مسيرة الأرواح في عالم البرزخ
وبعد صمت واصل ( حسن ) : لقد كان هذا الطريق مقدر لك سلفاً لكن جرى استثناؤه وذلك لتوبتك ٬ رغم محاولات الذنب لإعادتك إلى ذلك الطريق ، قلت : كانت توبتي من الذنوب الكثيرة التي أرتكبها صغيرها وكبيرها ، قال : إنه طريق رهيب للغاية كان عليك قطعه لولا توبتك وهو بالإضا فة إلى طوله ومنعطفاته
ومعابره الضيقة والمظلمة ٬ فإنك لا تأمن مافيه من حيوانات وحشية ٬ ثم أخذ (حسن ) بيدي وقال : هيا بنا نعود إلى طريقنا السابق .
قطعنا ماتبقى من الطريق حتى وصلنا مكاناً فسيحاً يشبه المستنقع ولما وضعت قدمي فيه بركت فيه حتى الركبة ، وكان ( حسن ) يسير بسهولة ٬ فلما رآني تراجع إلى الخلف وطلب مني أن أمسك بيدي على رقبتي ليعينني ، غطست في المستنقع حتى فمي ولم تعد لديّ إمكانية الصراخ وطلب المعونة ٬ وإذا بذلك الملك يطلّ
علينا وناول ( حسن ) حبلا وقال له : هذا الحبل كان هو قد أرسله سلفاً فأعنه كي يتخلص ، ذهب الملك وألقى ( حسن ) بالحبل إلي فاستطعت الإمساك بالحبل والتخلص من تلك الهلكة ٬ ولما تجاوزنا المستنقع سألت ( حسن ) : ما هو مراد الملك من القول : هذا الحبل كان هو قد أرسله ؟
قال ( حسن ) : لو أنك تتذكر ٬ قبل عشر سنوات من موتك قمت بتشييد مدرسة يتعلم فيها الأطفال الآن ٬ فخيراتها هي التي أدّت إلى خلاصك من هذه المحنة وحضرت عندك لتنقذك .
أيدت ما قاله ( حسن ) ثم قلت متبختراً : قبل خمس سنوات قمت بتشييد مسجد ٬ فأين أصبحت خيراته ؟
ابتسم ( حسن ) وقال : بما أن بناء المسجد كان رياءً ومن أجل الشهرة وليس في سبيل ا لله فإنك قد تلقيت الأجر من الناس . قلت : وأي أجر ؟
قال : المدح والثناء من قبل الناس ٬ تذكر ما كان يدور في قلبك حينما كان يمدحك الناس ٬ لقد كنت تقدم رضاهم على رضى ربك ٬ واعلم أن الله إنما يتقبل الأعمال التي تؤدى لأجله وحسب .
استحوذت عليّ حالة من الحسرة و الندامة من ناحية ٬ ومن ناحية أخرى شعرت بالخجل وأخذت بتوبيخ نفسي : أرأيت كيف ضيعت أعمالك بالرياء وحب الذات في حين كان باستطاعتها إغاثتك في مثل هذا اليوم ؟
... موكب الشهداء ...
واصلنا سيرنا في وسط صحراء مترامية الأطراف ٬ ولم تخف حرارة الجو أبداً واستولى عليّ الإرهاق ولم يبق عندي قدرة على مواصلة الطريق .
في تلك الأثناء سمعت أصواتاً فأدرت برأسي نحو يمين الصحراء ٬ فشاهدت منظراً مثيراً ٬ إذ رأيت مجموعة من الناس قد اخترقت الصحراء ومضت بسرعة فائقة ولم يخلّفوا وراءهم سوى الغبار ٬ فتوقفت متعجباً وأخذت أنظر إلى الغبار المتطاير ٬ ثم حركني ( حسن ) فانتبهت على نفسي ٬ وأردت أن أسأله فسبقني ( حسن ) وقال : هل شاهدت المنظر ٬ قلت : ومن هؤلاء ؟
قال : هؤلاء زمرة من الشهداء .
قلت مذهولاً : الشهداء .
قال : نعم الشهداء .
قلت : وأين يريدون ؟
قال : وادي السلام .
فأدرت برأسي نحو ( حسن ) متعجباً وقلت : وادي السلام !
قال : نعم ٬ وادي السلام .
قلت : لقد ذللنا هذه المسافة الطويلة بما فيها من مشقات ومحن كي نسعد يوماً بالوصول لوادي السلام ٬ وها أنت تقول أن هؤلاء يتوجهون نحو وادي السلام بهذه السرعة ٬ فهل هنالك فارق بيننا وبينهم ؟
فطبعت ابتسامة على شفتي ( حسن ) وقال :
بين قمري وجرم القمر **** فرقٌ بين السماء والأرض
ثم واصل كلامه : لقد عبدت الله في الدنيا على عجل فعليك الآن أن تقطع الطريق بمشقة وصعوبة ٬ أين أنت من الشهداء فالشهيد ذنوبه تُغفر بمجرد أن تسقط أول قطرة من دمه على الأرض وتذلل له الطريق .
وفي يوم القيامة أيضاً أول من يدخل الجنة الشهداء ٬ فإنهم قطعوا طريق مائة عام في ليلة واحدة ٬ و هاهم اليوم يقطعون وادي برهوت في طرفة عين .
فغبطت الشهداء على منزلتهم وأخذت أردد : طوبى لهم وحسن مآب .يتبع ان شاء الله