مذبحة يهود غرناطة

493 17 0
                                    

 حينما سقطت دولة الخلافة الأموية في قرطبة وانتهى أمرها في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، قامت على أنقاضها دويلات ملوك الطوائف!فاختصت كل من هؤلاء ملوك الطوائف بمدينة و ما حولها. و قد تمكنت أسرة "زيري بن مناد" الصنهاجية من الاستئثار بمدينة غرناطة.وذلك على يد "حبوس" ثم ابنه "باديس" و دامت دولتهم من (1013 إلى 1089م )—

واستعان "حبوس" بوزير من يهود غرناطة يدعى "صموئيل بن النغريلة" و كذلك فعل "باديس" و كان باديس وكان من أقوى ملوك البربر واستمر يحكم سبعة وثلاثين سنة.يقول الفتح في قلائده: "كان باديس بن حبوس بغرناطة عاثياً في فريقه، عادلاً عن سنن العدل وطريقه، يجتريء على الله غير مراقب، ويسري إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب، قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه، ناهيك من رجل لم يبت من ذنبٍ على ندم، ولم يشرب الماء إلا من قليب دم، أحزم من كاد ومكر، وأجرم من راح وابتكر، وما زال متقداً في مناحيه، متفقداً لنواحيه، لا يرام بريث ولاعجل، ولا يبيت له جار إلا على وجل.وكان لباديس كاتب اسمه أبو العباس، وكان لأبي العباس هذا مساعد يهودي اسمه "يوسف بن نغرالة"، كان داهية، فلما توفي أبو العباس أخذ يوسف اليهودي مكانه وأخذ في التقرب إلى باديس. قال ابن عذاري المراكشي في كتابه المسمى بالبيان المغرب: أمضى باديس كاتب أبيه ووزيره ابن نغرالة اليهودي، وعمالاً متصرفين من أهل ملته، فاكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين.وساعده في ذلك محاولة بعض أقارب باديس الانقلاب عليه، وعرضوا على اليهودي الانضمام لهم، ولكنه أحس بفشل تلك المؤامرة فقام بإخبار باديس وحصل على ثقته، فرفعه باديس فوق الوزراء، فاستغل اليهودي ذلك وعين يهودًا في مناصب مهمة.واستمر "ابن نغرالة" في مكانته حتى مات، فندب باديس ابن وزيره الهالك وكان اسمه أيضًا يوسف وكان يشبه أباه في الخبث ومعرفة ما يحبه الحاكم.يقول ابن عذاري المراكشي " عن هذا اليهودي فإنه يسميه دائماً : (هذا اللعين) !!"مات " صموئيل ابن النغريلة " مطلع العام 459 هـ - 1065 م فاستوزر " باديس " ابنه " يوسف بن صموئيل " فأمعن هذا بالفساد و الإساءة أكثر من والده فجمع الأموال و استعمل اليهود في الوظائف المهمة . فامتلأ الناس غيظاً من اليهودي و من أمير غرناطة الغافل الغارق في لذائذه .ابن باديس ووزيره اليهودي (يوسف بن نغرالة)كان يوسف اليهودي رجلًا ذكيًّا نجح في أن يستأثر بعطف باديس وثقته، فرفعه باديس فوق سائر الكتَاب والوزراء، فقام اليهودي بتعيين بني جلدته اليهود في كثير من المناصب الهامة في الدولة، واستطاع بمهارته أن يملأ خزائن باديس بالأموال، وهذا ما يرضي الحكام عن وزرائهم. لقد كان اليهود و سواهم، خلال حكم المسلمين للأندلس، يتمتعون بحق المواطن في شتى المجالات و لكنهم كانوا دائما قوما ً ميالين إلى الفتنة، و الفتنة أشد من القتل".وكانت الاستعانة بهم في مناصب كبرى حساسة خطأ جسيماً يمس الوحدة الوطنية و الإرادة السياسية يقول ابن حيان وصفًا لهذا الوزير اليهودي، فيقول: "وكان هذا اللعين في ذاته على ما زوي الله عنه من هدايته من أكمل الرجال علمًا وفهمًا وذكاءً ورصانة ودهاءً ومكرًا , ومعرفة بزمانه ومداراة لعدوه واستسلالًا لحقودهم بحلمه, بارعًا في الآداب العبرية والعربية, قليل الكلام دائم التفكير، جمَّاعة للكتب".وقد ساعدته هذه الصفات بلا ريب للوصول لتلك المنزلة, واستمر ابن نغرالة في مكانته حتى هلك، فندب باديس ابن وزيره الهالك وكان اسمه أيضًا يوسف وكان صنو أبيه في الذكاء والدهاء ومعرفة ما يطلبه الحاكم من وزيره، فأبدى همة مضاعفة في جمع الأموال فتمكنت منزلته لدي باديس، واجتمعت في يده السلطات شيئًا فشيئًا حتى غدا كأبيه من قبل، أول رجل في الدولة، وأمضاهم تصرفًا في شئونها.وكان استئثار اليهود بالمناصب يثير غضب أهل غرناطة، وكان من الغاضبين الأمير بُلُقِّين ولد باديس الأكبر وولي العهد من بعده، والذي كان يسعى لقتل يوسف ابن الوزير اليهودي، وتضامن مع بلقين الكثير من رجال الدولة وشيوخ البربر.وكان يوسف اليهودي من جانبه يضع جواسيسه في القصر، فعرف يوسف من جواسيسه بنية بلقين في قتله، واستطاع أن يقتل بلقين بالسم، فصدم باديس، وأفهمه يوسف اليهودي أن بعض خدم ولده بلقين هم السبب في ذلك، فقتل بعضهم.وبعد ذلك ابتعد (باديس) عن القيادة، وفوض اليهودي واستسلم الجميع لذلك عدا رجل اسمه "الناية"، وهو رجل خدم باديس.وكان "الناية" يحرض باديس على اليهودي، ويكشف له عيوبه، حتى بدأ باديس يتغير من ناحية وزيره، خاصة بعد السخط الشعبي بغرناطة ضد اليهودي بعد قصيدة قالها الفقيه أبو إسحاق التجيبي في اليهود.وهنا أحس (يوسف بن نغرالة ) بعد ذلك بتغير "باديس "عليه، فراسل المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية يدعوه للاستيلاء على(غرناطة)، ولكن الله سلم فقد كان المعتصم وباديس أصدقاء منذ أن ساعد باديس المعتصم عندما أراد عبد الملك بن عبد العزيز المظفر ابن أبي عامر استرداد ألمرية. لم تدم وزارة "يوسف بن صموئيل" إلا أقل من سنة، فلقد بلغ غضب الشارع في غرناطة مداه و تمكن الفقيه "أبو اسحاق الألبيري" من تأليب الناس، لأنه كان فقيهاً صادقا لا يصدر الفتاوى نفاقاً و مراءاة ً للسلطان، و إنما كان يراعي الله في فتواه.كانت (غرناطة ) في تلك الفترة تتأجج ضد اليهود لما أرهقوا به الناس من شدة في الجباية والمعاملة إرضاءً للأمير، وزاد ذلك ما كان يتداول من شعر أبو إسحاق الألبيري الذي دعا فيه أهل غرناطة للثورة على ظلم اليهود بين العامة. قصيدة الفقية أبو إسحاق الألبيري النارية التي كانت سبباً في ثورة عارمة في غرناطة أتت على الوزير اليهودي و أسرته و نفوذه و جماعته.ألا قل لصنهاجة أجمعين بدور النديّ وأسْد العرين لقد زل صاحبكم زلة تقر بها أعين الشامتين فعز اليهود به و انتخواوتاهوا و كانوا من الأرذلينوما كان ذلك من سعيهمولكن منا يقوم المعينوإني احتللت بغرناطةفكنت أراهم بها عابثينوقد قسموها و أعمالهافمنهم بكل مكان لعينولا ترفع الضغط عن رهطهفقد كثروا كل علق ثمينو فرق عراهم و خذ مالهمفأنت أحق بما يجمعونلقد كانت فتوى الفقيه "أبي اسحق الألبيري" و قصيدته الثائرة كالزيت الذي صب على النار، و هاجت غرناطة و ماجت، و أميرها "باديس" منغمس في بطالته، عاكف على شرابه كما يذكر"ابن الخطيب"و اضطرت قبيلة صنهاجة إلى تجاوز أميرها "باديس"، فانطلقت انتفاضة شعبية في غرناطة تقودها القوى المخلصة من أبناء المدينة تعبيرا عن الموقف الصادق الممثل لرغبة الجمهور في غرناطة . ولولا فساد الوزير اليهودي وغطرسته وقذارته لما ثار الناس، ولما صدرت فتوى الفقيه الألبيري .ثورة أهل غرناطة ضد يوسف ابن نغرالة واليهود:وبالفعل وقع الانفجار في مساء السبت العاشر من شهر صفر سنة (459هـ / 30 ديسمبر 1066م)،حيث اجتمع يوسف اليهودي في هذه الليلة على الشراب مع طائفة من صحبه من الضالعين معه في مؤامرته، وكان مشروعه لاستدعاء ابن صمادح قد نضج، وكان ابن صمادح قد استعد بجنوده في مكان قريب من المدينة للانقضاض عليها.في نفس الوقت كان هناك جماعة صنهاجة الثائرون على اليهودي ونفوذه وينقمون على أميرهم تهاونه وتخاذله، قد أخذوا في مراقبة حركات اليهودي وسكناته، وقد استشعروا رغم الحذر الشديد من جانب اليهودي أن هناك مؤامرة تدور في الخفاء.وقعت حادثة صغيرة وعابرة في تلك الليلة أدت للانفجار، وذلك أن مشادة وقعت بين أحد الحاضرين مع حاشية وخدم يوسف اليهودي، فانطلق هذا الرجل خارجًا من الدار وهو يصيح: "لقد غدر اليهودي ودخل ابن صمادح البلدة. وفي الحال هرع الناس -وهو يتصايحون "غدر اليهودي، غدر اليهودي" وفي مقدمتهم شيوخ صنهاجة- إلى دار اليهودي، فهرب يوسف منها واستجار بباديس فلم يفد ذلك شيئًا، حيث هجم الناس على قصر باديس وفتشوه حتى عثروا على اليهودي في حزائن الفحم وقد تنكر وصبغ وجهه بالسواد، فأخذوه وقتلوه، ثم صلبوه على باب غرناطة.وكان الجند والمدينة بأسرها، قد هاجت يومئذ، وتخاطف الناس السلاح، وهجموا على بيوت اليهود في كل مكان وأمعنوا فيهم تقتيلًا وتعذيبًا، ونهبوا دار يوسف اليهودي، وكان ذاخرة بالكنوز التي جمعها من دم الشعب الغرناطي، وبلغ عدد من قُتل من اليهود يومها ثلاثة آلاف يهودي.وتم إستئصال وتصفية النفوذ اليهودي دفعة واحدة غرناطة على الثورة الشعبية و كان ذلك أواخر العام (459 هـ - 1065 م ). المصادر والمراجع:كتاب (البيان المُعِرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب).لأبي العباس أحمد بن محمد بن عذاري.كتاب :نَفْح الطِّيب من غصن الأَنْدَلُس الرطيبللمقري.كتاب:(الإِحَاطَة فِي أَخْبَارِ غَرْنَاطَة)لسان الدين ابن الْخَطِيب.كتاب (دولة الإسلام في الأندلس)محمد عبد الله عنان

التاريخ الاندلسي الاسلاميWhere stories live. Discover now