الفصل الأول

5.5K 154 18
                                    

(رنيم)

هناك ثلاثة أشياء أكرهها في حياتي. إنفصال والدَي بسببي، الطماطم في الطعام، وقدرتي على رؤية حقائق الناس من خلال عيونهم. حسناً، وكلب جارنا أيضاً، فلن أنسَ فعلته الدنيئة ما دامت آثار أنيابه تشوه ذراعي. مددتُ رأسي بحذر من فتحة الباب الضيقة و ألقيتُ نظرة على الشارع للتأكد من عدم وجوده في الخارج، ثم خرجتُ سريعاً و أقفلتُ الباب خلفي بعجلة كادت تسقط المفاتيح من يدَي، ثم و بذات العجلة بدأتُ أركض بعيداً عن شارعنا لأقصد الطريق الرئيسي حيث كان السائق ينتظرني. فتحتُ الباب الأمامي وجلستُ بجانبه، ثم ألقيتُ تحية الصباح بأنفاسٍ لاهثة دون النظر إليه. مررنا في طريقنا بثلاث طالبات أخريات قبل التوجه إلى المدرسة.
وبينما كانت الطالبات تناقش طريقة للغش في امتحان اليوم كنتُ أتأمل الطرق من النافذة غير مكترثة للامتحان. ليس فقط لأنني راجعتُ المادة بشكلٍ مقبول، بل أيضاً لأنني لدَي طريقتي الخاصة للحصول على الإجابات للأسئلة التي قد لا أعرفها، وهذا الأمر الوحيد الجيد بقدرتي على قرائة الأعين. أوقف السائق السيارة أمام مبنى المدرسة فترجلتُ وقصدتُ البوابة الرئيسية بعينين تعانقان الأرض تجنباً لملاقاة أعين الطالبات من حولي. وهذا السبب الرئيسي لعدم اكتسابي لصديقات منذ سنين، لأنني أرفض النظر للجميع. إلا جدتي. 
جلستُ على مقعدي في القاعة وانتظرتُ حتى تم توزيع أوراق الإمتحان ثم باشرتُ بحلّ الأسئلة، وحين وصلتُ إلى سؤال صعب رفعتُ يدي أطلب مساعدة الأستاذ أحمد، وحال قدومه إليّ أشرتُ إلى السؤال وقلت:

ـ ما فهمت السؤال استاذ.

ثم ركّزتُ عينَي بعينيه حين حاول توضيحه وقال بأنه لا يستطيع قول أكثر من ذلك، والحقيقة أنني لم أعد بحاجة المزيد. فأثناء شرحه مرّت الإجابة في عينيه لتظهر في رأسي كما هي ظاهرة في رأسه. قدرتي على قراءة الأعين ليست بالتعقيد الذي قد تبدو عليه للآخرين، لكنها مخيفة لهم. فأنا أستطيع رؤية ما يدور في رأس المقابل لحظة التقاء أعيننا، وتكون فكرته واضحة في رأسي وكأنها فكرتي. إتفق جميع من يعرف بحقيقة هذه القدرة على أنها نقمة، فلقد تسبّبتُ بكوارث في صغري، أهمها إنفصال والدتي عن والدي. كنتُ في الثامنة من عمري حين لاحظتُ أن والدي كان يتجنب النظر إليّ، ومن شدة فضولي بقيتُ ألاحقه وكأن اكتشاف ما يخبئه لعبة، ثم باغتُّه ورأيتُ ما حاول إخفاؤه. كانت الصورة بشعة، وحتى هذا اليوم لم تنمحي من رأسي.
اندفعتُ وقتها إلى والدتي التي كانت تعمل في المطبخ، لكنه تمكن من الإمساك بي وتكميم فمي بكفّه الكبير وهو يحذر بحزم بأن ليس كلّ شيء يُقال، وأنني لو أخبرتُ والدتي فإنني سأتسبب بخراب بيتنا. ورأيتُ في عينيه الخراب الذي يتوقعه، فأومأتُ برأسي برعب. لكن رغم احتفاظي بالسر إلا أن حالتي النفسية تدهورت وصارت الكوابيس تزورني لتوقظني كلّ ليلة عدة مرات، فلاحظت والدتي تغيّر حالي وتمكنت من سحب الكلام مني، فأخبرتها عن خيانة والدي. و حلّ الخراب...

قارئة العيونحيث تعيش القصص. اكتشف الآن