تَحَرّر الذّكرَيَات

119 26 6
                                    


نُورٌ سَاطِع شقّ طرِيقَه نَحوَ حدَقتَيّ فكَادَ يُغشِيهُما،  وَضعتُ يدِي أَمامَ ناظِريّ و خَطوْتُ نَحوَ النّافِذة،

وَ كَكلّ مرّة، تَبخّرت الأَجسَامُ مِن حَولِي و تَحوّلَت إلَى ذرّاتِ غُبارٍ تَطفُو فِي الهَواء،

لَم تَختَفِ وِجهَتِي، حتّى عِندَما أَضحَيتُ وَاقِفَة قُربَها، أَرخَيتُ عَضلَاتِ ذرَاعِي و وضَعتُ كفّي علَى الإطَار الخَشبِيّ،

الأَقفَالُ مَا عَادَت مُوصَدة، و بَوّابةُ الذّكرَياتِ تَكادُ تُفتَح عَلى مِصرَاعَيهَا،

خفّت حِدّة النّورِ فأَلقَيتُ بَصرِي عَبرَ الزّجَاج، وَ سُرعَان مَا ذَرفَت مآقيّ دَمعَة مُتحسّرة،

رأَيتُه يَجلِسُ عَلى الكرسِيّ الخَشبِيّ يُطَالِع كِتَابًا، تَمَامًا كمَا وصَفتُه فِي دَفتَري،

اِختَفَى كلّ شَيءٍ مِن حَوْلِي، وَ شَيّدَت أَذرُع الذّاكِرة مَسرَحًا لِذكرَى أُخرَى عَثَرَت عَلَى طَرِيق عَودَتِها مِن عَالَم المَنسيّين، مُنذُ كُنت أُعدّها مِن المَفقودَين بَعد ذلِك الحَادِث،

أَشجَارٌ فَارِهة الطّول قَذَفت بِقمَمهَا نَحوَ الأعَالِي، و طَرِيقُ مُنعرِجٌ تَخلّلها مُحاوِطًا بُحَيرَة نقيّة مِياهُها،

اِنبَثَق مِن بَينِ الجُذُوعِ كَيُنبُوع بلّل فُؤَادِي الظّمآن لِرُؤيَتِه، و سَار نَحوِي كَسَيلٍ جَرفَ جُلّ هُمومِي و أحزَانِي،

كانَ ذلِك لِقائَنَا الأوّل،

اِضمحَلّ شَبحُ الذّكرَى مِن جدِيد فٱحتَلّ مَكَانَه آخر،

كُنتُ أجلِس قُبَالتَه، تَحولُ بينِي و بَين الرّغبَة فِي تَقبِيلِه مَائدةٌ ٱستَقرّت على سَطحِها أَطبَاقُ طعَام شَهيّة،

اِبتَسمَ لِي فشَعُرتُ بحَواسّي تتَخدّر، رَفَعتُ يدِي نَحوَه وَ تَلاعَبتُ بِخصُلاتِه السّودَاءِ بَينَ أنَامِلي، لَقَد جَرَفنِي بهَاؤُه فمَا عُدتُ قَادِرة عَلَى كَبحِ جمَاحِ نَفسِي،

صِرتُ أُدرِكُ الآن مِن أَين ٱكتَسبَ عَادَة اللعِب بِخصُلاتِي الشّقرَاء،

عَصَف النّسيمُ بِتِلكَ الذّكرَى و جَاء بِأخرَى،

كُنّا نَجلِسُ علَى رِمالِ الشّاطِئ ذَات لَيلَة أنَار القَمرُ ظلَامَها، و توسّط كبِدَ سمَائِها،

ضَربتُ قدحِي بِخاصّته و ٱحتَسيتُ كَامِل المَشرُوب فِي جُرعَةٍ واحِدة،

لَا أدرِي مَا إن كَانت طَبِيعَةُ الجَوّ مُرِيحَة، أمْ أنّ تواجُده مَعِي مَن بَثّ فِي نَفسِي الاِسترخَاء،

وَضعتُ رأسِي عَلى كَتِفهِ، و قَبلَ أَن أُسدِل جَفنيّ رأَيتُ الصّدمةَ تَعتَري مَلامِحه،

ضمَّتني إحدَى ذِراعَيه و قرّبتنِي مِنهُ أكثَر فٱندفَعتُ بِجُرأَة لَم أعهَدنِي أمتَلِكُها و ٱحتضنتُه بِكلتَا يديّ حتّى كَاد يَسقُط علَى جانِبِه،

شَعُرتُ لِوهلَة بأنّي حِزتُ علَى الدّنيَا، فتخلّيتُ عن فِكرَة الاِبتِعادُ عنهُ و تَناسَيتُ الخَجلَ الذِي اِعترانِي فَجأة،

تشبّثتُ بِقميصِه أكثَر، و غَفوتُ و رأسِي مُسندٌ علَى صَدرِه،

لكنّي سَمِعتُه يَهمِس:
«مَارِي غُولد خاصّتي مُتعبَة»

كَان بِودّي عَيشُ تِلكَ الذّكرَى مُجدّدًا، بَيدَ أنّي تلهّفتُ لِرُؤيَة التِي تلِيهَا،

وَقَفتُ علَى جَانِب الطّريق و عَينَاي مُثبّتةٌ علَى مَن يَقِف فِي الجِهةِ المُقابِلَة، يَنتَظِرنِي و ٱبتِسامةٌ تُزيّنُ ثَغرِه،

إِشارَة المُرورِ الخَاصّة بالمَارّة اِنقلَبت خَضرَاء، و توقّفَت السيّارَاتُ سامِحةً للنّاسِ بالمُرور،

مَا عَدَا واحِدة،

لَم أُبصِر هَيكَلهَا الحدِيدِيّ يَتقدّم نَحوِي بِسُرعَة فَائِقة، فَقد كُنت أَركضُ إلَى الجانِب الآخر و عَقلِي يُرتّب كَلِماتِ الاِعتِرافِ التِي أَمضَيتُ يَومِي كَامِلّا أتَدرّب عَلَيهَا،

لكنّي فِي لَحظَة غَفلَة مِنّي، وجَدتُ نَفسِي أفتَرِشُ الأَرض، الألَمُ ٱشتَدّ بِكتفِي و رأسِي، و رُؤيَتِي صارَت ضبَابيّة،

سمِعتُ صَيحَاتٍ مَذعُورَة، و رأَيُت الدّماء تُلوّث الأرضيّة،

ذلِك اليَوم، لَم تَسنَح لِي فُرصةُ الاِعترَافِ لهُ بِمشَاعِري!

(ماري غولد هو اسم يُطلق على نوع من الأزهار الصّفراء)

ما قدرت انهي الفانفيك في فصل واحد سو قررت اقسمه على جزئين،

اتمنى تكونوا استمتعتوا حتى هذا الجزء و اما عن نفسي استمتعت كثير بكتابته،

اشوفكم في الفصل القادم انشالله ❤

Through The Window | ذكريات ضائعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن