كنت بالأندلس يتيمًا، فجعلني إخوتي راعيًا لمواشيهم، فإذا رأيت من يصلي أو يقرأ القرآن أعجبني ودنوت منه، فأجد في نفسي غمًّا لأنّي لا أحفظ شيئًا من القرآن ولا أعرف كيف أصلي، فقويت عزيمتي على الفرار لأتعلّم القراءة والصلاة؛ ففررت.
كان زاهدًا فاضلًا عارفًا بالله، خاض من الأحوال بحارًا، ونال من المعارف أسرارًا، خصوصًا مقام التوكُّل الذي لا يشقّ فيه غباره ولا تُجهل أثاره، كان مبسوطًا بالعلم مقبوضًا بالمراقبة كثير الالتفات بقلبه إلى الله حتى ختم الله له بذلك،
ولقد أخبرني من أثق فيه ممن شهد وفاته أنه قال: رأيته عند آخر زمانه يقول الله الحق .هكذا وصف الشيخ أبو صابر أيّوب بن عبد الله الفهري، العالمَ المتصوّف أبا مدين شعيب الغوث، الذي جمع بين الفقه والتصوّف والجهاد، فعزم مع تلامذته على السير من مدينة بجاية [ شمال الجزائر ] لنصرة صلاح الدين الأيوبي في معركة تحرير القدس،
فكتب لأهل المغرب العربي في المدينة المقدسة تاريخًا مرصعًا بالمجد والبطولة، خلّده ابن الناصر صلاح الدين بوقفه لحارةٍ بجانب المسجد الأقصى للمرابطين من أهل المغرب العربي، سُميت على اسمهم [بـحارة المغاربة ]
ولد أبو مدين شعيب بن الحسين الأنصاري الأندلسي في قطنيانة، الواقعة بضواحي إشبيلية في الأندلس، واختلفت المصادر التاريخية في تحديد دقيق لسنة ميلاده، فذهب بعض المؤرخين إلى أنّ عـام ولادته كان سنة [510هـ 1116م] وقيل سنة [514هـ – 1120م]، والأرجح أنّه ولد سنة [509هـ – 1115م] استنادًا إلى رواية المؤرخ محمد بن حمدون البناني حين تعرض لوفاته فقال
: توفي سيدي أبو مدين شعيب بن الحسين الأندلسي في سنة أربعٍ وتسعين وخمسمائة، عن نحـو خمسٍ وثمانين سنة أي أنّ مولد أبي مدين كان في سنة 509 للهجرة، وقد كان منذ نشأته فتى كثير التأمل، شغوفًا بالتدين والعبادة.__حسب أبي يعقوب يوسف بن يحيى التادلي في كتابه التشوّف إلى رجال التصوف فإنّ أبا مدين نشأ يتيمًا، فكلّفه إخوته –وكان أصغرهم سنًّا– برعي مواشيهم التي ورثوها عن والدهم، فكان أبو مدين –أثناء عمله بالرعي– إذا رأى مصليًا أو قارئًا للقرآن اقترب منه، وكان يجد في نفسه غمًّا عظيمًا لكونه لا يفعل مثله، بحكم جهله بالصلاة والقراءة فيحدِّث إخوته بمـا يجد،
لكنّ إخوته كانوا ينهونه ويأمرونه بالسهر على رعاية مواشيهم حتى اشتدّ غمّه على ما هو فيه، وقويت عزيمته على التعلّم وسلوك درب العارفين ليترك رعي الأغنام، ويقرّر الفرار إلى الله من بجاية إلى القدس الشيخ يقود المغاربة للجهاد مع صلاح الدين في طريقهم إلى القدس، انتهج الصليبيون أشدّ أنواع القمع والقتل بحق كل من مرّوا فيه أو التقوا به، وبعد حصارٍ لعدةِ أيامٍ، اقتحم الصليبيون القدس وأوغلوا ذبحًا وقتلًا بأهلها، وكانت البداية بمجزرةٍ جماعيةٍ قتلوا فيها الناس بالشوارع والمنازل والأزقة،
لدرجة أن القتل استهدف يهودًا ومسيحيين أيضًا لأنهم جميعًا ذوو ملامح عربية، فبلغت الدماء الركاب. وحسب ابن كثير في كتابه البداية والنهاية فقد سقط في ذلك اليوم الكثير من العلماء الوافدين إلى القدس الذين كانوا جلّهم من بلاد المغرب والأندلس، كان مشهد القدس هذا يوم السقوط المذلّ في شهر شعبان سنة 492هـ الموافق لشهر يوليو تموز من عام 1099 للميلاد.
استمرّ الاحتلال الصليبي للقدس عشرات السنين، وسط تمزقٍ سياسي شهدته بلاد الشام، أمّا في بلاد المغرب فقد استقبلت أخبار الاحتلال الصليبي للقدس عن طريق قوافل الحجيج، بحكم أنّ القدس كانت مزارًا للحجيج والعلماء المغاربة في رحلتهم إلى الحج، إلى أن بدأت حملة صلاح الدين الأيوبي لتحرير بيت المقدس.
في الوقت الذي كانت فيه القدس ترزح تحت حكم الصليبيين، كان أبو مدين حسب الدكتور عبد الحليم محمود يبثُّ في محبيه وتلاميذه المغاربة روح الجهاد في سبيل تحرير بيت المقدس، وأثناء عودته من الحج مع الوفد المغاربي، انخرط أبو مدين مع تلاميذه في جيش صلاح الدين الأيوبي في معركة حطّين الشهيرة التي انتصر فيها جيش صلاح الدين، وفتحت من خلالها مدينة القدس، وكان للمغاربة دورٌ مهم في حيثياتها، فكان أن فقد أبو مدين الغوث ذراعه في تلك المعركة.
وعرفانًا لجهاد أبي مدين والمغاربة الذين معه، ومشاركتهم في تحرير القدس من قبضة الصليبيين، أوقف ابن صلاح الدين الأيوبي وقفيةً امتدت من باب المغاربة حتى باب السلسلة، وأوقف خصيصًا مزارع وبيوت وأملاك عديدة في قرية عين كارم لأبي مدين وجنده. ولا تزال صورة الوقفية محفوظة في سجلات المحكمة الشرعية في بيت المقدس
وقبل وفاة أبي مدين الغوث أُضيفت أجزاء من قرية عين كارم التي تقع بضواحي القدس الشريف، وقرية إيوان التي تقع داخل المدينة القديمة إلى وقف المغاربة في القدس. كما أوقف أبو مدين سكنًا للواردين من المغاربة سمّي بزاوية سيدي أبي مدين الغوث
، وجاء في وثيقة الوقف: [ أوقفها بأموالها ومياهها وآبارها وسواقيها وسهلها ووعرها ومبانيها وقفًا لله يصرف للسابلة من المغاربة المارين والمنقطعين للعلم والجهاد المرابطين على وصية صلاح الدين الأيوبي ].__دوّنت وثيقة أوقاف أبي مدين لأول مرة سنة 666هـ الموافق لـ1267م، وأعيد تدوينها في عام 1004هـ الموافق لـ1595م،
وبقيت هذه الأوقاف صامدة لأكثر من ثمانية قرون قبل أن يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي سنة 1948 ويستولي عليها بالكامل. وفي حوارٍ صحافي مع جريدة الأهرام المصرية كشف عبد اللطيف أبو مدين -أحد أحفاد أبي مدين الغوث
عن رفع عائلة أبي مدين دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية للمطالبة بحقوقهم التاريخية في هذه الوقفية.هذه تُربة العباد ما أحلى بها الرقاد ..الوفاة تمنعه لقاء الملك الذي خافه__يذكر عبد الحليم محمود في كتابه عن أبي مدين أنه بعد عودته من القدس،
آثر أبو مدين النزول في مدينة بجاية شرق الجزائر والإقامة بها، وهناك رزق بابنه مدين، وظل يمارس الوعظ والإرشاد في جامع البلدة، وتعليم مريديه وتلاميذه الحكم الغوثية في مدرستها حتى بلغ الثمانين من عمره، كما كان يدرّسهم
كتاب «المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» للإمام الغزالي، وهو الكتاب الذي كان أبو مدين متحفظًا في تدريسه لطلابه إذ كان يمنعهم من أن يكتبوا ما يلقنهم عن الكتاب
ولمّا ذاع صيته في بلاد المغرب، واتسعت شهرته في الآفاق؛ وشى به بعض علماء الظاهر إلى ملك الموحدين يعقوب المنصور، فتوجّس المنصور خيفة من شعبيته الفائقة وشهرته، فكتب إلى والي بجاية يأمره بأن يرسل الشيخ أبا مدين إليه. فشقّ طلب الملك المنصور على أهالي بجاية، وعزّ عليهم فراق شيخهم، وخافوا عليه وأبوا أن يغادرهم،
طمأنهم أبو مدين بأن إجابة ولي الأمر هي من طاعة الله، وأنه شعر بدنوّ أجله الذي قد يتوفاه قبل الوصول إلى قصر الملك في مراكش، كما أنه سيدفن عند قوم آخرين برفقٍ وإحسان.
توقّع أبي مدين كان في محله، فسرعان ما توفاه الله وهو في طريقه إلى الملك المنصور بسبب مرضٍ ألمّ به، فما إن شارف تلة العبَّاد بتلمسان حتى قال: «هذه تربة العبَّاد ما أحلى بها الرقاد» ليتوفى أبو مدين سنة 594هـ، ويُدفن في تلمسان، ويبقى ضريحه إلى اليوم يعرف توافدًا للمغاربة، كما اختار أحفاده الإقامة في مصر لاحقًا......
YOU ARE READING
التاريخ الاندلسي الاسلامي
Historical Fictionكتاب جامع يحمل بين طياته اهم احداث وشخصيات التاريخ الاندلسي