سِوء لُغة البُكاء. الحرُّ كان شديداً والعَرقُ التَصق بجُلُودِهم لأيام حتَّى وخزها، رائِحةُ البارودِ والدُّخان خنَقَتهم. في ليلةٍ من الليالي المُظلِمة استيقظت امرأةٌ تُنادي عزرائيل ليأتي ويُخلِّصها من هذا الجحيم، وفي الصَّباح هربت ولم تعُد. لن تبتعِد كثيراً فالقنابِل لا تنامُ لها عين.

مرَّ الآن على حملِ مُهيبة سِتَّة أشهُر. بطنُها كبُرت كثيراً لِّهذا لم يكُن لها بُد من الاختباء رُغم رفضِها التَّام. بقية صديقاتِها من زهرة الأُقحوان استمروا في نشاطِهم. الأخبار كانت تَّصِلُها أحياناً. كُنَّ يفعلن ما بِوسعهن، يقتُلن جُنوداً، يسرِقن ذخيرةً ويُفجِّرن مخازِن وفي حالاتٍ نَّادِرةٍ يأسِرن جُندياً ليستجوِبنه، وإن حالفهُن الحظ يُنقذن شخصاً. الرّجال أيضاً كانوا يُحارِبون بكُلِّ ما يملِكُون، يضربون الطَّائرات برصاصٍ ويقفون أمام الدَّبابات بالحِجارة، وأمام السِّلاح بأيديهم، وأمامَ النِّيران بدُموعِهم. أطفالٌ، شبابٌ وشيُوخ، أصحاء ومرضى. مُهيبة رأَت مُقعداً يحمِلُ سلاحاً ويصرُخ بينما كانُوا يجرَّونها للخندق.

أطرق بابيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن