الخليفة والدجال والذاكرة الشعبية بسبب حاجته لفترة نقاهة، مكث الخليفة يعقوب المنصور في إشبيلية بعد أن تماثل للشفاء من التهاب الأمعاء الذي أصيب به أثناء حملته على شلب وغيرها من أراضي النصارى. وقد استغل إقامته بإشبيلية، ليشرف شخصياً على إدارة شؤون الرعية والنظر في المظالم والبث كعادته في الأمور القضائية، ومنها النظر في شأن أولئك الذين قضوا سنوات في السجن ولم يتقرر مصيرهم، وقد منع بكل صرامة بعض الممارسات غير الشرعية...
وأثناء مقامه بإشبيلية، وصلته الأخبار عن تمرد أحد الدجالين في مراكش يدعى الجزيري (نسبة إلى الجزيرة الخضراء). ويخبرنا ابن عذاري أن هذا الأخير، وبعدما درس في الأندلس على يد بعض الفقهاء من ذوي التكوين المحدود، أقبل على العلوم الدينية الغامضة، وعلى أعمال الوعظ والإرشاد، وقد نُفِيَ بسبب ذلك من الأندلس. وفي المغرب لم يتخل على ما بدأه في الضفة الأخرى، وبدأ بالتنقل من مكان إلى آخر يحرض العامة على التمرد.
ولما علمت السلطة الموحدية بوجوده في مراكش، أمرت بالبحث عنه وإلقاء القبض عليه، لكنه تمكن من الفرار إلى فاس ثم إلى بعض المناطق الساحلية التي نجح في الفرار منها والعودة إلى الأندلس.
وبسبب إفلاته المستمر من المكامن التي كان يدبرها له الموحدون، بل وتمكنه من الفرار حتى لما يلقى القبض عليه، شاع بين الناس أنه يتحول عند وجوده في مأزق إلى حيوان، فيظهر تارة في صورة حمار، وتارة أخرى في صورة كلب أو قط، وهكذا كان الذين يؤمنون بهذه الأمور، لما يجدون قطاً غريباً في بيتهم يعتقدون أنه الجزيري أخذ تلك الصورة اضطراراً.
هذه الرواية التي أوردها ابن عذاري لا تختلف كثيراً عن تلك التي وردت عند ابن سعيد المغربي الذي يقول عنه: "برع في العلم وجال، وثار في رأسه أن يحي سنة المهدي ابن تومرت... واشتهر أمره وعظم في النفوس خبره... وشاع عند الناس أن يتصور في صورة قط أو كلب، وكانت العامة ترحم الكلاب والسنانير بسبب ذلك...".
وقد أمر يعقوب المنصور بتكثيف الجهود للقبض عليه، وفي النهاية ألقي القبض عليه بضواحي مرسية التي اقتيد منها إلى إشبيلية. وأثناء تقديمه للمحاكمة نفى بكل جبن ما نسب إليه من تحريض للعامة على التمرد، غير أن ذلك لم يحل دون إعدامه وصلبه، وبذلك طوي بشكل نهائي ملف هذا المسلسل الغامض.
للمزيد، انظر: "التاريخ السياسي للإمبراطورية الموحدية"، تأليف "أمبروسيو هويسي ميراندا"، ترجمة عبدالواحد أكمير.
YOU ARE READING
التاريخ الاندلسي الاسلامي
Historical Fictionكتاب جامع يحمل بين طياته اهم احداث وشخصيات التاريخ الاندلسي